بحوث جنوب سيناء يستقبل وفود طلابية لتعزيز التعلم التطبيقي في البيئات الصحراوية    وزير الخارجية يدعو إلى سرعة تشكيل "القوة الدولية" في غزة    وزارة الدفاع الروسية تعلن استيلاء قواتها على قريتين أخريَيْن شرقي أوكرانيا    القاهرة الإخبارية: غياب الاحتفالات الرسمية بعيد الاستقلال يعكس عمق التحديات التي تواجه لبنان    وفاة نبيل خشبة أمين صندوق اتحاد كرة اليد    بذكريات الهاتريك.. مرموش يسعى لاستعادة تألقه في البريميرليج أمام نيوكاسل    تاريخ مواجهات الأهلي وشبيبة القبائل قبل لقاء اليوم    فريق قادرون باختلاف يتألق على مسرح وزارة الشباب والرياضة في أسيوط    إسلام سمير: طموحاتي اللعب للثلاثي الكبار.. وأتمنى استمرار عبد الرؤوف مع الزمالك    إيداع اللاعب رمضان صبحي في قفص الاتهام    "التضامن": بدء سداد قيمة رسوم اشتراك الرحلة من الحجاج بداية من غد الأحد    الزراعة تطلق حملات توعوية مكثفة لتعزيز الأمن الحيوي في قطاع الدواجن المصري    أكاديمية الشرطة تنظم دورة تدريبية عن كيفية كشف تزوير وثائق السفر    غرفة السياحة تشيد بجهود الأجهزة الأمنية في مكافحة عمل سماسرة الحج والعمرة    وزارة الصناعة: تخصيص 100 قطعة أرض لمشروعات صناعية جديدة في 16 محافظة    جهاز تنمية المشروعات يشارك في قمة المعرفة التي تنظمها مؤسسة محمد بن راشد للمعرفة    عاشور: زيارة الرئيس الكوري لجامعة القاهرة تؤكد نجاح رؤية الوزارة في تعزيز الشراكة العلمية    دعم العمالة المصرية بالخارج وتوفير وظائف.. جهود «العمل» في أسبوع    انتخابات النواب، إقبال متواصل للمصريين بالخارج في اليوم الثاني داخل 4 دول    رئيس الوزراء يشارك في فعاليات قمة مجموعة العشرين «G20» بجوهانسبرج    حملات مرورية.. الأوناش ترفع 39 سيارة ودراجة نارية متهالكة    خاص| لجنة من «تعليم القاهرة» تبدأ التحقيق في وقائع مدرسة سيدز للغات    وفاة شاب إثر اصطدام دراجته النارية بشجرة على طريق بحيرة قارون بالفيوم    مصرع عنصر جنائي شديد الخطورة عقب تبادل إطلاق النيران مع قوات الشرطة بقنا    سوريا.. فرق الإطفاء تكافح لإخماد حرائق غابات في اللاذقية وسط صعوبات    إنقاذ حياة مريض بعد جراحة معقدة لإزالة سدة بالشريان السباتي بمستشفى السنبلاوين    وزيرة «التخطيط» تبحث مع «بروباركو» الفرنسية خطط تمويل و تمكين القطاع الخاص    انتخابات النواب بالخارج.. إقبال كبير للمشاركة بانتخابات النواب باليوم الأخير في السعودية وسلطنة عمان |صور    إقبال المصريين على سفارة مصر بباريس في اليوم الثاني للتصويت بانتخابات مجلس النواب    ستارمر يعلن عن لقاء دولى خلال قمة العشرين لدفع جهود وقف إطلاق النار بأوكرانيا    تشيلسي في مواجهة سهلة أمام بيرنلي في البريميرليج    مخرجة لبنانية: مهرجان القاهرة منح فيلمي حياة مستقلة وفتح له أبواب العالم    بعد تصدره التريند.. موعد عرض برنامج «دولة التلاوة» والقنوات الناقلة    استخدمت لأداء المهام المنزلية، سر عرض تماثيل الخدم في المتحف المصري بالتحرير    دولة التلاوة.. أصوات من الجنة    فاركو يواجه سيراميكا بحثا عن استفاقة في الدوري    عاشور يناقش مع خبراء تطوير التعليم العالي بالاتحاد الأوروبي تعزيز آفاق التعاون الدولي    وصفات من مكونات طبيعية لتنظيف القولون في المنزل    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 22 نوفمبر 2025    غرفة عمليات