في الحياة توجد أيام لايحدث فيها شيء، أيام تمر بلا ذكر، بلا أثر، وكأنها خارج الحياة. عندما أمعن التفكير أجد أن هذا هو طابع معظم الأيام، ولكننا لا نسأل كيف تركنا الأيام تمر بهذه الطريقة أمام أعيننا إلي عندما يصبح عدد الأيام الباقية لنا محدودا جدا. ولكن هكذا هو الإنسان: لايقدر ما فات إلا عندما تمر الأعوام ويصبح الشيء في عداد الماضي، عندئذ ندرك أنه كان بمقدورنا الحصول عليه، وعادة ما يكون الأوان قد فات. إن العاشر من سبتمبر 2001 بالنسبة لي، وبالنسبة لآخرين أيضا، كان يوما من هذا النوع: يوم لا أتذكر عنه أي شيء علي الإطلاق. أعرف أنني كنت في مصيف أورزينيا، وأن الصيف قد انتهي، وبدأت الأسرة تتوزع من جديد في كل اتجاه، وربما كنت أعد ملابسي وأوراقي لأعود إلي حيث بياتي الشتوي، في الهند. كنت أفكر في الرحيل بعد عيد ميلادي، ولكنني لم أكن أحصي الأيام، ومضي العاشر من سبتمبر عام 2001 دون أن أشعر به، وكأنه لم يكن له وجود في التقويم. يا للأسف! لأنه بالنسبة إلي، وبالنسبة لنا جميعا- حتي بالنسبة لأولئك الذين يرفضون حتي هذا اليوم تصديق هذا الأمر- كان ذلك اليوم خاصا جدا، أحد تلك الأيام التي كان لابد لنا أن نستمتع بكل لحظة منها. كان اليوم الأخير لحياتنا الماضية: قبل الحادي عشر من سبتمبر، قبل البرجين التوأم، قبل الهمجية الجديدة، قبل تحديد حرياتنا، قبل التعصب العظيم، قبل الحرب التكنولوجية ومذابح السجناء والمدنيين الأبرباء، قبل الزيف العظيم ونزعة التوافق، واللامبالاة، وأسوأ من كل هذا، قبل الغضب البائس والكبرياء في غير موضعها. إنه اليوم الأخير قبل أن يسقط خيالنا المحلق نحو المزيد من الحب والأخوة والروحانية والسعادة والفرحة إلي هاوية الكراهية والتمييز والمادية والألم.أعرف: في الظاهر لم يتغير الكثير، أو ربما لاشيء تقريبا في حياتنا الشخصية. فالمنبه يضرب كل يوم في الساعة نفسها، ونقوم بالعمل نفسه ومازالت الهواتف المحمولة المختلفة ترن في عربات القطار، ومازالت الصحف تصدر كل يوم بجرعاتها المعتادة من أنصاف الأكاذيب وأنصاف الحقائق ولكنه وهم لحظة الصمت، ذلك الصمت الفاصل بين رؤية انفجار من بعيد ووصول صوته الرعدي إليك أما الانفجار فقد وقع. وكان انفجارا ضخما ومريعا. وسوف يصل صوت الانفجار فيما بعد إلينا، وسيصم أذاننا، وربما اكتسحنا معه أيضا من الأفضل أن نستعد في التوقيت الصحيح، أن نفكر قبل أن نبدأ في الركض هربا، حتي ولو كان الركض مجازيا، في محاولة إنقاذ الأطفال، أو في أن نلتقط شيئا أخيرا نضعه في حقائب أيدينا. لقد تغير العالم، لابد أن نتغير نحن أيضا بدورنا قبل كل شيء لابد لنا أن نتوقف عن التظاهر بأن كل شيء لايزال كما كان وأنه يمكننا الاستمرار في الحياة، بخسة، حياة عادية. مع كل ما يحدث في العالم لا يمكن أن تكون حياتنا، ولا يجوز، أن تكون عادية، لابد لنا من أن نخجل من تلك الحياة العادية. إن هذا الانطباع بأن كل شيء قد تغير يصدمني علي الفور، اتصل بي أحد أصدقائي هاتفيا وقال لي ببساطة، أدر التليفزيون بسرعة عندما فعلت ذلك، رأيت علي