في الغالب لن يغضب قارئ رواية "فيرديدوركه" لفيتولد غومبروفيتش حين يقرأ جملتها الختامية: "النهاية... ياللإبهار وقارئ هذه الرواية حمار." فلو غضب سيكون قد فاته جوهر العمل وروحه الساخرة، فالجملة الختامية وإن كانت أشبه بصفعة، فإنها مثل الصفعات المتكررة في "فيرديدوركه": صبيانية عابثة. ومثل العنوان المخادع منبت الصلة بالمتن: لعبة أخري تضاف لألعاب الرواية العديدة. "فيرديدوركه" مغلفة بحس صبياني فاتن، يجيد غومبروفيتش - المولع باللعب كقيمة جمالية عليا توظيفه لإضفاء الجدة والتشويق علي عمله. وأظن أن هذا اللعب هو ما حمي الرواية من أن تكون مضجرة مثل كثير من الروايات التي تطرح أسئلة فلسفية أو تتسربل بالتأملات الذهنية. يتذكر الشاعر البولندي تشيسلاف ميلوش أن غومبروفيتش لم يكن يحب الحديث عن شيء سوي الفلسفة ويري آخرون أن كتابه "دليل إلي الفلسفة في 6 ساعات و15 دقيقة" يعد مفتاحاً أساسياً لفهم أعماله الروائية والمسرحية، لكن ماذا بالنسبة لقارئ عربي تمثل "فيرديدوركه" لقاءه الأول بعوالم غومبروفيتش؟ كان هذا السؤال ماثلاً في ذهني بينما أقرأ الرواية التي صدرت طبعتها العربية مؤخراً عن منشورات الجمل بترجمة لأجنيشكا بيوترفسكا ومعتصم بهائي ومراجعة هاتف جنابي. "فيرديدوركه" ليست أول ما قرأت لغومبروفيتش، لكنني تظاهرت بأنها كذلك، لمحاولة تخيل رد فعل من سيتعرفون عليه لأول مرة عبرها. الرواية حافلة بالإشارات البولندية، ومع هذا تتسم بحس عالمي، يتيح للقراء من مختلف أنحاء العالم التواصل معها، ورغم أنها صدرت للمرة الأولي خريف 1937 وتغص بإشارات إلي تلك الفترة بممثليها وزعمائها ونمط العيش فيها، إلّا أنها عصية علي التقادم، فهي من الروايات القادرة علي تحدي الزمن والحفاظ علي جدتها.
مثل "مسخ" كافكا تبدأ الرواية باستيقاظ البطل من النوم إثر حلم مزعج. في حالة جريجوري سامسا نعرف أن ليلته كانت حافلة بالأحلام المزعجة دون ذكر تفاصيلها لأن الأهم هو الكابوس اللاحق الممثل في تحول سامسا إلي حشرة، لكن في حالة جوي يعرض لنا غومبروفيتش تفاصيل الحلم المتمحورة حول عودة بطله إلي مراهقته، وسرعان ما يتحول هذا الحلم إلي "حقيقة" مهدِدة حين يحضر الأستاذ بيمكو ويتجاهل سنوات الراوي الثلاثين ويعامله كما لو كان مراهقاً ثم يعود به إلي مقاعد الدراسة، ومن هنا تتناسل سلسلة مواقف وأحداث يمتزج فيها الهزل بالعبث والهراء. هكذا نجد أنفسنا أمام "واقع حلمي" كان ليبدو بالغ الواقعية لولا غياب المنطق عنه، وعالم كابوسي تحجم هزليته من كابوسيته. وربما تنبع فرادة غومبروفيتش من صعوبة حصر عالمه في تصنيف واضح نرتاح له. القارئ الخبير بالكتابة المفارقة للواقع سينتبه لهذا علي الفور. هذا ليس واقعاً حلمياً علي المنوال الذي نقابله لدي كتاب آخرين، كما أنه ليس فانتازياً بالمعني المتعارف عليه، ومنسوب الهزل العالي فيه يحد من كابوسيته ويحول الكابوسية نفسها إلي farce، بحيث يمكن المجازفة بقول إننا في مواجهة محاكاة ساخرة للكابوسية. يبدو الراوي/ الكاتب مدركاً لهذا، يعرف أن هذا ليس الواقع المألوف، لكنه حائر في تحديد كنهه: "هل هذا حلم؟ يقظة؟" يتساءل في أكثر من موضع. وستتكرر جمل أخري تصب في خانة الحيرة نفسها، منها: "فجلست في هذا الهراء غير الواقعي كأنني في حلم!"، "بدا لي أنني كنت أحلم- لأنه فقط في الأحلام نكون في مواقف أكثر غباء مما يمكن أنت نتخيل."، "تخطي الواقع حدوده وبلغت التفاهة ذروة الكابوس وتحول كل حدث غريب إلي محض حلم".