الهيئة الوطنية تتابع فتح لجان انتخابات النواب فى الخارج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    موعد تطبيق منظومة السيارات الجديدة بديلة التوك توك فى الجيزة    الرئاسة في أسبوع| السيسي يشارك بمراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بالضبعة.. ويصدر تكليفات حاسمة للحكومة والوطنية للانتخابات    شيكو بانزا يظهر فى مران الزمالك الأخير استعدادا ل زيسكو بعد وفاة شقيقه    وزارة الصحة توجه رسالة هامة عن تلقى التطعيمات.. تفاصيل    منظمة الصحة العالمية: أكثر من 16.5 ألف مريض بغزة في انتظار الإجلاء الطبي    سعر الجنيه الإسترلينى اليوم السبت فى البنوك 22-11-2025    اليوم.. محاكمة 6 متهمين بقضية "خلية مصر الجديدة"    «يوميات ونيس».. العمل الذي صنع ذاكرة جيل ورسّخ قيم الأسرة في الدراما المصرية    المرأة العاملة| اختيارها يحمي الأسرة أم يرهقها؟.. استشاري أسري يوضح    فلسطين.. جيش الاحتلال يقتحم حي الضاحية في نابلس شمال الضفة الغربية    تطورات مثيرة في قضية سرقة عصام صاصا للحن أغنية شيرين    استشارية: خروج المرأة للعمل لا يعفي الرجل من مسؤولية الإنفاق أبدًا    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    محمد التاجي: لولا تدخل السيسي ل"طبل" الجميع للانتخابات وينتهي الأمر دون كشف التجاوزات    محمد التاجي: اعتذار محمد سلام اللحظي خلق «شماتة» ويتعارض مع تقاليد المهنة    مصطفى حجاج يكشف حقيقة الخلاف بينه وبين هاني محروس    شوقي علام حول التعاملات البنكية: الفتوى الصحيحة تبدأ بفهم الواقع قبل الحكم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عالمية نجيب محفوظ الروائية
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 04 - 2016


1 سؤال العالمية وظروفه
لعل مثل هذا الموضوع لم يكن ليطرح، لا كسؤال ولا كإخبار بحقيقة، لو لم تستلزمه ظروف ثقافية، ترتبط بموقع الإبداع والثقافة العربيين من عصرهما اليوم، وهو بالتأكيد لم يكن ليطرح، في عهود ازدهار الثقافة العربية، وقد كانت إذ ذاك، لا مجرد مساهم في ثقافة عصرها، بل كانت المورد والمصدر وأفق المتطلع والطامح، بعد أن تجاوزت مرحلة الوسيط الثقافي الرابط والواصل، المتمثل في الأخذ والنقل والاستيعاب إزاء ثقافات العالم من حولها، في مختلف الميادين واللغات، إلي مرحلة التميز والعطاء.
وقبل تتويج نجيب محفوظ بجائزة نوبل العالمية، طرحت علي عدة مستويات ثقافية وأكاديمية، أسئلة العالمية والكونية في الأدب العربي المعاصر، وكانت مثار تأملات واجتهادات، تنبعث كلها من ملاحظة الفارق القيمي لا المقامي بالضرورة من النواحي المادية والأدبية، بين ما عليه الإبداع العربي مقابل الآداب العالمية.
وارتباطاً بذلك فإن صفة العالمية، بغض النظر عن أي تعريف أو تحديد، وبالنسبة لأية ثقافة ولأي منتج أو إنتاج إبداعي، تمثل قيمة في ذاتها، مرغوباً فيها في ذاتها، أو لما يترتب عنها من مكاسب معنوية أو مادية، أو من أجلهما معا، بيد أنها بالنسبة للثقافة العربية والمبدع العربي، علاوة علي ذلك كله، تمثل الأهم، وهو الاعتراف بما يعادل الندية أو يؤهل لها في الساحة الأدبية العالمية، فيما بين "شرق عربي/ إسلامي" والآخر، أي الغرب بتقدمه المعرفي وهيمنته الكونية الشاملة، مع ما يرتبط بمفهوم هذا "الشرق" من تبعية، وما يحيط به من غموض وضبابية، لدي ذلك الآخر، المتمثل في الغرب.