الهواء مباشرة الطائرة الثانية وهي تنفجر، وفكرت بيرل هارير إنها حرب جديدة. مكثت ملتصقا بال بي بي سي بعض الوقت بالسي إن إن لبضع ساعات، ثم خرجت لأتجول في الغابة. أتذكر الدهشة التي أصابتني عندمنا أدركت أن الطبيعة لا تبالي بما كان يحدث، بدأت ثمار الكستناء في النضج، والسحب الأولي بدأت صعودها إلي الوادي في الأفق كنت أسمع صوت انحدار الشلال البعيد، كالمعتاد، وصوت أجراس ماعز جارتي برونالبا. كانت الطبيعة بالتأكيد لا تبالي بمآسي البشر، كما لو كنا لا نساوي شيئا بالفعل، وكأنه يمكننا الاختفاء دون أن نترك فراغا كبيرا. ربما لأنني قضيت معظم سنوات نضجي في أسيا، فأنا مقتنع تماما أن الكل واحد، وكما يلخص بشكل جيد رمز التاي لين ويان، ففي قلب النور بذور الظلمة، وفي قلب الظلام توجد نقطة نور، الأمر الذي تركني أفكر في أن ذلك الرعب الذي شهدته الآن.. فرصة جيدة. لقد رأي العالم كله ما حدث، الآن سيدرك الجميع، الآن سيستيقظون ليعيدوا التفكير في شيء، العلاقات بين الدول، وبين الأديان، العلاقات مع الطبيعة، العلاقة نفسها بين إنسان وآخر. كانت فرصة جيدة لنقوم بفحص للضمير، ولأن نتحمل مسئولياتنا بوصفنا رجالا غربيين، ربما نقوم بعمل قفزة نوعية في مفهومنا للحياة. في مواجهة ما رأيته للتو علي التليفزيون وما نتوقعه الآن، لا يمكن للمرء أن يستمر في الحياة بطريقة عادية، وكأنك عند عودتك إلي المنزل رأيت الماعز وهي تأكل العشب. لا أعتقد أنني في حياتي كلها جلست أمام التليفزيون مثلما فعلت في الأيام التي تلت هذا الحدث. كنت أجلس أمامه من الصباح إلي المساء، كنت تقريبا لا أنام، كنت أفكر طوال الوقت في تلك العبارة: فرصة جيدة بحكم المهنة، وأمام أي حقيقة رسمية كنت دائما أحاول رؤية إمكانية وجود أي بديل، في الصراعات كنت أحاول دائما أن أفهم، ليس فقط دوافع طرف من الأطراف، ولكن أيضا دوافع الطرف الآخر. في عام 1973، وبالاشتراك مع جون كلود بومونتي في لوموند والمصور "عباس". كنت أول من عبر خطوط الجبهة في جنوبفيتنام لأتحدث مع "العدو"، المتمثل في الجبهة الوطنية لتحرير جنوبفيتنام "الفيت كونج" علي النهج نفسه، وبغية أن نفهم الإرهابيين الذين كانوا قد حاولوا أن يفجروا البرجين التوأم في نيويورك، كنت قد نجحت عام 1996م، مرتين علي التوالي، في الدخول إلي "جامعة الجهاد" لأتحدث مع أتباع أسامة بن لادن. كنت أفكر في أنه سيكون من المفيد إعادة سرد تلك القصة باختصار، والانطباعات الناتجة عن تلكما الزيارتين، لكي نحاول تخيل العالم من وجهة نظر الإرهابيين، ولكنني لم أستطع الكتابة. في الرابع عشر من سبتمبر كان عيد ميلادي الثالث والسبعين، وهو التاريخ الذي تنتهي فيه رسميا علاقة عملي الجيدة مع مجلة دير شبيغل الألمانية، التي بدأت منذ نحو ثلاثين عاما، ولكن أصبح بالفعل منذ عام 1997م، بناء علي طلب مني، كنوع من البيات الشتوي المتفق عليه. وفي كتاب "في أسيا"، الكتاب الذي كان يجمع كل الحكايات الكبيرة والصغيرة والتي كنت شاهدا عليها، قلت بالفعل كل ما كنت أرغب في قوله عن الصحافة. ومنذ تلك