أستأذن القارئ الكريم في أن أؤجل ما كنت قد بدأته في الأسبوع الماضي عن بيروت، علي أن أقوم بهذا- إذا امتد الأجل إلي الأسبوع المقبل، لأن إلقاء القبض علي نقيب الصحفيين واثنين من أعضاء مجلس النقابة أمر يفوق التصور، بل لعب بالنار، حتي علي الرغم من خروجهم بكفالة بعد أن يدفع كل منهم عشرة آلاف جنيه، ليس لأن علي رأس الصحفيين ريشة طبعا، كما أن من حق النيابة أن تحبس الناس وتقرر الكفالة المطلوبة، وتقدم البعض في قضايا كما يحلو لها، وكله بالقانون طبعا. لكنني أدعو فقط لإعادة قراءة ما كانت النيابة تفعله في عشرينيات القرن الماضي، وتحديدا محضر التحقيق الذي أجراه محمد بك نور مع طه حسين إثر البلاغ المقدم ضده بعد صدور كتابه عن الشعر الجاهلي, التحقيق مناقشة فكرية معمّقة، رجع فيها نور بك قبل التحقيق لمراجع وأصول ليجري تلك المناظرة ويحاور المتهم، علي الرغم من أن الاتهام الموجه لطه حسين كان يتعلق بالتجديف في الدين.واختتم نور بك المحضر علي النحو التالي: وحيث أنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي علي الدين، بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها علي سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها .وحيث أنه مع ذلك يكون القصد الجنائي غير متوافر، فلذلك يحفظ التحقيق إداريا . أعرف طبعا أن الفارق بين ما يجري هذه الأيام، وماجري أيام طه حسين يقترب من قرن من الزمان ..نعم قرن من الزمان.وأعرف أيضا أن النقيب والزميلين من أعضاء مجلس النقابة ليسوا طه حسين، وأعرف أيضا أن القضيتين مختلفتان تماما، لكنني أعرف أيضا أن النيابة هي التي قامت بتحويل دعوي الحسبة التي رفعها أحد المواطنين الذي شعر بآلام شديدة إثر قراءته لفصل من رواية منشور في أخبار الأدب، تحويله للمحكمة، كما أن النيابة أيضا هي التي استأنفت بعد الحكم بالبراءة، ولم تهدأ إلا بعد صدور الحكم بسجن أحمد ناجي عامين، وهي تملك قانونا أن تأمر بعدم تحويل البلاغ للمحكمة بوصفها ممثلة للمجتمع. ويستمر المسلسل غير المبرر أو المفهوم، فالنيابة أيضا هي من قامت بتحويل الدعوي المقامة ضد إسلام بحيري وفاطمة ناعوت، وهي التي أمرت بحبس متظاهري جمعة الأرض وتحويلهم للمحاكمة، ولم تأمر في الوقت نفسه بتحويل "المواطنين الشرفاء"، سواء في جمعة الأرض أو بعدها في قضية اقتحام الداخلية لنقابة الصحفيين، تحويلهم للمحكمة، فهؤلاء وأولئك قاموا بالتظاهر دون تصريح. لن أضع علامات تعجب لأن الأمر يتجاوز مثل هذه الأساليب الكتابية:الحلال ياحضرات بيّن والحرام بيّن، والكيل بمكيالين واضح علي نحو فاضح، وإذا كانت النيابة حوّلت زملاءنا في مجلس النقابة، فلماذا لا تحوّل مكرم محمد أحمد وإبراهيم نافع اللذين سبق لهما أن ارتكبا الفعل نفسه. حسبي الله ونعم الوكيل.. يسلكه الحجّاج في رحلاتهم إلي ميناء عيذاب. تَلقي علومه الأوليّة في مدارسها حتي المرحلة الثانوية، ومنها إلي كلية الآداب جامعة أسيوط آنذاك وحصل علي ليسانس الآداب الممتازة عام 1981، وهو ما أهّله إلي أن يلتحقَ بالكلية معيدًا. وأثناء دراسته الجامعية تلقي تعليمه علي يد أعلام كانوا يَفدون إلي فرع الجامعة بقنا (أسّسه الدكتور إسماعيل معتوق)، مثل :الدكتور مصطفي هدّارة ومحمد رزق الخفاجي، وعالم اللغويات البدراوي زهران رحمهم الله والطاهر أحمد مكيّ أمدّ الله في عمره، والأخير من شدة إعجابه بتلميذه، عندما ترشّح لعضوية مجلس الشعب ترشّح عن دائرة مركز قنا وقفط. كما رافق مِن الأصدقاء مَن صاروا اليوم نجومًا مثل الدكتور مأمون فندي أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون ومدير برنامج الشرق الأوسط وأمن الخليج بالمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بلندن. نَالَ درجة الماجستير عام 1985 في موضوع »دور الشعراء في تطور النقد الأدبي القديم«، وبعدها أعدّ موضوع الدكتوراه عن »قضايا النقد والبلاغة في تراث أبي العلاء المعري« وأثناء إعداده للدكتوراه ارتحل إلي ألمانيا مُبْتَعَثًا إلي جامعة بون بالاشتراك مع جامعة أسيوط، حيث حصل علي الدكتوراه عام 1990، عاد بعدها ليعمل مُدرسًا في كلية الآداب بقنا، وجامعة Bochum بألمانيا في ذات الوقت. ترقي في كليته من رئيس القسم إلي وكلية الكلية ثم اُختير عميدًا للكلية، وكان متحدثًا باسم رئيس الجامعة، كما أُعِيرَ للعمل بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الإمارات العربية المتحدة حتي 2006، ورافقه هناك الدكتور عصام الدين بهيّ في رحلة علميّة أثمرت الكثير من النتاجات الفكرية، وبالإضافة إلي عمله الأكاديمي كان يُشارك في الأنشطة الثقافية والبرامج التليفزيونية هناك. موت النص تنوّعت كتابات الدكتور محمد أبو الفضل بدران ما بين أعمال شعرية، حيث صدر له ديوان »النوارس تحكي غربتها« 1991 وهو الديوان الذي يحكي فيه أثر تجربة الغربة في ألمانيا، ثم ديوان » مُعلَّقة الخروج« 2001، وأخيرًا»اديوان بدران« وهو يضم العمليْن الأولييْن مضافًا إليهما قصائد أخري نشرها في الدوريات المحليّة والعربيّة. وعن بداياته الشعرية يحكي أنه في أثناء مرض الشاعر أمل دنقل زاره في المستشفي وكان الشّاعر الكبير مُتابعًا لما ينشره في مجلة الكاتب، بل إنه صحّح له بالقلم بعض ما زلّ فيه. وإلي جانب إبداعاته الشعرية ثمّة اهتمامات نقدية وبحثية، منها كتاب "رؤي عروضية؛ محاولة نحو تبسيط العروض"، ورؤي هو الاسم الذي اختاره لابنته الكبري انصافًا للهمزة المهدرة. في هذا الكتاب يقدّم إضافة جديدة لبحور الخليل، بل يتحلّل من بعض منها، كما يتميّز بأنه كتابٌ تعليمي في المقام الأوّل حيث يعتمد في التطبيقات علي نصوص شعرية حديثة، ومن أعماله النقدية أيضًا كتابه »موت النص جدلية التحقيق والتخييل في النّص الشّعري في ضوء النقد الأدبي القديم والشعراء النقدة«، وقد صَدَرَ ضمن مطبوعات حوليات كلية الآداب جامعة الكويت،عام 2004، يتعرّض فيه إلي ماهية النص في التراث النقدي القديم، مرتكزًا علي تشكيل النص قُبيل كتابته، وكيف عبّر الشعراء عن هذه المُعاناة بين النص المنشود والنص المكتوب، كما يتناول النص المنقود الذي يتحوّل إلي نصوص متوازية يُنتجها المتلقي بحسب ثقافته وقناعاته وتأويله يستهدف من وراء هذه الدراسة استجلاء بعض القضايا المتعلِّقة بالنقد الأدبي مثل طقوس التأليف والإلهام والسّرقات وعبيد الشعر في ضوء ما "قبل" النص و"آنه" و"ما بعده". كما يرمي في أحد أسمي غاياته إلي الإجابة عن: ما فِعل النَّص؟ وهل نستطيع أن نصف النَّص بأنه أحادي؟ وكيف يوجد النَّص؟ وما النتائج المترتبة علي نقد النَّص من قِبَل المبدع؟ ثم كيف يتطوّر النص الأدبي بعد إبداعه؟ مُبتغيًا من وراء هذه الأطروحات استكناه مجاهل النَّص في محاولة لفهمه، وتحليل طُرق إبداعه للوصول إلي كينونة النًّص وماهيته؛ في ضوء النقد الأدبي القديم والشعراء النقدة. ولم يقتصر في دراسته للظاهرة علي الشعر القديم، بل تتبع هذه الظاهرة في نقدنا الحديث أيضًا. وفكرة موت النص عنده بمعني أن النص الأصلي يموت ليُبْعَث من جديد في نصوص ظلالية يُكوِّنها المتلقي كيفما يشاء. وهناك أيضًا كتاب »أدبيات الكرامة الصوفية« وفي هذا الكتاب يحلّق الشاعر مع الكرامة الصوفية وحكاياتها، جامعًا لها بين الشفاهي والنثري، ويقول في مقدمته أن هذا البحث لا يهدف إلي الوقوع في جُبّ التساؤل حول وقوع الكرامات أو عدم وقوعها، بل يتجاوز هذا. ويتناول أهم مصادر الكرامات التراثية والمعاصرة، وكذلك موقف