ويقصد بالعالمية هنا الرواج والترويج باللغات الحية العالمية اليوم، وعلي رأسها في المقام الأول الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وما يرتبط بذلك كله من دراسات نقدية تعريفية إيجابية علي العموم، تجري علي مستويات ثقافية وأكاديمية، مع ارتفاع المقروئية للأعمال، علاوة علي التتويج بالجوائز العالمية.
بطبيعة الحال فإن مثل هذه المتطلبات، لم تكن لتتيسر للأدب العربي المعاصر في جانبه الإبداعي علي الخصوص، وذلك لغلبة مبدأ التبعية الثقافية وما يرتبط بها من مظاهر ومؤشرات التأخر المجتمعي التي تمثلها المنطقة العربية ، علاوة علي عامل اللغة المتمثل في النطاق المنحسر المحصور للغة العربية، رغم سعة رقعتها الجغرافية ومدي الكتلة الديموغرافية لمستعمليها والناطقين الأصليين بها، وعلاوة أيضاً علي ما تمثله هذه المنطقة من وزن اقتصادي عالمي، باعتبارها خزان الطاقة العالمي، بكافة مخرجاته ونتائجه.
وعلي العموم، فإن تقدير العالمية التي اكتسبها نجيب محفوظ، يجب أن يأخذ هذه الاعتبارات في الحسبان، لما يمثله ذلك من اختراق لمنظومة عالمية، تعتبر إلي حد كبير مغلقة في وجه الإبداع الأدبي العربي، بيد أن هذا الحدث بما يمثله من اعتراف عالمي بالقيمة الإبداعية العربية مبدئياً، وبالإبداعية الروائية لنجيب محفوظ بالذات، يجب ألا يُغيّب عن بالنا أن هذا التتويج في ذاته، ليس هو ما يعطي القيمة العالمية لنجيب محفوظ، الذي لم يولد روائياً مع الجائزة العالمية، أو لاحقاً عنها، وهو أمر إن كان لا ينال من هذه الجائزة العالمية، باعتبار أن طبيعة الجوائز في معظمها تعرض علي هذا النحو، لكنه من الناحية الأخري، يجب ألا يغطي علي القيم التي يمثلها إبداع نجيب محفوظ الروائي في ذاته، أي بغض النظر عن أي عامل بعدي وخارجي عنه، بما في ذلك "جائزة" ما، مهما كان مستواها ومصدرها.
من هذا المنظور، فإن عالمية نجيب محفوظ، يمكن أن ترصد من خلال القيم والأبعاد الثاوية في إنتاجه الروائي والسردي عموماً، والتي يتفاعل في نطاقها ما هو إنساني، وما هو فني وفكري.
من هنا فعالمية نجيب محفوظ تكمن في القيم والأبعاد الفنية والإنسانية، التي يقوم عليها بناؤه السردي، والتي يرسخها في عوالمه الروائية، لتشكل ملامح مدرسة نجيب محفوظ في الكتابة، ومنها خصوصية واقعيته الإبداعية.
2 طابع واقعية اجتماعية نفسية
ولا يقصد بهذا التعبير مجرد الواقعية الاجتماعية، أو بالذات أن هذه الواقعية محددة مسبقاً، أو جاهزة كوصفة للكتابة الإبداعية أو النقدية، ذلك أن هذه الواقعية، ليست بالمفرد، بل هي واقعيات بالجمع، وكل واقعية بالتالي، تحمل بصمة صاحبها، بما يجعل واقعيته مختلفة عن واقعية غيره؛ لذلك فإننا نتحدث عن طابع، وعن واقعية نفسية اجتماعية، وهي ما يعطي الخصوصية الفنية لكتابة نجيب محفوظ ، فإذا كانت الواقعية تحيل مبدئياً علي المشهد اليومي في حياتنا المجتمعية، وبالتالي مجتمع نجيب محفوظ اليومي المباشر، فهي لا ترتبط بالضرورة بزمنه الحاضر والمحدود، ولا بمجرد الماضي والمستقبل فحسب، لسبب بسيط، وهي أنها تُركّب واقعها من مكونات، منها ما هو من قبيل ما هو ماثل لنا وأمامنا، ومنها ما يتفاعل معه مما ليس منه بالضرورة، ومنها ما يتجاوزه.