اللحظة قمت بالفعل بالاعتزال عن العالم، فأنا أقصي جزءا كبيرا من وقتي في "الهيمالايا"، وأستمتع بشدة ألا يكون لدي تاريخ انتهاء لشيء سوي الطبيعة، فالظلام هو اللحظة التي أذهب فيها إلي مخدعي، وأستيقظ مع أول نور للصباح، حيث أسكن، في مكان منعزل علي مسافة ساعتين بالسيارة من أقرب مدينة أهلة بالسكان، وأكثر من ساعة سيرا علي الأقدام عبورا بغابة من الأشجار الوردية العملاقة، لا يوجد نور ولا هاتف، وهكذا لا توجد أي مصادر للشرود هنا سوي ذلك الشرود المحبب مع الحيوانات والطيور والرياح والجبال. لقد فقدت عادة قراءة الصحف، وأيضا عندما أذهب إلي أوروبا أشعر أنني أستغني عنها بكل سرور، إن القصص تتكرر، ويبدو لي أنني قرأتها بالفعل منذ عدة أعوام، عندما كانت مكتوبة بطريقة أفضل. إن الشتاء بالنسبة إلي هو أجمل فصول السنة في الهيمالايا، السماء صافية جدا والجبال تبدو قريبة جدا. وصل بي الأمر إلي أنني وضعت خطط السفر، ولكن كما يقول الهنود وهم يشيرون إلي السماء أتريد أن تضحك باغوان (الإله)؟ حسنا، أطلعه علي خططك. وهكذا قضيت عيد ميلادي في الكتابة، ولم أكتب مقالا من تلك المقالات الصحفية التي أتقيد فيها بعدد معين من الكلمات، بمقدمة جذابة تشد عين القاريء، وإنما كتبت خطابا تلقائيا كأنني أكتبه لصديق. أحب كتابة الخطابات، كنت دائما أتصور أنني لو كنت ولدت غنيا، ومنذ ثلاثمائة عام، هناك حيث ولدت فقيرا في فلورنسا، لم أكن أتمني سوي أن أسافر حول العالم لأكتب الخطابات. لقد سمحت لي الصحافة، بطريقة ما، بأن أفعل شيئا مشابها، ولكن مع تحديد المساحة، وسرعة التسليم، ومتطلبات اللغة الصحفية، والآن، أخيرا، يمكنني أن أكتب خطابات ببساطة. ذلك الخطاب الذي أرسلته من "أورزينيا"، أرسلته عن طريق البريد الالكتروني إلي فيروتشو دي بورتولي، مدير الكوريري ديللا سيرا، مع رسالة مكتوب فيها: قرر أنت، حسب الاتفاق. كنت قد تعاقدت مع الكوريري علي التعاون لعدة أعوام، ولكن عندما حان الوقت للتجديد، اخترت ألا أفعل شيئا بهذا الصدد، للسبب نفسه كنت أرفض أن أتلقي أي مقدم مادي علي الكتب التي لم أقم بعد بكتابتها. لا أريد أن أشعر بأنني مجبر علي فعل أي شيء، ولا أريد أن تكون لدي أي عقد بالذنب أو شعور بالواجب. وهكذا انتهي الأمر مع بورتولي بأننا اتفقنا علي اتفاق جنتلمان، وبهذا شعرت بأنني حر في أن أكتب عندما ووقتما وكما أريد، وهو أيضا حر بأن ينشر أو لا ينشر، ولا يقوم بتغيير شيء إلا مكان الفصلات، وهذا ما حدث بالفعل. الخطاب الذي نشر في السادس عشر من سبتمبر لم يكن بالعنوان الذي اقترحته: "فرصة طيبة"، ولكنني لم أستطيع أن أتذمر، كما لم أحتج أيضا أن أفعل ذلك فيما بعد. كان الخطاب يبدأ في الصفحة الأولي، وما تبقي منه شغل الصفحة التالية بأكملها، كان جوهر كل ما أريد قوله في ذلك الخطاب: دوافع الإرهابيين، دراما العالم الإسلامي في مواجهة الحداثة، دور الإسلام بوصفه أيديولوجية مناهضة للعولمة، ضرورة أن يتجنب الغرب الحرب الدينية، اللاعنف بوصفه حلا للخروج من هذا المأزق. ألقيت بالحجر، وانتهي الأمر