لم يترك لنا صيف القاهرة فرصة لالتقاط الأنفاس. رحيل جديد يُضاف إلي القائمة الطويلة التي دقّ بابها الملاكُ الأسود في الأسابيع الماضية. جيل كامل يبدو كأنّه يختار الموت احتجاجاً علي القبح المحيط بنا.. من المفكر نصر حامد أبو زيد إلي الشاعر عفيفي مطر والناقد فاروق عبد القادر، وصولاً إلي محيي الدين اللباد الذي غادرنا الأسبوع الماضي بعد رحلة قصيرة مع المرض. ربما كان أكثر ما ميّز اللباد هو ثقافته، لم يكن فقط مجرد صانع صحف وكتب كبير، أو فناناً للجرافيك، بل كان مثقفاً كبيراً، اهتمّ في فنه بأسئلة جريئة : أسئلة الهوية والفن الشعبي ، ومحاولة تحرير الفن العربي من التأثيرات الغربيّة باعتبار أننا نملك في تراثنا وثقافتنا الكثير مما يستحق أن نستفيد منه فنياً لنصل إلي " فهم ذواتنا وبالتالي طريقنا الخاص". وهكذا عمل اللباد علي نقد الخطاب البصري المرتبك. ثقافته تتجلي أكثر في كتبه الهامة، لا غني لأي ممن يريدون فهم أسرار الفن التشكيلي المصري والعالمي إلا أن يقرأ "نظر" ومعها " كشكول الرسام" هما ليس مجرد كتب بل "متعة لتثقيف العين، ورفض القبح". كانت أحلام اللباد أن يري في بلده متحفاً للعلامات البصرية ، لوجوهات المنتجات القديمة، والملصقات وأفيشات الأفلام، وعلامات خاصة علي فترات سابقة، وأن يضم المتحف جزءاً للكاريكاتير.. وبعيداً عن وضع المتاحف المصرية عامة _ ينبغي بالفعل العمل الجاد علي تنفيذ حلمه ، عندما عمل في كتاب عن صديقه وأستاذه الراحل حسن فؤاد اكتشف عدم وجود الكثير من أعماله، كما اكتشف في بيت الراحل، جناحاً من الرسائل البصرية _التي تحتاج إلي حفظ وأرشفة وتوثيق، ونفس الشيء بالنسبة لأستاذه بيكار، وكذلك للفنان صاروخان. ليس فقط جمع رسوماتهم بل كل ما يتعلق بالفترة الزمنية السابقة من ملصقات وعلامات وإعلانات وعلامات بصرية تركت تأثيرها في ذاكرة الكثيرين، وكثير منها موجود بالفعل لدي عائلات الفنانين ويريدون التبرع به. كان اللباد يري أن أوروبا تحرص علي جمع كل العلامات القديمة الخاصة بنا .. وجرائدنا ومجلاتنا القديمة وتحتفظ بها في أرشيفاتها بينما مصيرها النسيان والإهمال في ثقافتنا . كان يغيظه ذلك النهب المنظم للذاكرة.. وقد حكي في أحد كتبه عن إعجابه برسمة قديمة لأبوزيد الهلالي يستخدمها أحد رجال الأعمال السوريين في ملصقاته.. أرسل إليه يسأله عنها ، وأجابه رجل الأعمال السوري بأن شركة يابانية هي صاحبة التصميم ، فأرسل لليابان يسأل ، وبعد إرساله مبلغاً معيناً أرسلوا إليه الصورة. كان حلمه أن يري متحفا يجمع كل هذه الأشياء التي تتبدد .. وأن يجمع المتحف أيضا أصول رسومات الكاريكاتير للفنانين الكبار التي بددتها بعض المؤسسات الصحفية. هل يمكن أن نحقق للباد - بعد رحيله - هذا الحلم.