وهذه الكيمياء المقدارية بين العناصر والمكونات المختلفة هي ما يشكل الفرادة والتميز ، والتي تختلف عن واقعيات أخري وصفية، نجدها عند كتاب من قبيل يوسف السباعي أو إحسان عبد القدوس وعبد الحميد جودة السحار ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهم، بل وتختلف عن واقعية أخري، لها بصمتها الخاصة في السرد العربي، يمكن أن نسميها واقعية
فزيواجتماعية، إذا صح التعبير، وتمثلها علي سبيل المثال فرادة يوسف إدريس، من حيث إن قوة الصراع في بنائه السردي، تقوم علي استثمار الدوافع والحوافز الأولية في الإنسان، أي الميول الأساسية، بما هو أقرب إلي مفهوم " الغرائز"، فنجد مشهدية صناعة الموت والحياة مثلا، أو تخلقهما علي الأصح في لحظة واحدة، علي سرير واحد أو علي سريرين متجاورين في مصحة أو مستشفي، يتمدد في أحدهما محتضر علي شفا الانطفاء، بينما تمارس علي الثاني علاقة جنسية بكل حيوية وعنفوان، أو مثل ما نجد مشهدية التواطؤ في "بيت من لحم"، حيث أسرة كاملة من أم وزوجها الضرير وبناتها في بيت واحد، يلعب فيه كل دوره في ممارسة لعبة مشتركة محرمة، دون أدني بيان أو تذمر، كما في حالة من يترك مأموميه في سجدة، ويغادر لمأربه الذاتي، تاركاً إياهم بجباههم علي الأرض، ومشهديات أخري مختلفة، ليست رواية " الحرام" بذاتها إلا مظهراً منها.(1)
إنها واقعيات تختلف عن واقعية نجيب محفوظ في "الثلاثية" علي سبيل المثال، كما في "زقاق المدق" وفي قصص "دنيا الله" يقدم واقعاً مركباً، قد يكون أقوي وأغني من المعطي المباشر الماثل أمامنا يومياً، وقد يكون أقل من ذلك، لكنه ليس المكافئ ولا المعادل، وبالتالي ليس المطابق علي كل حال. وهو من خصوصية نجيب محفوظ التي تبين عن استيعاب الواقع الماثل، لا عن طريق الوصف فحسب، ولكن عن طريق التحليل الاجتماعي النفسي للظواهر والشخصيات، وهو ما يجعل بالإمكان عن طريق هذا التعمق والتعميق، أو الغوص بالأحري، الانبثاق بتركيب جديد. (2)
ومن هنا، فإن ما يجري من اختلاف في مواقف وأنماط حياة وعلاقات آل عبد الجواد، عبر الأجيال والأزمان والأمكنة، كما في ذات الشخصية الواحدة من بينها، وهي تعايش هذه الأجيال من جهة، أو في الحالة النموذجية التي تمثلها "حميدة" في "زقاق المدق" من جهة أخري، يمكن أن يُعتبر من منظور ما، رصداً لما يحصل في أية أسرة مصرية ممتدة، بأعضائها من أصول وفروع، وهو ما يعتبر مثالا لطموح أي فتاة جميلة، كما تجسدها "حميدة زقاق المدق"، في سعيها لتغيير وضعها ، وكل ذلك، وبما يتحقق في هذا المثال وعبره من قيم، ومن مختلف أمكنة وأزمنة ومشاهد، فإنه لا يُشكّل ضرورة حتمية، كقدر مقدور لكل أسرة أو فتاة مصرية، حتي لو كانت من المستوي الاجتماعي نفسه؛، لكنه يحيل في النهاية إلي دينامية تفاعلية، تؤدي في العمق، إلي مفهوم التحول والتطور المجتمعي، بما يجعل الشخصيات مجرد كائنات مسرحية، تؤدي دورها عبر ديكورات مشهدية تشابه و/ أو تخالف... ذات صلة أو منفصلة... لكنها تبقي متفردة بأداء الدور المنوط بها، ومن ثم بطابعها الواقعي الاجتماعي النفسي الخاص.