بأن قمت بإعداد ملابسي وأوراقي وذهبت إلي "فلورنسا"، استعدادا للرحيل.. لم أكن متأكدا من أنني ذاهب إلي الهيمالايا، فقد كانت العودة إلي خلوتي الرائعة رفاهية لا يمكنني السماح بها لنفسي. قال "بوش" هذه العبارة: سنشعل النيران لنخرج أسامة بن لادن من كهفه. وكان يجب علي أن أقبل أن اسامة قام بإخراجي أنا من كهفي. كانت الرغبة في العودة إلي العالم، "النزول إلي السهل"، كما يقولون في الهيمالايا، عندما يذهبون للتسوق، قد جاءتني. في "يوليه" كانت قد صدرت النسخة الأمريكية من كتاب قال لي العراف" وقد دعائي الناشر لأقوم بشيء بشع يقوم به الأمريكان يدعي "jogging" أي "الهرولة" وتتمثل في "دفع" الكتاب لتسويقه بسرعة، وهو عمل يمكن ترجمته بكلمات بسيطة أن يسلم المؤلف نفسه مثل طرد بريدي في يد مجموعة من شباب العلاقات العامة غاية في المهارة والحرفية، يتسلمونك ويأخذونك من الصباح إلي المساء في السيارة، وفي الهليوكوبتر، من الساحل إلي الساحل من مدينة إلي اخري- أحيانا مرتين في اليوم- واضعين إياك أمام محاور من إحدي الصحف اليومية، لم يقرأ من كتابك إلا صفحة الغلاف فقط لا غير، وأحيانا أخري أمام مذياع لمحطة راديو لسائقي سيارات الأجرة أو محطة خاصة للساهرين، وأحيانا أمام كاميرات التليفزيون لبرنامج تليفزيوني شهير، أو تلك البرامج الأكثر تواضعا، والتي تبث في الصباح الباكر لربات البيوت. حيث يتحدثون عن القدر بين فقرتي وصفة سلطة الدجاج ونوع جديد من التزحلق المائي. لقد قمت بهذا لمدة أسبوعين، وكنت أتساءل إذا كان الأمر يستحق ذلك العناء! عدت من تلك الرحلة مصدوما، ولدي انطباع مرعب لقد رأيت أمريكا متكبرة، بليدة الحس، متمركزة بالكامل حول ذاتها. سعيدة بقدرتها وبثرائها، بلا أي تفهم ولا فضول لمعرفة ما يحدث في باقي العالم صدمتي الشعور المنتشر بالتعالي، والقناعة بأنهم متفردون من نوعهم وأقوياء، وأعتقادهم بأنهم أصحاب الحضارة الأكيدة، كل هذا بلا أي نقد ذاتي. في إحدي الليالي، وبعد لقاء حول الكتاب في معهد "سميثونيان" Smithsonian" Institut اخذني صحفي مسن، أعرفه من سنوات، لأتمشي بين الآثار المختلفة في قلب واشنطن، وخاصة ذلك المؤثر جدا لضحايا فيتنام، وذلك المسرحي والموحي لضحايا كوريا، وفي المكان الذي سيوضع فيه فيما بعد الأثر الخاص بضحايا الحرب العالمية الثانية. الفكرة الأولي التي خطرت ببالي أنه بدأ لي غريبا أن تقوم دولة شابة، مؤسسة علي أساس التطلع إلي السعادة، باختيار أن تضع في مركز عاصمتها كل تلك الآثار المكرسة للموت قال لي صديقي إنه لم يفكر في ذلك من قيل، وعندما أصبحنا أمام التمثال الضخم ناصع البياض "للينكولن"، الجالس علي مقعد كبير أبيض في نسخة بيضاء عملاقة لمبعد يوناني، قلت. وأنا أعرف أنه هو أيضا قد زار بيونجيانج (عاصمة كوريا الشعبية) يذكرني بكيم إيل سونج. شعر صديقي بالإهانة، وكأنني تحدثت بسوء عن العذراء، قائلا إننا نحب هذا الرجل امتنعت عن أن أنوه له أن أي شخص من شمال كوريا سيقول العبارة نفسها، ولكن كان هذا هو الانطباع الذي تركته لي أمريكا لم