قلتُ: فلأكن واحداً منهم، من الشباب المتحمسين الذين يعرفون كيف يحيون بذكاء؛ منسجمين وظروفَ الحياة الجديدة، مرتاحين مرحين، حتي لو أفضي بهم المرح المزيف إلي الدناءة والقبح والكذب. هكذا إذن سقطت لأتآلف وحياة المجتمع العاطفي. ها أنا ذا أزحف. لذلك ربما، عن توهم ورغبة في الاندماج والتمثل بهم، أو عن سوء فهم طالما رافقني ومزقني، لم أخبرها أن ما يريحها يضجرني. كتمتُ الأمر واختنقت به. فلأعترف، كان ذلك خطئي منذ البداية. انعدام صراحتي معها، بسبب تملقي أو تخوفي من عدم تفهمها لشخصي الهوائي العابث، كشف لي عن سبب إصراري علي تقديم النصح الذي لا يكلف شيئاً، و توسلي بإبداء اللطافة التي لا يوقفها ضجرٌ ولا تعب، وهما شكلان شائعان من كذب راسخ صار جزءاً من وجهي الذي أخفيه يوماً إثر آخر تحت هكذا غطاء لعين. صبرتُ وكان صبري قناعي المتلف. متأخراً، كالعادة بعد فوات الأوان، أدركتُ أنها تريد صحبة رشيقة، هادئة، كما لو كانت الصحبة عزاء ضائعاً لوقت ميت، نزهة تلو أخري، هكذا بلا نهاية ولا غاية. يثقلني عذابي بسبب عيشي وحيداً وقانطاً، يرهقني ويشلني فأحتقر نفسي. أكتئب كلما ازداد ولعي بصحبة عاطفية، من جديد تتطلب وفاء ساذجاً ومرهقاً. وفاء سطحي خجول ومطيع هو الشكل المفروض من تحميل الوفي المخلص عبء اضطرابات خفية. أطلبها للمساكنة صارخاً في دم قلبي: المساكنة هي الحل، يا حبيبتي، فيرفضن علي الفور. لا زلن محافظات مترددات. إنهن يفضلن الزواج علي المساكنة، وفي هذا فشلي وسبب كآبتي. الزواج أأمن، الزواج استقرار. يا للنعيم العاطفي المصطفي..! رغم أن ثيابهن جديدة متكلفة، ويصرفن وقتاً غير قليل علي مد أجسادهن بمغريات فاتنة من الوشم وانتهاء بتناول الخمور العلني، ناهيك عن التأنق بالتدخين وإبداء التعاطف والدماثة وخفض الصوت حد ترقيقه الإجباري. كذلك يظهرن أصنافاً مضحكة من اللطف ومظاهر التمدن والمعاصرة الهفهافة، لا بل يدفعن الأصدقاء إلي "النضال" البخاري كما لو كان النضال ضباباً خفيفاً، أو أغنية تعكس بقايا حياة حلوة. لم نتبادل سوي فتات الضجر. كان ينبغي رمي كلمات كهذه في وجه الصداقة كما ترمي قشور البذور من بين الشفاه. حرصي يخيب دوماً علي إخفاء شخصيتي. لم تصدق واحدة منهن أنني أتسلي، أمرح لا غير. لم أسبب الضرر لأي واحدة، غير أن عدم جديتي يبعدهن عني. أعرف ما يقلنه سراً: "يصلح الفتي صديقاً عند الحاجة، عند تمكن الوحدة أو الضجر من قلب المرء. لا يصلح عاشقاً لأنه ثقيل مثل حائط، ولا زوجاً لأنه بلا بيت ولا مال". لا أختلف كثيراً عنهن، ومع ذلك فإن الأمور لا تسير علي ما يرام بيننا. إذا علمَتْ عني سوء حالي، وضعف ذاكرتي، وتشتتي، لما رافقتني. الكسل، فقط، ما يروق لي، ويفهمني. يناسبني الكسلُ، هو ما يجب ألا أفرط فيه. حينما يتحمس غالبية شعبنا الكريم إلي العمل وضرورة تأمين المستقبل، ويا له من مستقبل، فإن أفضال ومزايا الكسل تدفعك إلي التمسك حتي أسنانك بما يخالف الحماسة المعدية والنهم العام. علي عكس هذا كانت تراني. لم تعاملني بفتور. طريقة كلامها بدت أقرب إلي شكوي ساهمة منها إلي بوح متألم. يؤلمها تقوس طفيف في أعلي الظهر.لم تكن أبداً لتدرك أنني أخفف من ضعفي بمرافقتها والتجول معها. لذلك، لئلا يفضح أمري، ما كان يجب رفض أي من طلباتها، وهي غير مكلفة، خاصة تلك التي تتعلق بالتسوق الطويل، والحديث الممل عن العائلة، وألفة المنزل. أي منزل يا إلهي! كان ينبغي علي العثور علي عمل أشبه بقناع يوقف أيا كان عن سؤالي: ماذا تعمل؟ إرسال المال، المال المقدس لدي الجميع، إلي والدي في تلك الناحية العفنة النائية، كل ما أريد. لا شيء آخر. حياتي لا تهمني قيد شعرة. عندما أنجح في الفوز بقناع العمل سيكفون عن تكرار السؤال المهين نفسه: " هيه..ماذا تفعل هناك، بين أربعة ملايين بني آدم، وبلا عمل تضيع وقتك ومالك. لا منزل لك، ولا حتي غرفة، حتي الثياب التي معك لا تكفيك. الشتاء بارد وجاف هذه السنة، لن تمطر. لكنه بارد، وأنت لم تأخذ ما يرد البرد، أيها المتهور الفقير ". لوحدها تقيم المرشدة الشابة. لها بيت أشبه بنصف بيت. غرفتان مربعتان صغيرتان متصلتان ومطبخ ضيق مستطيل علي يمين مدخل قصير. النور يضيء وجهها ذي الغمازتين الذاويتين. نور ما بعد الظهيرة المخدرة، ذلك الشبيه بانحدار وتساقط منة كريهة فوق وجه كئيب. يأخذ من الغرفة الوسطي جزءاً ضئيلاً، نصف الحائط السفلي المصبوغ بكلس ناصع، وقسماً من الباب الألمنيوم الصغير. أعرف ذلك، لأنني جلست يوماً بمواجهة الحائط وكان النور الزيتي العكر بسبب لون الستارة القصيرة يمر فوق رأسي ليغرق جهة الباب. عيناها دائرتا ماء غائرتان. أنفها حاد مستقيم، وجهها منبسط ، ومثل ورقة نبات جافة ملمح شفتيها. أجمل ما فيها صوتها. نبرة يتخللها صفير ناعم. صفير يخدشه التقطع والتلعثم. أنا أفضل صحبتها، فهي جيدة في المشي لمسافات طويلة، نادراً ما تتعب. لها مزايا أخري: النظافة. أخذ حمام يومي. حرصٌ في اقتناء ملابس أنيقة مع عدم التساهل في المساومة علي الثمن. تقول: البائعون، خاصة بائعو البالة كذابون. أقول في سري: كذلك هم أغلب المشترين يا عزيزتي. أعرف أنها تعمل يومين متصلين كل