وعلي المنوال نفسه، يمكن رصد قيم وأبعاد في الوجدانية الإيمانية، أو الصوفية بالأحري في "دنيا الله"، حيث تلتقي متآلفة ومختلفة، متعاضدة ومتناقضة، مواقف وقيم وتوجهات، تحملها وتتفاعل بها وعبرها الشخصيات، أشبه ما تكون بالواقعي اليومي المباشر، بما تحمله من معالم ورموز مادية ومعنوية، من قبيل الجوامع والأسواق والمرض والعلاج والموت... لكنها بالمعني الدقيق، وبتلك المعالم والرموز نفسها، أبعد ما تكون عنه، وتبقي في كل الأحوال، إن كانت تمْثُل بسمة الواقعي، فهو الواقع السميك المكثف الملهم، والمُحمّل بأكثر من إحالة وتأويل.
ولا يقل الأمر عن ذلك في شخصية "سعيد مهران"، الذي تبدو مرجعيته الواقعية اليومية مؤكدة، وبعيدة عن شبهات التخييل المطلق علي الأقل، إلا أن ما يعرضه نجيب محفوظ في "اللص والكلاب"، هو ناتج الكيمياء التفاعلية ما بين الذات وظروفها الضاغطة والمضادة، التي تبقي المكون الأساسي وليس المطلق، وبالتالي أهم ما يتخلق في عمق الشخصية من استعدادات لردود أفعال خاصة، إزاء ظواهر من قبيل اللاعدالة الاجتماعية أو الانظلام بالأحري، وهو بالتالي شعور بالظلم، أكثر مما هو ظلم، أي أنه معنوي أكثر منه مادياً يقاس بآلية الأكثر أو الأقل؛ ومن هنا فإن "سعيد مهران" رغم مرجعيته الواقعية المباشرة المزعومة، والتي تبقي افتراضية علي كل حال، يصبح مشكّلا بسمات اجتماعية نفسية مستقلة أو تكاد، عن أي إطار مرجعي محدد، إلا أن يكون دينامية تفاعلية، مؤداها اللامحدد واللامحدود:أنه بقدر ما تتجمع هذه المعطيات، بقدر ما تؤدي تفاعلاتها إلي نحو من هذا الناتج، لا بالضرورة هذا الناتج نفسه، فسعيد مهران لم يكن وإن كان قد وجد، كما أنه لن يوجد وإن أمكن أن يكون، وذلك لا عملياً في الواقع المزعوم علي نحو مباشر، ولا روائياً أيضاً علي مستوي الكتابة؛ لكنه نموذج فقط من نماذج عدة ولانهائية، يمكن أن ينتجها التفاعل؛ ويجب ألا يغيب عنا بهذه المناسبة، أن نجيب محفوظ فيلسوف ومحلل اجتماعي نفسي، بحكم التكوين العلمي، قبل أن يكون مبدعاً روائياً.
ولعل المثال الأوضح في الخصوصية الواقعية الاجتماعية لنجيب محفوظ، يتمثل في رواية "أولاد حارتنا" الغنية بالمشهدية المباشرة المزعومة، بملامح شخصياتها الأساسية، وبنماذج دوافعها واستجاباتها، تبعاً لمحركات الكسب والسلطة والغيرة وما إليها من جهة، والأبعاد الكونية لدلالتها، في الثقافة والأسطورة والدين والسياسة من جهة ثانية؛ وتبدو القراءات المتعددة ل "أولاد حارتنا" وبخاصة منها تلك التي تسقطها أو تسقط عليها الدلالات الرمزية الدينية بالذات، معادلة للقراءات الأخري التي تسقط دلالات الواقعية اليومية المباشرة، علي معظم ما تعرضه روايات نجيب محفوظ، بينما يمكن أن التعامل مع شخوص أولاد حارتنا كمجرد نماذج حاملة لأدوار، قد تكون أقوي وأشد، أو أقل وأخف، من الأدوار الدينية المحددة المزعومة، لما أن هذه الشخوص تمثله بالفعل.
