خاص| سلوى محمد علي: سميحة أيوب أيقونة فنية كبيرة    وزير الإسكان ومحافظ الإسكندرية يعقدان اجتماعا لمتابعة ملفات العمل والمشروعات المشتركة    وزيرة البيئة تبحث مع مفوض الاتحاد الأوروبي للبيئة مستجدات مفاوضات معاهدة الحد من التلوث البلاستيكي    إزالة 654 حالة تعد بالموجة ال 26 لإزالة التعديات على أراض أملاك الدولة والزراعة ببنى سويف    رويترز: توقف إنتاج مصانع الأسمدة المصرية بسبب نقص إمداد الغاز الإسرائيلي    السلع الغذائية العالمية تقفز بعد صراع إسرائيل وإيران ومخاوف من أزمة إمدادات    الضربة الإسرائيلية لإيران| بابا الفاتيكان يدعو تل أبيب وطهران إلى اللجوء للعقل والحوار    ريال مدريد يحصن مدافعه الشاب راؤول أسينسيو بعقد حتى 2031    الشناوي يتألق في مران الأهلي الأخير قبل افتتاح كأس العالم للأندية    مصرع عنصر شديد الخطورة وضبط مخدرات ب 26 مليون جنيه في القليوبية| صور    أخبار الطقس في السعودية.. موجة حر شديدة ورياح مغبرة    فيلم المشروع X لكريم عبد العزيز يقترب من حصد 105 ملايين جنيه إيرادات    ليلى عبد المجيد تحصد جائزة "أطوار بهجت" للصحافة كأفضل إعلامية عربية    زكى القاضى: الرد الإيرانى أدى إلى تهجير سكان من تل أبيب لأول مرة منذ عام 1948    اليوم العالمي للمتبرعين بالدم | 6 فوائد صحية مدهشة للتبرع    عمليات جراحية دقيقة تنقذ حياة طفلة وشاب بالدقهلية    "الرعاية الصحية" تطلق أول ورشة عمل مع "روش" لتعزيز التحول الرقمي    «عمال الجيزة»: اتفاقية الحماية من المخاطر البيولوجية مكسب تاريخي    مدرب إنتر ميامي يراهن على تأثير ميسي أمام الأهلي    الرياضية: الهلال اتفق مع مايكل إدواردز لتولي منصب المدير الرياضي    بوسي توجه رسالة ل منة القيعي بعد حفل زفافها.. ماذا قالت؟ (صور)    من أضواء السينما إلى ظلال المرض.. تعرف على حياة زبيدة ثروت وصلتها بمي عز الدين    هل زيارة المريض واجبة أم مستحبة؟.. عالم أزهرى يجيب    مدبولي: الحكومة تبذل قصارى جهدها لتحقيق نقلة نوعية في حياة المواطنين    تصاعد مؤشرات الإنذار في محطة فوردو النووية بعد القصف الإسرائيلي.. هل هناك تلوث نووي؟    اليوم.. الحكم على متهمة بالانضمام لجماعة إرهابية بالهرم    النظام الغذائي المناسب، لطلاب الثانوية العامة خلال الامتحانات    كرة اليد، مواعيد مباريات منتخب الشباب في بطولة العالم ببولندا    أهالي يلاحقونه بتهمة خطيرة.. الأمن ينقذ أستاذ جامعة قبل الفتك به في الفيوم    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المتحف المصرى الكبير    أسعار الخضروات اليوم السبت 14 يونيو 2025 في أسواق الأقصر    إعلام إسرائيلى: إيران أطلقت نحو 200 صاروخ باليستى منذ بداية الهجوم    خاص| محمد أبو داوود: «مشاكل الأسرة» محور الدراما في «فات الميعاد»    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : نحن بحق فى معركة!?    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 14-6-2025 في محافظة قنا    الأهلي بزيه التقليدي أمام إنتر ميامي في افتتاح مونديال الأندية    غدا.. بدء صرف مساعدات تكافل وكرامة للأسر الأولى بالرعاية عن شهر يونيو    تجهيز 76 لجنة استعدادًا لانطلاق ماراثون الثانوية العامة بأسيوط    لحماية الطلاب.. النيابة الإدارية تفعّل قنوات تلقّي الشكاوى خلال الامتحانات الثانوية العامة    الصحة: قافلة متخصصة في جراحات الجهاز الهضمي للأطفال ب«طنطا العام» بمشاركة الخبير العالمي الدكتور كريم أبوالمجد    افتتاح كأس العالم للأندية.. موعد والقنوات الناقلة لمباراة الأهلي وإنتر ميامي    غدا .. انطلاق ماراثون امتحانات الثانوية العامة بالمواد غير المضافة للمجموع    حجاج مصر يودّعون النبي بقلوب عامرة بالدعاء.. سلامات على الحبيب ودموع أمام الروضة.. نهاية رحلة روحانية في المدينة المنورة يوثقوها بالصور.. سيلفي القبة الخضراء وساحات الحرم وحمام الحمى    الأمن العام الأردنى: إصابة 3 أشخاص بسقوط جسم على منزل فى إربد    شديد الحرارة.. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس حتى الخميس 19 يونيو    غرائب «الدورس الخصوصية» في شهر الامتحانات    60 دقيقة تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 14 يونيو 2025    جماهير الأهلي توجه رسائل مباشرة ل تريزيجية وهاني قبل مباراة إنتر ميامي (فيديو)    تعرف على أسماء وأماكن لجان الثانوية العامة 2025 بمحافظة الشرقية    وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجارات قوية في شرق طهران    معاذ: جماهير الزمالك كلمة السر في التتويج ب كأس مصر    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    الأزهر يدين العدوان الصهيوني على إيران ويطالب بوقف الانتهاكات الصهيونية بحق دول المنطقة    فرنسا تحذر مواطنيها من السفر إلى الشرق الأوسط    رئيس جامعة سوهاج في ضيافة شيخ الأزهر بساحة آل الطيب    إعلام عبري: سقوط 4 صواريخ فى دان جوش والنقب والشفيلا    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    4 أبراج يتسمون ب «جاذبيتهم الطاغية»: واثقون من أنفسهم ويحبون الهيمنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بمناسبة العبث بعناوين نجيب محفوظ.. عجائب الكتب
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 03 - 2016

لم تكن المشكلة التي طفت علي سطح الحياة الثقافية والصحافية مؤخرا ، بسبب الاكتشاف المتأخر أن دار الشروق عملت علي تغيير عنوان إحدي روايات نجيب محفوظ ،وذلك من "عبث الأقدار" إلي "عجائب الأقدار" ،اكتشافا جديدا ،ورغم أن ذلك العنوان صمد لمدة خمسة عقود كاملة أمام منتقديه ،إلا أن الدار العريقة والمحافظة ،والتي تتمتع بهوي أيديولوجي واضح ، استطاعت أن تغيّر العنوان في حياة نجيب محفوظ نفسه ،وهو المؤلف الأصلي للعنوان عندما كان الزمن غير الزمن ،والذائقة غير الذائقة ،والمناخ مختلف إلي حد كبير، حيث صدرت الرواية في أوائل شهر سبتمبر 1939 ،وذلك ضمن عدد خاص من مطبوعات مجلة "المجلة الجديدة"، والتي كان يصدرها الكاتب والمفكر سلامة موسي ، وهو في الوقت نفسه يعتبر الأستاذ والموجه الأكثر تأثيرا في رحلة نجيب محفوظ الفكرية والإبداعية.
وبعد صدور الرواية مباشرة ،نشرت مجلة "الرسالة" مقالا لكاتب غير معروف يدعي محمد جمال الدين درويش ،وقال في مستهل مقاله :"القاص نجيب محفوظ شاب حديث عهد بالقصة ،ولكني أعدّه في الصف الأول ومن المبرزين فيها ،وخاصة في القصة القصيرة ، وأقاصيصه في مجلة الرواية تؤيد ما ذكرت ،وتجعلنا نشدّ علي يده إعجابا بفنه ، وتهنئته بفوزه ،واستبشارا بمستقبله في عالم القصة ".
واستطرد الناقد المجهول في مديح الرواية ، بعد أن أجري تلخيصا سريعا لها ،وأثني علي المنحي التاريخي الذي سلكه محفوظ في الرواية ، وكذلك مدح الخيال الواسع الذي يتمتع به الكاتب الشاب في بناء عالمه السردي ،ويعتبر هذا المقال هو أوّل مقال يكتب عن إبداع نجيب محفوظ بشكل مطلق ، أي قبل كتابات سيد قطب وأنور المعداوي ووديع فلسطين وآخرين ،وكان ذلك المقال مجرد رافعة أولي في تسويق كتابات محفوظ الأولي ،خاصة أنه نشر في أهم مجلة ثقافية في ذلك الوقت ،وهي مجلة "الرسالة"؟.
