في ظِل الإحباطات التي تكتم علي أنفاسنا، وجبال الغيم الأسود التي تحجب عنا رؤية أي بادرة أمل في غد أو قادم أفضل، إلي أن وصلنا إلي مرحلة تبلّد الأحاسيس، أو ما يشبه الكابوس، لا أجد لديّ، وهذا شيء محزن للغاية، أية رغبة في أن أقرأ شِعرًا، إلا نادرًا وفي حالة مزاجية خاصة. ونتيجة لهذا كثيرًا ما أبدأ قراءة ديوان ثم أتركه من صفحته الأولي. غير أن ديوان "رقعة شطرنج" للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد، والصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب ضمن سلسلة إبداع عربي، أَمْسك بي حتي انتهيت من قراءته في جلسة واحدة، إذ يُشيد فيه كاصد عالمًا شعريًّا جميلا رغم ما فيه من حزن وبكاء (بسعفة أسوق الكآبة إلي حظيرتي/ راضعًا/ ثديها الحزين)، وصدامات بين نقائض شتي، مثل الأبيض والأسود، الضوء والظلام، الحضور والغياب، الضحية والجلاد، القتلة والأطفال الأبرياء، الأشباح التي تختفي والواضحين، العبد والسيد، الكبار والصغار. في رقعة شطرنج هناك أربع كلمات تحضر بقوة وهي: النافذة، المقهي، الشرفة، المرآة. كما يَحْفُل بالعديد من الأسئلة التي تتعلق بالإنسان حياةً ووجودًا، ولا يحاول الشاعر أن يذكر إجابات لها، إذ يستعصي بعضها علي الإجابة. هنا نجد أن النافذة بديلًا عن الحرية التي يبحث الشاعر عنها ولو من خلال نافذة متناهية الصغر، حتي لتبدو نافذة السجين وكأنها أرحب نوافذ الكون عمومًا: "نافذة السجين/ ما أرحبها؟" ليس هذا وحسب، بل تحول العالم كله في نظر كاصد إلي نوافذ مرة تَحْضُر، وتغيب أخري: "صرخات/ من يطلق الصرخات/ في غياب النوافذ؟" وما أوحشها تلك النوافذ التي لا تُفتح أبدًا. كاصد لا يري النوافذ بالطريقة نفسها، فهناك نوافذ تدخل الأشباح من خلالها ولا تدخل من الأبواب، وهناك نوافذ المستشفي التي تزينها الأزهار ويري فيها وجه أبيه، وهناك النافذة المغلقة التي يطل منها الناقد التعيس، وهناك البيت الأعمي لأنه بلا نافذة، وهناك النوافذ التي لا تنفتح إلا عند مرور العاشق، وهناك النافذة التعيسة التي لا تجد أحدًا لتكلمه سوي الحائط، وهناك نافذته الخاصة التي يتبرأ منها: "أنا عبد الكريم كاصد/ أتبرأ من نافذتي" في رقعة شطرنج نجد أيضًا أن الغياب بديل عن الغربة التي اُضطر الشاعر ذات زمان إلي أن يعيشها ويتجرع مرارة كأسها وحنظلها، حتي أنه يشعر وكأنه وحيد في صحراء شاسعة مترامية الأطراف وليس فيها سواه، وها هو يصف نفسه بالغروب: "ما الذي يفعله الغروب/ وحيدًا/ في الصحراء؟" وليس هناك أدل علي تأرجحه مغتربًا بين بلدان شتي من قوله: "أنا الطائر في الهواء أبدًا/ ولا مستقر هناك". غير أن حالة الغياب / الغربة هذه تتلبس الشاعر في كثير من نصوص الديوان: "مقهًي عند الجسر/ تؤمّه القوارب فجرًا/ تنتظر/ تنتظر/ ثم ترحل فارغة/ دون مجاذيف/ أين تُري ترحل القوارب؟" في رقعة شطرنج لا يحتفي كاصد بالنوافذ وحدها، كونها عيونًا تبص علي ساحات الحرية وعلي الفضاء المفتوح اللا متناهي، بل يضم إليها المقاهي التي يحط عليها الغرباء ذات ترحال ثم سرعان ما يعاودون السفر والترحال إلي وجهة الله وحدها الذي يعلمها: "هنا المقاهي بعدد الأرصفة/ أنا وظلي/ كثيرًا ما نقتسم طاولة وحيدة/ دون أن نمل الانتظار/ انتظار من؟/ أحيانًا يغادرني ظلي/ فلا أكترث/ أن يغادرني ظلي!" المقهي يمثل كذلك لدي كاصد رمزًا لحلم بعيد المنال، قد لا يصل إليه مهما حاول وسعي: "أوه.. يا لذاك المقهي/ كم يبدو بعيدًا!/ كيف تري أجتاز إليه صحاري سنواتي/ لألامس سدرته الواقفة أبدًا/ عند الباب" كذلك تثبت المرآة حضورها الطاغي في هذه النصوص دالة علي الوجه الآخر للواقع: "مرآة واحدة/ ظل واحد/ لمن المرآة/ لمن الظل؟" "لو كان ثمة مرآة للشر/ لا تعكس إلا ما هو شرير/ ومررنا بها أنا وأنتَ/ ماذا ترانا سنبصر؟" هذه الحالة التي يعيشها الشاعر تجعله في حالة عدم اتزان مشوشة علي رؤيته للأشياء وحكمه عليها: "كثيرًا ما يخونني المشهد/ فلا أدري إن كانت الشرفة/ تطل علي بحر/ أم صحراء" كاصد الذي يهدي إحدي قصائد "رقعة شطرنج" إلي سعدي يوسف وأخري إلي طارق الطيب، يُطعّم بعض نصوصه بذكر آخرين يحضرون في ثناياها منهم محمد خضير، عبد الأمير الحصيري، صالح الشايجي، لاسيه سودربرج، ياسين عدنان، آرنيه يوهانس ومحمود درويش. وبعد.. أري أن رقعة شطرنج هو واحد من الدواوين الشعرية التي تستحق أن تهتم بها قراءات نقدية عديدة، وما كتبته هنا ليس سوي لفْتٍ لانتباه الآخرين، ربما لا يصادفهم الحظ ليقع ديوان "رقعة شطرنج" بين أيديهم، في ظل زحمة الكتب التي تخرج من المطابع كل فمتوثانية.