ولا ننسي هنا أن نجيب محفوظ مع تكوينه الخاص، هو تلميذ بالمباشر وغير المباشر، لمصطفي عبد الرازق شقيق علي عبد الرازق(3) ، وسلامة موسي، وأمثالهما من أعلام وعلامات الفكر المتحرر المنفتح علي كل الأسئلة، الاجتماعية والدينية والسياسية.
من هنا فإن عالمية نجيب محفوظ، تأتي بالأساس من إنتاجه في ذاته، فيما تحفل به أعماله السردية من مستويات التفاعل والتأويل، وفي عمق التحليل الاجتماعي النفسي، الذي لا يتنافي مع السلاسة والانسيابية السردية، المشكلة للمكونات الجمالية لروائية الرواية؛ وبالتالي فإن عالمية نجيب محفوظ عبر "نوبل"، رغم ما تشكله من ظاهرة اعتراف من جهة، ومن اختراق لمنظومة تقييمية غربية، شبه مغلقة علي ذاتها من جهة ثانية، تبقي تالية ولاحقة بالنسبة لعالميته الذاتية، لا مكملة ولا مكونة لها، أي أنها تبقي بامتياز خارجية عنها.
3 الدرس المستفاد من التجربة المحفوظية
أما الدرس المستفاد دراسة من عالمية نجيب محفوظ، سواء علي هذا النحو أو ذاك، فهو المتعين علي البيئة الثقافية العربية، بيئة المبدع العربي، من ضرورة التيقظ للمواهب والظواهر الإنسانية الإيجابية في كل الميادين، وبالتالي ضرورة رعاية الرأسمال البشري الفكري، واحتضانه بما يؤهله إمكاناته للعطاء والإثمار، مشكلة بذلك حاضنة مهيئة مؤهلة وراعية قبلية، للظواهر الفنية في كافة المجالات ، ولا ننسي أن نجيب محفوظ لم ينل المحظوظية في محيطه العربي، إلا بعد أن استوي عالمياً بالفعل، قبل "نوبل" بمراحل، وأن أول من كتب عنه هو سيد قطب، الذي وقف بالخصوص عند "دقة التحليل" في كتابة نجيب محفوظ، وهذا يعني أن عالمية نجيب محفوظ هي ثمرة جهده الخاص، ولا ضرر في هذا عندما تكون النماذج المبدعة، من معدن نجيب محفوظ، وفي مستوي إرادته وثقته بفنه، لكن عندما تكون النماذج أقل استعصاء علي الموانع والعوائق، وأضعف علي الاستمرارية والمقاومة والعناد الإيجابي، فإن المجتمع يضيع في كثير من الرأسمال الثقافي عامة، والإبداعي علي وجه الخصوص، ليبقي الباقي وهو كثير، يتحمله المبدع ذاته، كما تلخص ذلك عبارة دالة في هذا السياق لتولستوي، يقول فيها:
" ليس أمام الفنان حامل الموهبة، الإنسان، إلا أن يشق الطريق أمام موهبته، ليكشف عن الموضوع، ويرغم علي حبه إن كان يستحق الحب، أو علي كرهه إن كان يستحق الكراهية" (4)
ويبقي من مظاهر عالمية نجيب محفوظ التي يجب أن تتحقق، ومسؤوليتها علي غيره بالطبع، أن يدرس هذا الروائي الفذ وغيره أيضاً من الروائيين العرب المميزين في سياق ما هو روائي مع غيره من كتاب العالم، جنباً إلي جنب، في سياق تاريخ أدب روائي متفاعل، لا أن يدرس كمجرد ظاهرة روائية مصرية أو عربية؛ إننا هنا بمواجهة قد نجد نجيب محفوظ يضعنا وجهاً لوجه أمام مركزية ثقافية عالمية كانت وما تزال مغلقة إلي حد كبير.
هوامش
المغرب
1 من أعمال يوسف إدريس المشار إليها هنا: الحرام، بيت من لحم .
2 من أعمال نجيب محفوظ المشار إليها هنا: زقاق المدق، الثلاثية، اللص والكلاب، أولاد حارتنا، دنيا الله.
3 الإشارة هنا إلي عبد الرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم".
4 شريف شاكر، واقعية ستانيسلافسكي في النظرية والتطبيق، ص 39، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1981.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.