وبعد أن أصدر نجيب محفوظ سلسلة رواياته التاريخية الأخري مثل "رادوبيس وكفاح طيبة "،ثم رواياته الاجتماعية :"خان الخليلي 1945 والقاهرة الجديدة 1946،وزقاق المدق1947،والسراب 1950،وبداية ونهاية 1951"،وصدرت في هذا السياق التاريخي مجموعته القصصية الأولي "همس الجنون 1948"، راجت كتابات نجيب محفوظ علي المستوي الثقافي والنقدي ،وكتب عنه نقاد كانوا مرموقين آنذاك، وبدأت الصحف والمجلات تنوّه عنها بشكل ملحوظ ولافت للنظر.
وعندما جاءت ثورة 23 يوليو 1952، تنبّه قادتها إلي قيمة نجيب محفوظ ، وكان يوسف السباعي الذي يدير نادي القصة في ذلك الوقت ، فسارع بتنفيذ رغبة الدولة في احتواء تلك الموهبة الفذة ، إذ عمل علي إعادة بعض روايات محفوظ الاجتماعية ،وهي السراب وبداية ونهاية وزقاق المدق والقاهرة الجديدة"، بالإضافة لذلك تحمّس بشكل كبير لنشر روايته الضخمة "بين القصرين"، مسلسلة في مجلة "الرسالة الجديدة"، وأعتقد أنه لم يحظ كاتب في تلك الفترة بذلك الحظ ، وتدخّل يوسف السباعي في تقسيم الرواية إلي ثلاثة أجزاء ، واختيار عنوان مستقل لكل جزء ، ووافق نجيب محفوظ علي ذلك التدخل ،وربما ارتضاه ، فمحفوظ لم يكن صداميا ،أو مثيرا للقلق.
ونشرت رواية "القاهرة الجديدة" في سلسلة "الكتاب الذهبي" في نوفمبر 1953، وتدخّل يوسف السياعي في تغيير العنوان إلي "فضيحة في القاهرة"، وتردد فيما بعد أن نجيب محفوظ لم يكن سعيدا بذلك العنوان ،ولكنه لم يحتج ولم يعترض ، فتلك عادة نجيب محفوظ ، والأدهي أن ذلك التغيير جاء لأسباب تجارية ، فالعنوان الذي صدرت به الرواية ، كان مثيرا إلي حد كبير ، وربما رأي يوسف السباعي أن العنوان الجديد سيزيد من حجم المبيعات.
وبالطبع لم تكن رواية "عبث الأقدار" جاذبة لدور النشر ، وكذلك بدأت بعض الأصوات المحافظة ،وربما "المتطرفة" تعترض علي العنوان ، وتطرح تساؤلا احتجاجيا يقول :"كيف تكون الأقدار عابثة!؟"، ولكن ظلّت مكتبة مصر تطبع الرواية بالعنوان نفسه ،وذلك قبل أن تشتد عافية وغلظة الأصوات المعترضة والمحتجة ، ولكن دار الشروق استطاعت أن تحسم الأمر وتغيّر العنوان استجابة لذوقها وهواها ، وكذلك استجابة للأصوات الرجعية ، وذلك ليس ضد قناعاتها ، وعندما نشرت رواية "أولاد حارتنا" ، التي طوردت ومنع نشرها في مصر لمدة أربعين عاما ، نشرتها بعد أن استكتبت اثنين من الكتّاب الإسلاميين ، وهما الدكتور محمد سليم العوا ،والدكتور أحمد كمال أبو المجد ، وهذا الاستكتاب في حد ذاته بمثابة إقرار مخالف لطبيعة الأدب ،والذي لا يستمد شرعيته من رضا الكتّاب المحافظين ،وإلا كان من الضروري تمرير كتابات ادوار الخراط ونبيل جورجي نعوم وغيرهما من الكتّاب المسيحيين علي بعض القساوسة ، حتي تكتسب الكتابة الطابع الشرعي الجديد.
وجدير بالذكر أن نجيب محفوظ بطبعه المسالم لم يكن يريد الدخول في معارك ضارية بسبب كتبه ، فهو لم يكن موافقا بأي شكل من الأشكال علي نشر روايته "أولاد حارتنا" ،إلا بعد موافقة الأزهر الشريف ،رغم أن المفروض ليس للأزهر أي دخل في هذا الشأن ، ولكن نجيب محفوظ كان يؤثر السلامة ، وكان يلقي من يستغلون تلك السمة المسالمة فيه ، وأكثر مثال علي ذلك ، عندما تعرض لحادث الاغتيال الشهير عام 1994، سارعت جريدة الأهالي في خطوة جريئة وإيجابية تخصيص عدد كامل من الجريدة لنشر الرواية ، إلا
أن أصدقاء محفوظ أصدروا بيانا لتجريم تلك الخطوة ، وللأسف وقّع علي البيان كتّاب محترمون وأفاضل ، ولوّح الكتّاب الذين وقعّوا علي البيان بأنه لا يجوز نشر الرواية ،إلا بعد إذن مؤلفها ،لذلك فهم يدينون النشر ،ولكن بعد نجاح النشر الذي باع الرواية بجنيهين فقط ، ليصبح ذلك الفعل ،هو الكسر الرسمي والمعلن للوقوف في وجه الفاشية الدينية والأغراض السياسية والثقافة اليمينية دفعة واحدة.
إذن الأمر معقد إلي حد كبير ، فالتغيير يتم بموافقة نجيب محفوظ الذي تغلب عليه سمة السلامة ، وعدم الصدام مع أطراف عديدة يمينية أو فاشية أو مغرضة ،وهو هنا يشبه جاليليو الذي أدانته المحكمة إدانة بالغة، عندما قال بدوران الأرض ، وذلك يخالف الأعراف والتقاليد والحقائق الدينية ،وأجبرته أمام قضاته الرجعيين علي لاعتراف بفساد اكتشافه ، ولكنه عندما خرج، دقّ الأرض بقدميه ،وصرخ في ذهول وحيرة وأسي قائلا :"ولكنها تدور"!!!.
أعتقد أن نجيب محفوظ كان ينظر إلي الأمر هكذا ، فهو كان يريد أن يفلت من جلاديه المؤقتين ،ويفلت من أسواطهم المشرعة في وجه الفن دائما ،ولكنه وبالتأكيد كان مؤمنا بما يكتب ،ويتمني أن يصل لقرائه ،ولكن بالطرق السلمية ،والدليل علي ذلك أنه وافق علي نشر "أولاد حارتنا"، ولكن بعد أن حصلت علي "صك براءة" من كاتبين إسلاميين، رغم عجائبية الموقف ، وكذلك استعاد عنوانه القديم لروايته "القاهرة الجديدة" ، بعد عدوان السباعي عليه ،وتجدر الإشارة هنا بأن إطلاق عنوان "القاهرة 30" علي الفيلم المأخوذ عن الرواية ، لم يعن نجيب محفوظ من بعيد أو قريب ، فهو كان يعطي الحرية لمخرجي رواياته إلي السينما بشكل شبه مطلق ، حتي اللعب في التفاصيل والأهداف ،مثلما حدث في فيلم الكرنك ، عندما بدأ بما يسمي ثورة التصحيح ،والتي لم يرد لها أي ذكر في الرواية.
ومن المدهش أن بعض الأخبار التي صاحبت رواية أولاد حارتنا علي وجه الخصوص ، لم يتأكد من صحتها أحد ، فالرواية عندما نشرت في الأهرام بشكل يومي ،وأثارت قدرا من الاحتجاج ، ووصلت أخبارها إلي جمال عبد الناصر ،وعمل علي تشجيع استمرار نشرها ، إلا أن ما أشيع أن الرواية كانت تخضع لرقابة شبه يومية من جهة محرر الجريدة ، فالذي يقرأ التلخيص الذي كان ينشر كل جمعة وهو في حوزتي ،سيلاحظ أن يدا محافظة جدا ، كانت توجه النص نحو بعض المرامي الأخلاقية والدينية ، وأعتقد أن تلك التلخيصات لو نشرت في كتيب مستقل ، سوف تعطي صورة مختلفة تماما عن الرواية الحقيقية وجدواها ، وجاء هذا التدخل لتوجيه القارئ إلي قراءة محافظة ،والأكثر خطورة ،أن المحرر كان يتدخل في حذف بعض الفقرات ،وهذا بدا كما تردد آنذاك..دون نشر في الترجمة الإنجليزية الأولي للرواية ،حيث أن نجيب محفوظ ، قد سلّم النص الأصلي للمترجم الإنجليزي ، وعمل المترجم علي نقلها بأمانة شديدة ، لتصبح الترجمة الإنجليزية للنص ، هي الشكل الأكمل للرواية، والمسألة لا تحتاج منّا سوي مقارنة الترجمة الإنجليزية الأولي ، بالنص العربي الذي اقتنصته دار الآداب ، وظلّت تنفرد بنشره علي مدي عقود أربعة كاملة.