المستشرقين منها. مناقشًا موقف المذاهب والفِرَق الإسلامية منها، ولا ينسي أن يحلِّلَ شخصيات الكرامة كالمؤلف والراوي ومحقّق الكرامة وشهودها، دون أن يغفل وظائف الكرامة في إثبات الولاية والتنفيس الإبداعي عن أفراد المجتمع وكذلك الكرامة التعليمية. كما تحدّث في فصل مستقل عن صور الكرامات، ثم درس الزمن والرؤيا والتناص. أسطورة الخضر لا يقف الدكتور بدران في كتاباته النقدية عند النظرية النقدية وأطروحاتها، بل يقدّم النظرية من خلال النصوص المختلفة، وكأنّه يحرص علي أن يطوِّع النظرية الصِّرفة إلي سِياق إبداعي، يمزج بين النظرية والتطبيق، فهو يري أن »النقد رؤية إبداعية وأن الإبداع رؤية نقدية، وأن المُتلقي يمتلك هاتيْن الرؤيتيْن« وهو الأمر الذي كان يحرص عليه في محاضراته للطلاب حيث دائمًا يردّدُ »أن المحاضرة محاورة« وليست قائمة علي التلقين، فدور المُدرِّس هو توجيه الطلاب وليس حشوهم بالمعلومات مثل آلة التسجيل. يعود مرّة ثانية إلي العالم الصّوفي، في كتابه الخضر في التراث العالمي فيقدّم دراسة علمية مميزة عن أسطورة سيدنا الخضر سَاعيًا للكشف عن غموض الشخصية وكراماتها، كما يُفسِّر أسباب ثرائها وتقاطعاتها في التراث الثقافيِّ والإنسانيّ بصفة عامة، وتجلياتها في الإبداع علي المستوي المحليّ والعالميّ، من آداب مُختلفة دلّلت عليها إطراد حضور الشخصية في كافة الآداب واللغات المُختلفة، ويري نظرًا لانشغال الناس بشخصية سيدنا الخضر في حضوره وغيابه، هو ما كان له دوره البالغ في استحضاره في مخيالهم والقصص التي حِيكت عنه، وعن خوارقه أو كراماته. لم ينفصل عشقه عن التراث بكافة أشكاله فقام بتدشين »مؤسسة بدران للحفاظ علي التراث، وهي مؤسّسة تُعني بالحفاظ وجمع التراث المادي والشفاهي«. شغل الدكتور بدران في عام 1998 وظيفة وكيل كلية الآداب بجامعة جنوب الوادي، ومنذ 2006 عُين عميدًا لكلية الآداب بقنا جامعة جنوب الوادي، كما حصل علي جائزة مؤسسة Humboldt العالمية، وَرُشح كتابه »أدبيات الكرامة« إلي القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد عام 2014، في حقل الدراسات النقدية. وهو عضو اتّحاد أدباء مصر، وعضو لجنة تحكيم الأعمال الشعرية في جائزة أندية الفتيات بالشارقة، وعضو لجنة تقويم (المحكمين) كتاب للنشر ضمن إصدارات مركز زايد للتراث والتاريخ، كما إنه اُختير مؤخّرًا كعضو في لجنة تحكيم جائزة الشيخ زايد في دورة 2015، كما شَارك في العديد من الندوات في مصر وخارج مصر. تُوٍّجَتْ هذه المسيرة الناجعة باختياره الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة، خلفًا للدكتور محمد عفيفي الذي استقال من منصبه عبر تدوينه علي الفيس جاء فيها »الأستاذية أبقي من أي منصب«، خاصّة بعد تجاهل الوزير السعي في إجراءات التمديد، وهو ما كان معناه أن الوزير الجديد يختار رجاله. وهي المرة الأولي التي يُسند فيها المنصب إلي واحدٍ من أبناء الجنوب. وفي ظلّ الصّراعات التي يشهدها المجلس يكون المنصب تكليفًا لا تشريفًا حسب تصريحاته بعد الاختيار، لكن ما أن تغيّر الوزير وأُسندت الوزارة إلي الصحفي حلمي النمنم، قام بإجراء تعديلات، وتم انتداب الدكتور أبو الفضل للهيئة العامة لقصور الثقافة لفترة وجيزة، ثم تم ابعاده عن طريقه، بعدما وضع الدكتور يده علي بؤر الفساد في الهيئة. الآن عاد الدكتور إلي موقعه الأثير أُستاذًا في الجامعة دون أنْ يتخلّي عن دوره التثقيفي والطليعي، الذي لم تمكنه البيروقراطية الإدارية مِن تنفيذه، رغم تَشَدُّق المسئولين بوجوب نشر الفكر والثقافة في جموع الشباب؛ لمجابهة خفافيش الظّلام الذين تسللّوا في غفلة إليهم وإلي المجتمع، واحتلوا وجاهة الصورة وعلو الصوت بتكفيرهم كل مَن يُخالفهم.