تكن المقارنة متعلقة فقط بضخامة الآثار، بل كان في واقع أن الأمريكيين بدوا لي هم أنفسهم ضحايا لنوع من غسيل المخ، الجميع يقولون الشيء نفسه، والجميع يفكرون بالطريقة نفسها والفارق هو أنهم علي خلاف الكوريين الشماليين، يؤمنون أنهم يفعلون ذلك بكامل حريتهم، ولا يدركون أن نزعتهم للخضوع تلك هي ثمار لكل ما يرون ويشربون، ولكل ما يسمعون ويأكلون. شعرت بالخوف من أمريكا، وفكرت في أن أعود إليها، ربما لأقوم برحلة لعدة أشهر أعبر فيها البلد كله، رحلة شبيهة بالتي قمت بها مع زوجتي انجيلا عندما كنت طالبا في جامعة كولومبيا، كانت رحلة يقوم بها، في الماضي، الصحفيون الاوروبيون، والذين يجلسون الآن في نيويورك ملتصقين بأجهزة الحاسوب الخاصة بهم حيث يرون ويقرؤون ما تريد أمريكا لهم ان يروا وأن يقرؤوا ليتمكنوا من استنساخه. كانت التذكرة إلي دلهي في جيبي بالفعل عندما اتصل بي صديقي المعتاد هل قرأت ما كتبته؟ من؟ فاللاتشي، لقد رددت عليك في جريدة الكوريري صباح اليوم كانت الساعة الثالثة عصرا في يوم 29 من سبتمبر واضطررت أن أتجول في نصف فلورنسا حتي اتمكن من العثور علي نسخة من الجريدة كان الجميع يريدون الصحيفة في هذا اليوم. قرأت الصفحات الأربع وشعرت بحزن شديد لقد اخطأت مرة أخري فلم تكن فرصة جيدة! كان الحادي عشر من سبتمبر هو الفرصة التي تسببت في إيقاظ الغضب. الكامن في كل واحد منا، كانت النقطة الأساسية لإجابة اوريانا ليس فقط إنكار دوافع العدو، ولكن أيضا إنكار أدميته، وهو سر انتزاع الآدمية من الحروب كلها. صدمني الرد، بل أصابني بالألم الشديد. لكل منا الحق في مواجهة تقدمه في السن واقتراب الموت، كان يؤسفني أن أري أنها اختارت طريق السخط والاستياء والندم، طريق المشاعر الأقل نبلا وأعنفها بكل أمانة شعرت بالأسي من أجلها، لأن العنف- كل يوم أزداد قناعة بذلك- يحول الجميع إلي وحوش، ليس فقط ضحاياه، بل أيضا من يمارسه. بدأت في الكتابة، كان الخطاب في هذه المرة موجها مباشرة إليها نشر الخطاب في الكوريري في الثامن من أكتوبر، اليوم الذي كانت فيه الصحف تغطيها صورتا بوش وأسامة بن لادن، كانت أمريكا قد بدأت في قصف أفغانستان. استطعت العثور علي نسخة من الصحيفة في مطار فلورنسا، كان ذلك في الفجر، وكنت في طريقي إلي باريس، ومن هناك كانت سأذهب إلي دلهي ومنها إلي باكستان. كنت قد قررت أن أنزل إلي الساحة، كنت أدفع التكاليف من جيبي الشخصي، حتي أصبح حرا بهذه الطريقة في أن أكتب أو لا أكتب كنت أشعر بأنني خفيف ولا "أمثل" إلا نفسي، وأن أجيب عن سؤال جواز السفر في خانة المهنة بأنني "متقاعد". الخطابات هي تلك التي قمت بكتابتها في أثناء تلك الرحلة الطويلة، وتشير التواريخ إلي متي وأين تمت كتابة تلك الخطابات فقط نصف ما سيلي في هذا الكتاب نشر بالفعل في جريدة الكوريري، ولكنني أريد أن أدقق بأن كل كلمة في كل خطاب أرسلته إلي دي بورتولي قد نشرها بكل أمانة. وأنا ممتن كثيرا لهذا، وأثق أن هذا أيضا شعور قرائي، حتي وإن كنت أحيانا، وخاصة بعد أن أصاب صاروخ أمريكي مقر قناة الجزيرة