والحديث عن روايات نجيب محفوظ ، والتغيير في عناوينها ، وربما في متونها ، حديث طويل وذو شجون ، ولكنه يجرّ علينا حكايات عجائبية عن كتب أخري ومسرحيات وروايات ومجموعات قصص قصيرة، وربما أفلام سينمائية تغيّرت بشكل كامل ، لمجرد أن السلطة السياسية رأت بأنها لا تناسب مزاجها وأهواءها وتوجهاتها ، مثلما حدث مع فيلم "الناس والنيل" ، الذي أخرجه يوسف شاهين ،فعندما كلفّت الدولة شاهين بإعداد وإخراج فيلم عن السدّ العالي ،فكتب السيناريو بالاشتراك مع عبد الرحمن الشرقاوي ،وقام بإخراجه ،وقام بتمثيله فنانون مصريون وسوفييت ، ولكن الأجهزة الرقابية تحفّظت علي الفيلم تماما ، حيث رأت أن شاهين يعلي من شأن السوفييت في بناء السد العالي المصري ، وكلّفته بإخراج فيلم آخر ، بسيناريو آخر ،وبممثلين آخرين ، فسارع بكتابة سيناريو آخر مع الفنان حسن فؤاد ، وأتي بممثلين آخرين ،وأنجز الفيلم بالفعل ،ولكنه كان قد هرّب نسخة من الفيلم في صورته الأولي إلي فرنسا ، حتي لا يضيع في ظل الارتباكات والضغوطات السياسية آنذاك ، وبذلك أصبح لدينا أكثر من فيلم حول هذا الشأن ، ويستطيع القارئ أن يشاهد الفيلمين علي شبكة اليوتيوب ، بعد أن عمل الناقد والمخرج الدكتور محمد كامل القليوبي علي استعادة الفيلم من الفرنسيين ، عندما كان رئيسا للمركز القومي للسينما ، وتحريره من المنع والظلم الذي وقع علي الفيلم.
ولأن مذكرات الساسة والقادة التاريخيين ذات جذب جماهيري واضح ومربح لدور النشر ، أنوّه عن واقعتين ضمن عشرات الوقائع التي تحدث في عالم النشر ،الأولي تخص مذكرات اللواء أركان حرب محمد نجيب ،وهو الرئيس الأول للدولة المصرية عام 1953، والذي أطيح به بشكل كامل في سبتمبر عام 1954، ووضعه تحت الإقامة الجبرية ،ولكنه بمعاونة أصدقاء له ،استطاع أن يكتب مذكراته ، وينشرها في جريدة انجليزية بعد ترجمتها من العربية، ولكن هذه المذكرات تمت ترجمتها من الجريدة مرة أخري إلي العربية ، وصدرت في بغداد عام 1955 تحت عنوان "مصير مصر"، وظلّت هذه الطبعة ممنوعة تماما من التداول ، وربما لم يعرف عنها أحد أي شئ ، ولم تذكر في أي دراسة كهامش مهم عن ثورة يوليو ، وظلّ الأمر هكذا ، حتي أن جاء السادات إلي سدّة الحكم ، ففك بعض أسر محمد نجيب ، ولكنه كان قد أصيب باعتلال شديد ،ومع هذا الاعتلال فلم يكن قادرا علي الإدلاء بمعلومات ذات شأن ، ورغم ذلك صدر كتابان ،الأول عنوانه "كلمتي للتاريخ"، أما عنوان الثاني فهو "كنت رئيسا"، والكتابان يزعمان أنهما جديدان ، رغم أنهما يعتمدان بشكل كلي علي الكتاب المجهول وهو "مصير مصر".
وهناك واقعة أخري تخص كتابات الرئيس الأسبق محمد أنور السادات ، والسادات له كتب ومذكرات كثيرة ، كتب بعضها بنفسه ، وبعضها الآخر كتبها آخرون ، أشهرهم يوسف ادريس الذي كتب كتاب "عن الاتحاد القومي"، وكذلك كتب كتابا آخر بالإنجليزية عن "قناة السويس"، أما بعض كتب السادات فهي "صفحات مجهولة ،وياولدي هذا عمك جمال ،وأسرار الثورة المصرية ،وقصة الثورة كاملة ،والبحث عن الذات "، ولكن بعد رحيله مغتالا بسنوات عديدة ، ظهر كتاب له تحت عنوان "الضباط الأحرار ..الطريق إلي الثورة"، عام 2008، واكتفت دار النشر بأن تكتب عنوانها ورقم تليفون موبايل ، وأن السادات ليس له أي كتاب بهذا العنوان ، فأجريت مقارنة بينه وبين بعض ماكتبه السادات ، فوجدت أنه كتاب لقيط وتم تدبيجه من خليط من كتب السادات ، ومرّت الأمر في هدوء دون أي تنويهات في الصحف والمجلات.