يبدو حضور الجسد لافتاً في "فيرديدوركه" خاصةً عبر المؤخرة أو "البوبو" والوجه. الجسد هنا سائل ولا يكف عن التشكل، أعضاؤه تنفصل عن بعضها البعض تارة وتزدري وتغتصب بعضها البعض أخري. ثمة خوف من الجسد وغربة عنه. أما الوجوه فتحضر في الرواية بعيدة عن مفهوم الوجه: مجعدة ومرهقة ومضغوطة ومستعدة لأخذ شكل أي وجه. أو "وجوه مخلوعة ومشوهة ومقلوبة من الداخل إلي الخارج، حيث انعكس وجهي فيها كأنها مرآة مشوهة." سيولة الجسد هذه وذوبان أعضائه واستعدادها للتشكل بأشكل أخري، فكرة محورية في "فيرديدوركه"، تصادفنا علي مدار العمل فنستحضر الوجوه الذائبة والمصهورة في لوحات فرانسيس بيكون، كأن الفنان البريطاني استلهمها من "فيرديدوركه". وإذا كان الوجه لا يكف عن التغير وإعادة التشكل، (المسألة هنا أبعد وأعمق من ثنائية الوجه والقناع) فإن العمل بكامله، يحاكي الوجه في تبدله وتمرده علي الشكل الطموح للتحرر من طغيان الشكل وسطوته تيمة محورية عند غومبروفيتش ولا تقتصر علي "فيرديدوركه" وحدها. ينصحنا الراوي/ الكاتب: "اجتهدوا في التغلب علي الشكل، التحرر من الشكل". يهجو الشكل ويشبِّه مطاردة الفنانين والكتاب له بلا كلل بسعي الديدان إلي رزقها. تمرداً علي طغيان الشكل يقطع غومبروفيتش أحداث "فيرديدوركه" بقصة "فيليدور المبطن بالطفل" التي يسبقها بمقدمة يقارن فيها بين أجزاء الجسد وبين البناء الروائي ويقدم رؤاه الفنية وتأملاته حول الشكل. من المهم لفت النظر هنا إلي أن غومبروفيتش لا يتخفي خلف راويه، بل يتسلي بالإيحاء بأنه والراوي شخص واحد، فهذا يتيح له أن يتمرد علي الشكل ويتلاعب به، وأن يعرض أفكاره حول العمل المكتوب بعد المقدمة والقصة يعود الكاتب لملاحقة راويه في عالم عدم النضج، قبل أن يقطع السرد بقصة ثانية بعنوان "فيليبرت المبطن بالطفل" يسبقها بمقدمة يعلن فيها أنه أسير المقدمة ولا يستطيع أن يعمل بدونها، ويوضح أن قانون التماثل يفرض عليه أن قصة فيليدور يجب أن تقابلها قصة فيليبرت والمقدمة الأولي تقابلها المقدمة الثانية! عن أي تمرد علي الشكل كان يتحدث إذاً في مقدمة القصة الأولي؟ الإجابة مخبأة في ثنايا العمل "حتي لو أردت فإنني لا أستطيع أن أتفادي القوانين الحديدية للتماثل والقياس". و"يبدو لنا بأننا الذين نقوم بالبناء وذلك وهم لأننا علي حد سواء يتم بناؤنا من قِبل البناء."
مع غومبروفيتش واسع الثقافة المتبحر في الفلسفة، ندخل دوامة يمتزج فيها الهزل باللامعقول بالهراء الكامل بالخفة المعدية دون أن يخدعنا هذا أو يغرينا بأننا أمام لعبة لا معني لها. وإذا كان ككاتب مسكوناً بفكرة عدم النضج، فهو يستفيد منها استفادة قصوي، ويحول "فيرديدوركه" إلي ساحة لكل الألعاب المتخيلة. تبقي الإشارة إلي أن لغة الطبعة العربية في حاجة إلي مزيد من الصقل والتدقيق .