التليفزيوني المستقلة في العاصمة كابول، كنت أخشي أن يقع آخر، بنوايا مشابهة، علي شارع سولفيرينو في ميلانو. الشيء الواضح أنني ودي بورتولي لانتفق علي الأفكار، فهو- علي سبيل المثال- اختتم مقالته الإفتتاحية ليوم الثاني عشر من سبتمبر بعبارة مشهورة من الأرض المحتلة للولايات المتحدة في جوانتانامو في جزيرة كوبا، بينما استراتيجيات للتألف ضد الإرهاب تعمل علي اعداد عمليات هجوم أخري علي أي مكان آخر من البلاد في العالم. عندئذ أقول لنتوقف ونتأمل لتحكم ضمائرنا، ليفعل كل منا شيئا ما، وكما يقول جوفانوتي في أغنيته الشاعرية ضد العنف والتي وصلت إلي هناك حيث أسكن في الجبال لننقذ أنفسنا. لا يمكن لأي شخص آخر أن يقوم بهذا نيابة عنا. في الهيمالايا الهندية، يناير 2002م أورزينيا 14 سبتمبر 2001م: فرصة طيبة لم يعد العالم الذي عرفناه في يوم ما، لقد تغيرت حياتنا بالتأكيد، ربما كانت هذه هي الفرصة لنفكر بطريقة مختلفة عما فعلنا حتي هذه اللحظة، إنها الفرصة لكي نعيد اختراع المستقبل، وليس لنعيد صناعة المسار الذي قادنا نحو ما فيه اليوم، والذي ربما يقودنا إلي لاشيء لم يتعرض بقاء الإنسانية واستمرارها للخطر مثلما يحدث له في هذه اللحظة. ونحن علي وشك الدخول في واحدة من الحروب ينبغي أن نذكر أنه لايوجد في الحرب شيء أخطر من أن يستهين المرء بقوة عدوه، ويتجاهل منطقة، ولمحاولة إنكار من انه يمتلك أي عقل، وأن يصفه »بالمجنون«. إلا أن الجهاد الإسلامي، تلك الشبكة السرية والدولية والتي يرأسها في الوقت الحالي الشيخ أسامة بن لادن، والتي كانت بالتأكيد وراء الهجوم/ التحدي الصادم علي الولاياتالمتحدة، والتي هي بالتأكيد بعيدة تمام البعد عن ظواهر »الجنون«، وإذا أردنا بالفعل أن نجد طريقاً للخروج من نفق مُفرع وجدنا أنفسنا وقد ألقينا فيه، لابد أن نفهم حسابنا مع من، ولماذا؟ لم يستطع أي صحفي غربي قضاء وقت طويل مع »بن لادن« وأن يراقبه عن قرب، ولكن البعض استطاع الاقتراب والاستماع إلي رجاله. حدث لي عام 1995م، قضيت نصف يوم في أحد معسكرات التدريب والتي كان يمولها علي الحدود بين باكستان وأفغانستان. خرجت من هناك مصاباً بالفزع والرهبة. قضيت الفترة كلها في وسط الشيوخ، القساة والمبتسمين، وكثير من الشباب ذوي النظرات الباردة والأزدرائية، وشعرت كأنني مصاب بالطعون، أو حامل لمرض ما لم أتعاطف معه قط. في نظرهم كان مرضي ببساطة هو أنني غربي، وأنني أمثل حضارة منحطة ومادية، استغلالية، ولاتدرك شيئا عن القيم الكونية للإسلام. عثرت بالفعل علي التأكيد بأنه بسقوط حائط برلين وبنهاية النزعة الإشتراكية، فإن الأيديلوجيا المقدر لها أن تعارض النظام العالمي الجديد وأمريكا علي رأسه والذي يبشر بالسلام والرخاء في العالم المعولم، إنما هي تلك النسخة المتطرفة والمسلحة للإسلام. كنت قد استنتجت ذلك في المرة الأولي من خلال السفر في البلاد المسلمة لآسيا الوسطي والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، كنت قد شعرت بالشيء نفسه تماماً عندما قابلت المقاتلين المناهضين للهنود في