والشئ بالشئ يذكر ، فهناك واقعة أخري تخص الضابط والمؤرخ أحمد حمروش ،والذي كان عضوا بتنظيم "الضباط الأحرار" ، وكان علي علم كبير بمجريات الثورة ، فكتب عن تاريخها مجلدات تلو مجلدات ، ولم تخضع تلك المجلدات لأي مراجعة عميقة ، ولكنها راحت تعمل عمل الحقائق التاريخية ، رغم مايشوبها من معلومات لم تكن دقيقة ، وبغض النظر عن تلك المسائل ، ففي عام 1947صدر كتاب "حرب العصابات" تأليف بانك ليفي ،من ترجمة ملازم أول أحمد حمروش،وكتب مقدمته اللواء محمود جاهين قائد عام سلاح المدفعية الملكية ، وقد صدر الكتاب بتصديق من إدارة العمليات الحربية بالجيش المصري ،ثم صدرت طبعة ثانية من الكتاب عام 1951، وكتب علي غلافها :"عن كتاب بانك ليفي بتصرف، وتم حذف مقدمة اللواء محمود جاهين ،وتصدرت الطبعة مقدمة جديدة للمترجم أحمد حمروش الذي أصبح "يوزباشي"، ثم في أعقاب 1967 صدرت الطبعة الثالثة للكتاب ، بمقدمة جديدة لأحمد حمروش استهلها بقوله :"كتاب حرب العصابات الذي ظهر مع حرب فلسطين عام 1948 ،وطبع مرة أخري في معركتنا مع الاستعمار البريطاني بالقناة عام 1951، يظهر مرة ثالثة ونحن في معركتنا المقدسة مع العدوان الاستعماري الثلاثي عام 1967 الذي حشدت له أمريكا وبريطانيا واسرائيل قواتهم المشتركة"، والجديد في هذه الطبعة الأخيرة ، أن اسم المؤلف الأصلي قد اختفي تماما ، وأصبح الكتاب من تأليف أحمد حمروش نفسه!
وحول التغييرات التي حدثت للكتب ،هناك وقائع ليست قليلة في تاريخ الثقافة المصرية ، والكاتب والشاعر والصحفي طاهر الطناحي ، الذي كان رئيسا لتحرير كتاب ومجلة وروايات الهلال ، ارتكب مذابح كبري في كتب كثيرة ، وجرت تلك المذابح دون أدني تنويه ، وأشهرها رواية "ليالي سطيح" لشاعر النيل حافظ ابراهيم ، والتي صدرت في جزءين عام 1959، وتم عملية اختصار وحذف مخليّن بشكل كبير ، ورغم أن الطناحي كتب مقدمة تربو علي الثلاثين صفحة في مستهل الجزء الأول ،إلا أنه لم ينوّه عن تلك الاختصارات والحذوفات التي مورست علي الرواية، ومرّ الأمر كذلك دون نقد أو مراجعة تذكر آنذاك ، ولولا الشاعر عبد الرحمن صدقي ، قد أعاد نشرها بشكل كامل ، وإعداد مقدمة نقدية طويلة عام 1966 ، لضاع النص الأصلي من الذاكرة.
أما الكتاب الآخر ،والذي يعد وثيقة ، وهو السيرة الذاتية للكاتب والمفكر والرائد أحمد لطفي السيد ، فقد نشرت تلك السيرة عام 1946 تحت عنوان "صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية في مصر" ،ولكن الطناحي نشره عام 1963 تحت عنوان "قصة حياتي" ، ولم يعبأ بالبعد الوثائقي في الكتاب ، فراح يغيّر ويبدّل ويحذف كما يحلو له ، وذلك تشويه ما بعده تشويه ،وطمس لحقائق تاريخية كانت فاعلة ومؤثرة في التاريخ الثقافي والسياسي المصري العام!
هذا غيض من فيض ، ونقطة من بحر هادر في عالم الكتب ،وللأسف مازالت الأمور تعمل في هذا المضمار بضراوة ووحشية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.