يمكن القول باطمئنان شديد، إن ملتقي الرواية العربية الذي نظمته الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية أشكال وألوان ،والمنعقد في بيروت في الفترة بين 29إبريل و2 مايو، إنه نجح علي مستويات عديدة، ربما كان من أهمها هذا التنوع والحيوية المدهشة، ليس فقط فيما يتعلق بتنوع الروائيين المشاركين واختلاف التيارات والرؤي ووجهات النظر بينهم، بل أيضا فيما يتعلق بالمحاور الخمسة التي طرحها منظمو الملتقي، ونوقشت وقُدمت أوراق بشأنها من جانب نحو ثلاثين كاتبا، علي مدي ثماني جلسات. اللافت للنظر أن الجمعية التي نظمّت الملتقي هذا التنظيم الدقيق الاحترافي، هي في نهاية الأمر جمعية صغيرة أهلية، لكنها أدارت كل هذا الجهد بكفاءة قد لا تتوافر لمؤتمرات أخري ترعاها دول ومؤسسات رسمية.الجدية والدقة ورغبة الجميع في مناقشة حقيقية وجادة كانت هي الملامح البارزة، كما شارك في الجلسات عدد قليل من الجمهور وصل في بعض الجلسات إلي ما يزيد علي الثلاثين وشاركوا في النقاش الدائر. وحسبما أشارت كريستين طعمة رئيسة الجمعية في كلمتها في افتتاح الملتقي، فإن الصعوبات التي واجهت انعقاده تعكس إلي أي مدي انحدرت أحوالنا، حيث مُنع أو تعذّر حضوره بسبب الحروب أو تدخل سلطات الأمن عدد من الكتاب سواء من اليمن أو العراق أو سوريا أو الكويت. أما الروائي أحمد ناجي فقد حرره الملتقي من سجنه، وأطلق سراحه نحو ساعتين، في جلسة تم خلالها قراءة صفحات من روايته "استخدام الحياة" التي سُجن بسببها.وكان مقررا حضوره وتحدد موعد الجلسة التي يشارك فيها قبل محاكمته، لهذا فإن ناجي كان حاضرا بالفعل معنا رغم غيابه القسري. من جانب آخر، حرص منظمو الملتقي علي تمثيل كل التيارات الفنية والأدبية، وليس التمثيل الجغرافي، لذلك وجّهت الدعوة لكتاب مهاجرين أو يعيشون في الخارج .فالروائية العراقية إنعام كجه جي جاءت من فرنسا، والسورية مها حسن من فرنسا التي هربت إليها بعد الحرب، والعراقي علي بدر جاء من بلجيكا التي هاجر إليها، وميرال الطحاوي جاءت من الولاياتالمتحدة حيث تشتغل بالتدريس في إحدي جامعاتها، كما جاءت مني برنس من أسبانيا حيث تعمل أيضا بالتدريس، وكذلك الكاتب والمترجم العراقي صمويل شمعون جاء من لندن التي يعيش فيها. وتعكس كلمات الدعوة التي أطلقتها أشكال وألوان لجمع هذا الملتقي، تعكس إدراك منظموه لأهمية وتأثير الرواية العربية في الوقت الحالي، بل يري المنظمون أنها اليوم واجهة الثقافة العربية، وكتّابها الأبرز مكانة وحضورا، وطباعة الروايات ونشرها وتوزيعها أصبحت هي العمل الأول لدور النشر .وتضيف الدعوة إن ازدهار الرواية صاحبه أيضا ازدهار القراءة والمقروئية، وتوسع ملحوظ في سوق الكتاب العربي، وازدياد عدد الطبعات وتطور تقنيات الطباعة، والعناية الفنية بالأغلفة والورق. الملتقي إذن تناول حضور الرواية العربية علي نحو شامل، وربما كان هذا أحد الأسباب الرئيسة لنجاحه، فقد شارك ناشرون بأوراق محددة تم مناقشتها، وشارك المترجمون أيضا بأبحاث حول القضية، كما التفت الملتقي للدور الذي تلعبه الجوائز العديدة المخصصة للرواية، وتأثيرها علي إنتاجها وتسويقها وانتشارها، والأهم تأثيرها علي ذائقة القراء وميولهم . من بين مآثر الملتقي التي يجب الالتفات إليها، طرح أكبر عدد من الأسئلة، تلك هي المهمة الحقيقية لمثل هذا النوع من الملتقيات، أي طرح الأسئلة وليس الإجابة عليها، وسيلاحظ القارئ هذا جيدا في المحاور التي نوقشت. أما محاور المؤتمر فقد تنوعت علي النحو التالي: طرح المحور الأول سؤالين أساسيين، الأول ماهي أسباب ازدهار الرواية العربية كما ونوعا ومقروئية؟،والثاني هل باتت الرواية العربية هي التعبير الثقافي الأول عن التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وبالتالي هي قاطرة تطور اللغة المكتوبة. وناقش هذا المحور كل من إلياس فركوح (الأردن) وعلي بدر (عراقي يعيش في بلجيكا) ومحمد الشحات (مصر) في جلسة أدارها الروائي اللبناني إلياس خوري. المحورالثاني طرح ستة أسئلة هي :هل يمكن تعيين سمات خاصة للرواية العربية عموما، أم أن لكل إقليم أو بلد لغته وسماته و"خطه" الروائي ؟ ماهو التطور الأبرز الذي يمكن ملاحظته في تقنيات السرد بالرواية العربية ؟. إلي أي حد كان للثورات والحروب والاضطرابات السياسية دور في إعادة الاعتبار للرواية الواقعية والطابع التسجيلي للسرد؟ بل وأيضا في إعادة الاعتبار للخطاب السياسي في الرواية؟. خصوصية أدب البوح والسيرة والشهادة الشخصية والتوثيق التاريخي في الرواية السورية والعراقية؟. هل صحيح أن الرواية العربية هي أولا سيرة ذاتية واعترافات شخصية؟ هل تجاوزت الرواية العربية اليوم السجال القديم حول الثالوث المحرم (جنس ،دين ،سياسة)؟. خصص الملتقي لهذا المحور جلستين، ناقشت الأولي أوراق وشهادات كتبها إنعام كجه جي وأحمد السعداوي من العراق وكاتب هذه السطور، بينما ناقشت الجلسة الثانية أوراقا لكل من شكري المبخوت من تونس ومها حسن من سوريا ومهاجرة إلي باريس، إلي جانب شهادة من محمد أبي سمرا من لبنان.وكان مقررا من قبل أن يتحدث في الجلسة أحمد ناجي، لذلك كان هناك مقعد ظل خاليا طوال الجلسة وأمامه ورقة صغيرة عليها اسمه، كما قرأ محمد أبي سمرا وكاتب هذه السطور صفحات من روايته "استخدام الحياة" تحية له في محبسه. المحور الثالث طرح بدوره ثلاثة أسئلة: ماهو أثر ازدهار الترجمة من وإلي العربية علي الإنتاج الروائي ؟من يخاطب الروائي؟من هو قارئه الافتراضي ؟ ماهي نظرة القارئ الأجنبي للرواية العربية؟ لماذا يقرؤها ؟ ماهي أسباب إقبال الدور الأجنبية علي إصدار الروايات العربية المترجمة؟ قدمت المستعربة والباحثة الإيطالية إليزابيتا برتولي أولا شهادة وقراءة للمداخلة، أشارت فيها إلي تجربتها في العمل كمستشارة للعديد من دور النشر والمؤسسات الثقافية في إيطاليا، إلي جانب تجربتها في ترجمة أعمال روائية لإلياس خوري وجبور دويهي وربيع جابر ومحمد زفزاف. وأعقبها شهادتان من صمويل شمعون الذي يصدر من لندن مجلة "بانيبال" التي تعني بترجمة الأدب العربي إلي الإنجليزية، ومن الكاتبة المصرية مني برنس التي تم دعوتها من إسبانيا حيث تعمل أستاذا شرفيا في جامعة القلعة. المحور الرابع طرح بدوره عددا من الأسئلة عن اقتصاد الرواية والقراءة والنشر مثل: هل الرواية العربية اليوم هي أساس الصناعة الثقافية ؟وإلي أي مدي كانت الرواية العربية السبب المباشر في توسع وازدهار النشر والتوزيع والمكتبات؟ وكيف نقيّم تجربة محترفات الرواية وورشها في تطوير الكتاب الجدد؟ وعلي مدي جلستين تحدث كل من الكاتبة اللبنانية إيمان حميدان وقدمت شهادة عن تجربتها التي بدأت عام 2007 في إدارة محترفات للكتابة. كما تحدث كل من الناشرة فاطمة البودي من مصر عن تجربتها في دار العين، والكاتب اليمني جمال جبران عن تجربته الروائية. وفي الجلسة التالية تحدث الكاتب اللبناني هلال شومان، بينما تعذر وصول الكاتب الكويتي طالب الرفاعي الذي (نصحته) سلطات بلاده بعدم السفر لدواع أمنية! أما المحور الأخير فكان عن الرواية والأخلاق والمدينة وتضمن الأسئلة التالية: هل الرواية العربية هي تحديدا خطاب أخلاقي مضاد؟ هل هي انتصار لحرية الفرد وخياره؟ هل هي حصرا بنت المدينة، ووعي الطبقة الوسطي وأحوالها؟ ما الذي تغير هنا بعد مثال نجيب محفوظ؟ وعلي مدي جلستين أيضا تحدثت اللبنانية سحر مندور عن تجربتها في الكتابة، وقدمت ميرال الطحاوي الخطوط العريضة لبحث تقوم به حاليا حول الجنس كإحدي آليات المقاومة والدفاع عن حرية المرأة وأدار الجلسة الروائي اللبناني رشيد الضعيف .وفي الجلسة الأخيرة تحدث الروائي الجزائري بشير المفتي عن تجربته، بينما تحدث التونسي كمال الرياحي عن ورشات الكتابة السردية، واختتمت الجلسة الروائية اللبنانية نجوي بركات عن تجرتها في تأسيس محترف :"كيف تكتب رواية؟". ومن الجدير بالذكر أن كل وقائع وجلسات الملتقي كانت تبث مباشرة علي قناة اليوتيوب، وسوف تتولي الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية طباعة كل أوراق الملتقي في كتاب قريبا. وأخيراً يقدم كاتب هذه السطور شكره وتحيته لفريق عمل الملتقي : كريستين طعمة ويوسف بزي ومحمد عبد الله وماري نور وغيرهم ممن واصلوا جهودهم الدؤوبة علي مدي أيام الملتقي، وقبل ذلك بعدة أسابيع في إعداد البرنامج وطباعة الأوراق وغير ذلك.