كشمير، وأنا أحاور أحد قادتهم الروحيين، والذي صافحني وهو يهديني نسخة من القرآن -نسختي الأولي- حتي أتعلم منه شيئاً ما. عندما رأيت مرات عديدة- مذهولاً مثل الجميع - صور الطائرات التي تنفجر متسببة في مذبحة في وسط نيويورك، مثلما في الأيام السابقة، عندما قرأت الأخبار الخاصة بالرجال -القنابل الفلسطينيين، الذي كانوا يتسببون في نسف ضحاياهم المقتولين في شوارع إسرائيل، كنت أتذكر أولئك الشباب المنتمين إلي جنسيات مختلفة، ولكن ينتمون جميعاً، إلي إيمان قوي وحيد، والذين سبق ورأيتهم في معسكر التدريب ذلك: كانوا أناساً ينتمون لكوكب آخر، لزمن آخر، أشخاصاً يؤمنون مثلما كنا نستطيع نحن أن نفعل في الماضي، ولكننا لم نعد نستطيع ذلك، أشخاص يعتبرون التضحية بحياتهم من أجل قضية »عادلة« شيئاً »مقدساً« أولئك الشباب كانوا من عجينة نجد نحن صعوبة كبيرة في تخيلها إن استخدام السلاح بالنسبة لبن لادن ورجاله ليس مهنة، وإنما عقيدة تمتد جذورها إلي الإيمان الذي تم اكتسابه ليس فقط من المدارس القرآنية، ولكن أيضاً من الشعور بالهزيمة والعجز، لتقهقر الحضارة الإسلامية، تلك التي كانت في فترة ماتتسم بالعظمة وكانت لها مهابة يخشاها الجميع، ولكنها تظهر الآن مهمشة ومهانة من أقوي العظمي وأمام كبرياء الغرب. إنها مشكلة واجهتها حضارات أخري علي مدار القرون الماضية. واجه الصينيون، هذا الشعور بالضالة أمام »اللحي الحمراء« للإنجليز الذين فرضوا عليهم تجارة الأفيون الخاصة بهم، وشعر بها -أيضاً- اليابايون أمام «السفن السوداء« للأدميرال الأمريكي بيري، الذي كان يرغب في فتح اليابان للتجارة. كان رد الفعل الأول هو الخوف. كيف كان يمكن لحضارتهم -التي كانت لفترة طويلة أعظم من حضارة الأجانب/ الغزاة- أن يتم وضعها في مثل هذا المأزق، وأن تتحول لمثل هذا العجز؟ بحث الصينيون عن حل، خاصة من خلال العودة إلي التراث، وعندما فشل هذا الحل، لجأوا إلي طريق التحديث، في البداية اتعبوا النهج السوفييتي، ثم تحولوا الآن للنهج الغربي. أما اليابانيون، فقد قاموا بالفعل بهذه القفزة مرة واحدة، في نهاية الثمانينيات، وذلك بأن قاموا بالتقليد الاستحواذي لكل ما كان غريبا، فنسخوا الأزياء الرسمية للجيوش الأوروبية، والعمارة الخاصة بمحطات القطار عندنا، وحتي من خلال تعلم رقصة الفالس.. طرح المسلمون -أيضاً- هذه المشكلة الخاصة بكيفية النجاة في مواجهة الغرب خلال القرن الماضي، مع الحفاظ علي هويتهم الخاصة، وكانت الحلول بالنسبة إليهم تتراوح بين الاحتماء بالتراث -مثلما هو الحال بالنسبة لليمن والوهابيين -وبين الأشكال المتنوعة لتقليد الغرب، كان النموذج الأكثر جسارة وأصولية، هو ذلك النموذج الذي طبقه كمال أتاتورك في تركيا، والذي قام في العشرينيات بإعادة كتابة الدستور، نازعاً الحجاب عن النساء، ومستبدلاً الشريعة الإسلامية بنسخة من القانون المدني السويسري، ونسخة من القانون الجنائي الإيطالي، فوضع بلده علي الطريق الذي يؤدي اليوم بإسطنبول، علي الرغم من وجود بعض العراقيل، ليصبح جزءاً من المجموعة الأوروبية.