"طلعة البدن" هي الرواية الأولي لمسعد أبو فجر وقد نشرت في دار ميريت عام 2007 وأعيد طبعها العام الماضي (كان الكاتب لا يزال رهن الاعتقال). في الحديث عن هذه الرواية تظهر العديد من الأفكار الثابتة التي تبدو- من شدة رسوخها- وكأنها حقائق لا مفر منها. فبداية يتم تعريف مسعد أبو فجر بوصفه ناشطا سياسيا ينتمي لبدو سيناء، وهو ما يغلف الرواية فورا بمنظور أحادي لا يري فيها سوي أنها قصة عن "البدو" في صحراء سيناء، وهو ما يستدعي إلي الذهن مباشرة أعمال الليبي ابراهيم الكوني بالرغم من عدم وجود أي أساس لعقد المقارنة. فهذه المقارنة في حد ذاتها تفترض أن هناك صحراء واحدة ومركب أحادي لمفهوم البدو. باحالة العمل إلي فضاء تصوير لحياة البدو في سيناء يتم ترسيخ العمل باعتباره معبرا عن هامش: الصحراء مقابل المدينة، البدوي مقابل المصري، المرتحل مقابل المستقر وهكذا إلي آخر كل المتقابلات التي تؤكد هامشية المحكي عنهم في "طلعة البدن". بتكرار ذلك الحديث يتم التعامل مع النص وكأنه نبت شيطاني- باعتبار غياب أي تاريخ أو تأريخ أدبي لأدب تلك المنطقة- يحكي عن منطقة مجهولة خطرة- بسبب كافة الصور النمطية التي تكونت عن البدو. المثير للدهشة في عمل "طلعة البدن" هو أنه عند صدوره الأول كان يستخدم من قبل البعض للتدليل علي عدم تمام الهوية لدي البدو، وكان استخدام مفردة "الهوية" حينها مؤكدا للتنميط الذي اكتسبه البدو من كونهم "خونة" و "عملاء" و "تجار مخدرات"، وهو التنميط الذي ترسخ في الوعي المصري بفعل آلة اعلامية قوية وأمنية أقوي منها. فنشأ كل أبناء المدينة وهم يحفظون عن ظهر قلب أن البدو يكرهون "المصريين" ولديهم استعداد كامل للخيانة مقابل الولاء لاسرائيل. أقول أكد استخدام مفردة "الهوية" في الحديث عن العمل هذه الصور النمطية، فكل من تحدث عن الهوية حينئذ كان يؤمن بوجود هوية واحدة محددة ثابتة، تعبر عن رؤية أحادية لثوابت بعينها. وهو تفسير اختزالي للهوية التي لابد وأن يدخل في تركيبها عوامل جيوسياسية معقدة. جرت مياه كثيرة في النهر، وتم اعتقال مسعد أبو فجر علي خلفية رفع شعار "ودنا نعيش" ومارست الآلة الأمنية كافة الاجراءات المتوقعة منن معتنقي تلك الصور النمطية وانفجرت الأوضاع في سيناء. وبسبب الاعتقال التعسفي الذي لاقاه مسعد أبو فجر- وآخرين غيره- تحول نص "طلعة البدن" إلي دليل علي تدهور الأحوال المعيشية المجتمعية للبدو وأصبح العمل يستخدم مدخلا لمناقشة هذا التردي كما حدث في الندوة التي عقدتها دار ميريت مؤخرا لمناقشة العمل! تغير تلقي العمل بتغير ظروف الكاتب نفسه، وهو ما يؤكد معني وجود النص في العالم وارتباطه بكافة المتغيرات، الا أن هذا القول لا يكون ذي معني الا إذا كان قد تم تفسير العمل، أي أن فكرة وجود النص في العالم لا تتأكد إلا عندما تتباين التأويلات بتغير الظروف المكانية والزمانية، وهو حال الكثير من الأعمال الأدبية علي مر التاريخ. لكن أن يتغير التلقي لمجرد أن الكاتب- مسعد أبو فجر- قد عاني أشد معاناة في اعتقاله، فهذا من طبائع المجتمعات المضطربة التي تفتقر إلي رؤية سياسية واضحة، وكل ما تفعله هو أنها تنتظر ما تأتي به الرياح، وكأن معاناة مسعد أبو فجر قد أثبتت براءته من تهمة راسخة: بدوي إذن خائن. منذ البداية، كان من الواضح أن رواية "طلعة البدن" تغوص في أعماق فكرة الترحيل عبر ثلاث شخصيات رئيسة هي ربيع وعساف وعودة، والكثير من الشخصيات الأخري التي يأتي ذكرها في السرد لتكتمل الصورة. عبر توظيف كافة تقنيات الحكي الشفاهي يطرح الكاتب تفصيلا فكرة ترسيم الحدود الشرقية لشبه جزيرة سيناء منذ عهد الأتراك، وكيف غير ذلك مكان القبائل فهم تارة في داخل حدود اسرائيل/فلسطين وتارة داخل الحدود المصرية، وكيف تم انتهاك حقهم في الترحال بالرغم من ثبوت هذا الحق في اتفاقية كامب ديفيد. والأهم، أن الرواية تصور الشرخ الحادث في العلاقة بين المصريين وبين البدو، وهو الشرخ الذي يؤدي إلي انتهاكهم أمنيا بشكل فادح واضطهادهم مجتمعيا. كأن المركز يمارس النبذ والطرد بشكل منهجي وفي الوقت ذاته يطالب المنبوذ باثبات ولائه بكافة الطرق الممكنة. بالتوازي مع ذلك، يصور الكاتب أيضا الاضطهاد الداخلي في القبيلة نفسها، وبالتالي فإن بعض الشخصيات في الرواية تعاني من هذا الاضطهاد المزدوج وإذا كان الكاتب نفسه قد ذكر عدة مرات أن روايته هي "رواية حدود" فيما يعني أنها تتناول تأثير ترسيم الحدود علي وضع البدو تاريخيا ومجتمعيا فإنه قد وظف أيضا- ربما بدون قصدية- كافة التقنيات التي تجعل هذه الرواية تتخذ موضعا علي الحدود، فهناك فكرة الحكي الشفاهي المستمد من البيئة البدوية (والذي وظفه الأدب الأفريقي بكثافة) والذي يتداخل معه صوت الكاتب ليتأمل في مسار شخصياته وليعقد تشبيهات تصور الذاكرة وكأنها نظام كمبيوتر يمكن مسحه وإعادة تشغيله مثلا، وهذا الخروج عن مسار التخييل وكسر الوهم السردي يعد تقنية ما بعد حداثية بامتياز، بالاضافة إلي تشابك السرد والحكي حتي أن القاريء قد لا يمكنه تحديد الشخصية في لحظة معينة، وهذا في حد ذاته مدلول تعميم التجربة من ناحية المعاناة علي الكل. أما استخدام المفردات البدوية (التي يعدها البعض من المآخذ) ليست إلا وسيلة للحفاظ علي خصوصية المكان فهناك روايات تستخدم العامية المصرية، والكثير من الروايات الهندية والأفريقية المكتوبة باللغة الانجليزية توظف مفردات من اللغة الأم وهو ما يكسبها تميز أويجعلها علي ما هي عليه. كما أن الشخصيات في الرواية تنتقل ما بين الحدود بشكل دائم، بالاضافة إلي الانتقال إلي القاهرة (من أجل التعليم) والعودة إلي القبيلة مرة أخري، هي إذن رواية توظف المكان والزمان والأحداث في منطقة بينية تتفق تماما مع ما حدث لترسيم الحدود والتأثير الذي تركه هذا الترسيم علي البدوي الذي لا يسعي إلا إلي الحفاظ علي غنمه من أجل توفير مهر زواج أبنائه. وهو الوضع الذي يشبه تماما حال ابن المدينة الذي يسعي إلي الحفاظ علي لقمة العيش في وسط صراع علاقات قوي لا علاقة له به، وهو بالتالي ليس مسؤولا عن اسرائيل التي تريده أن يوقع علي مصالحة مع الدولة (كان للشيخ ردا بليغا علي الجندي الاسرائيلي إذ قال له أن من يملك المصالحة هو أنور السادات في مصر وحافظ الأسد في الشام) ولا عن مصر التي تريده أن يثبت اخلاصه ويعلن براءته من تهم نمطية. والحال هكذا، لا يسعنا إلا أن نقرأ الرواية بالمنظور- السياسي والنفسي- الذي جاء علي لسان الشخصيات "أشعر بالاهانة". هل كان من الضروري اعتقال مسعد أبو فجر لنقرأ الرواية كما قدمت نفسها؟