"أدب السجون".. ينغرس هذا التعبير عميقا في الكتابات النقدية والتأريخية،كما ينغرس مسمار صديء في كرسي قديم، هو تعبير مطروق ومقبول وشائع،بالنسبة لي،هو تناقض منطقي Paradox حقيقي،كيف يمكن لفعل يعتمد أساسا علي الحرية التامة،وامتلاك الإرادة الكلية وتفعيلها لأقصي درجة،فعل يرتكز علي أقصي حالات الخصوصية الفردية وانفتاح اللاشعور علي الوعي،فعل كالأدب،أن يقترن بنقيضه،بشيء هو أساسا نفي للحرية،تعطيل وتحطيم للإرادة أنتهاك للخصوصية ونفي لها،شيء كالسجن،حديقة الحيوانات البشرية التي يحشر فيها البشر لتحطيم أرواحهم وإطلاق الوحش الذي بدواخلهم،ثم إذلال ذلك الوحش وكسره وتحويله لمسخ مسعور،ذلك ربط ما بين نقيضين،ليست علاقة جدلية،بل فخ موت لا فكاك منه،شيء يشبه تدجين النسور وتحويلها لطيور بياضة أو زرع شجرة سرو في أصيص لاستغلالها كنبات ظل. ثم ما المعني الحقيقي لأدب السجون؟ هل هو الأدب المكتوب عن السجن؟ حتي وأن كُتب خارجه؟ هل هو الأدب الذي يُكتب في السجن حتي لو لم يذكر ولا في جملة واحدة الزنزانة والقيد؟ حسنا،ليكن،سأقبل هذا التعبير- من أنا علي أي حال لكي أشكك في تعبير نقدي مستقر كالمسمار الصديء في مقعد قديم،السجن يحتل جزءا معتبرا من تراث مثقفي الشرق الأوسط عامة ومصر خصوصا،الحقيقة أن كل تأريخ الحركات اليسارية بالخمسينات والستينيات يكاد يكون ذكرياتهم ومذكراتهم عن السجون والمعتقلات،تقريبا هم كانوا سجناء ومعتقلين أكثر مما كانوا أي شيء آخر، كومة كبيرة من الكتب والمقالات والمذكرات،كلها تتحدث عن السجن،حوليات جمهورية الاعتقال اليوتوبية التي أقاموها في معتقلاتهم، نعم هم ذكروا التعذيب والتكدير،والألم،والإذلال السادي المتشفي والعُري والمرض،والموت المجاني غير المبرر،لكن ما بقي في ذاكرتي هو أشياء أخري، كيف ضربوا مليون طوبة من الحجر اللبن لبناء مسرح، كيف كتبت الشمندورة وكيف هُربت علي أوراق البفرة، وكيف رُسمت وأقيم معرض بالمعتقل لتلك الرسوم، بل وكيف أتسعت يوتوبيا المعتقلين بصدر رحب لتشمل حتي السجانين، فتطوع المعتقلون لتعليمهم القراءة والكتابة حتي لا يفقدوا وظائفهم،وظائفهم كزبانية حارسين لجحيم الاعتقال،الحقيقة، يكاد الأمر يبدو مقبولا، ممكنا، بل وحتي ورديا نوعا ما،يمكن التعايش مع السجن،وقبوله،يمكنك أن تبني مسرحا وتكتب روايات وتقيم معرضا تشكيليا،في المعتقل،أنظر،إنه يكاد يشبه العالم،يكاد يشبه الحرية،حتي انهم لم يحملوا حقدا ولا كراهية لا علي الدولة التي سرقت أعمارهم ولا علي النظام الذي صادر حريتهم،ولا حتي علي الزبانية الجهلة من حراس الجحيم،كأن السجن جزء من الحياة ذاتها،سمة من سمات أن تكون مثقفا أو مفكرا أو مبدعا،يكرهون السجن والمعتقل وربما يلعنونه،لكن كأنما السجن قوة من قوي الطبيعة،وحدث من حوادث القضاء والقدر،وليس فعلا بشريا يوقعه بشر علي بشر آخرون،لمجرد أنهم يمتلكون سلطة فعل ذلك،البعض يتطرف في قبوله لهذا المصير بمأساوية أغريقية متفاخرا بأنه يحتفظ خلف باب منزله بحقيبة بها ما قد يحتاج في المعتقل،ليكون مستعدا في أي وقت لوقوع (قدر) الاعتقال عليه،ما يشبه استعداد القديسين وأولياء الله للموت في أي وقت،وقبوله باعتباره قضاء الله وقدره،أيها السيدات والسادة،هذه هي الرسالة المقصود توصيلها والتأكيد عليها،وتوريثها عبر الأجيال: السجن قدر مُقدر علي المثقفين والمبدعين،وهو تجربة قاسية،لكن يمكن تحمله وتجاوزه،بل أن فيه جانبا رومانسيا،يمكن التعايش معه،وبناء المسارح وكتابة الروايات وتربية الحمام البري كحيوان أليف،وأن علينا تجهيز أنفسنا لهذا القدر الشبيه بالموت والذي هو مثله حق علينا جميعا. الحقيقة،أنني لا أتخيل فكرة أكثر بؤسا ولا رسالة اكثر حقارة،ولا إرثا أكثر مجلبة للعار،الحرية حق من حقوق الكائن الحي،حق كالحياة،حق سابق علي الدولة والقانون والقضاء ،حق يعلو فوق كل حق آخر،لا حق لأحد أن ينتزع من إنسان حريته،لا بقانون ولا بشريعة ولا بإرادة شعبية،لا حق لأحد في انتزاع حرية إنسان بسبب رأيه أو ابداعه أو موقفه الفكري،وكل حكم عكس ذلك هو طغيان وعدوان،وكل رأي ضد ذلك هو فاشية وبربرية،وكل قانون يبيح ذلك أو ينص عليه هو جريمة وعار،نحن أحرار لاننا بشر،لا لأن دستورا ينص علي ذلك ولا لأن قانونا يضمنه،نحن أحرار فوق أي قانون أو قاعدة وضعها بشر،لا يحق لأحد أن يحاسبنا علي نتاج خيالنا وثمرات وعينا،جيدة أكانت أم رديئة،مقبولة اجتماعيا أم مرفوضة،علي هوي القابضين علي السلطة أو عكسه. السجن ليس رومانسيا،ولا يمكن قبوله أو التعايش معه،لا يمكن تفكيكه لقضايا بسيطة وتفاصيل حياتية مختلفة،السجن عدوان علي الوجود البشري،إهدار للإنسان كقيمة،تدمير لإرادته،نقض لخصوصيته وسيطرته علي وجوده،سجن مبدع أو مثقف ليس قضاء وقدرا،بل فعل بشري إجرامي وفاشي يجب مقاومته ورفضه. المؤسف أنه يمكن كتابة أدب عظيم في السجن،بعض من أفضل الأعمال الفكرية البشرية كتبت في الزنارين،يمكن للبشر التأقلم مع شيء ببشاعة السجن،كما يمكنهم التأقلم مع المناخ السيئ والمرض المزمن والإعاقة،يمكن كتابة أدب سجون،كما يمكن تربية نسر بحظيرة دواجن ،وزراعة شجرة سرو بأصيص،يبقي أمرا غير طبيعي يجب مقاومته ورفضه والتحريض ضده.