عرف الإنسان "القصة" منذ عرف أداة الإعراب عن خوالجه، واهتدي إلي الوسيلة المعينة علي الكشف عما يدور في نفسه ويختلج في صدره: بالإشارة والرسم والنقش وبالألفاظ. وما من حديث بين اثنين إلا وهو قصة أو سلسلة من القصص. فما يخلو الكلام من سرد حادثة، أو وصف موقف، أو تصوير سلوك، أو بيان لوقع أمر من الأمور، وكيف تلقته النفس، وكيف كانت استجابتها له، أو إيضاح لحركة العقل أو النفس. وليست القصة الفنية إلا هذا: حادثة تروي أو تعرض، وبيان للذين وقعت لهم ورسم لشخصياتهم وتصوير لسلوكهم، وجلاء للبواعث لهم علي ما يصدر عنهم، ووصف لتفاعل المؤثرات المختلفة في نفوسهم، وللتفاعل بينهم وبين سواهم. والقصة الموضوعة علي النسق "التمثيلي" راجعة في مرد أمرها إلي "الحوار" بين الناس في مجالسهم أي إلي الحديث. وهذا أصلها. ولما كانت تقوم علي "الحوار" وحده فإن رسم "الشخصيات" وما يلحق بها يستخلص من الحوار، علي خلاف القصة المروية، فإن صاحبها يسرد الحكاية، ويعني مع السرد برسم الأشخاص ، ووصف سلوكهم وسيرتهم، وحركات نفوسهم، إلي آخر ذلك. ولما كان هذا هو أصل القصة، وكانت لهذا جارية مع مألوف الإنسان في حياته، فإنها تبدو أسهل علي من يعالجها وأيسر وأقرب منالا. ولهذا يعظم الإقبال علي كتابة القصة بنوعيها في كل أمة. وفي كل بلد تخرج المطابع من القصص أكثر مما تخرج من ألوان الأدب الأخري، لأن الأولي جارية مع طبيعة الإنسان ومألوفة. ولكنها ليست من أجل هذا أسهل في الحقيقة. وما أقل القصص التي فازت بالخلود وكتب لها البقاء علي الزمن. وذلك لأن الأمر فيها ليس أمر سرد لحادثة، بل أمر تصوير للحياة من ناحية أو أكثر من نواحيها، وتصوير الحياة أو إحدي نواحيها يتطلب خبرة بها وفهما لها أو فطنة طبيعية تغني عن التجربة والمعاناة. والخبرة وحدها لا تكفي، بل لابد إلي جانبها من القدرة علي الأداء. وتلك ملكة أخري مستقلة. ولقد أطلعني الأديب الفاضل "عادل كامل" علي قصته التي يراها القراء بعد هذه الكلمة، فقرأتها بسرور وشجعته علي نشرها. ولا أحب أن أوجه القارئ إلي رأي فيها. فليقرأها غير متأثر بما عسي أن أكون قد ذهبت فيها إليه، فإن هذا خير له ليعتاد الاستقلال في الرأي، وليس الغرض من المقدمات التأثير في القراء وحملهم علي مشايعة وجهة نظر بعينها، بل التشجيع علي القراءة والاطلاع. وليكن رأي القارئ بعد القراءة ما شاء في هذه القصة، فإني واثق أنه لن يشعر بأن ما أنفقه من وقت ومال قد ضاع عليه.