أثار خبر ترجمة »فيرديدوركه« إلي اللغة العربية الكثير من الاهتمام ليس فقط من حيث كيفية نقل طراز غومبروفيتش اللغوي المميز إلي لغة مختلفة تمام الاختلاف، ولكن أيضا إذا كان ذلك ممكناً علي الإطلاق، وإذا كان سكان هذه المنطقة من العالم سوف يكونون قادرين علي استيعاب واقع ثقافتنا البولندية عند صدور الكتاب منذ اكثر من 79 عاماً، حينما نشرت »فيرديدوركه« في بولندا للمرة الأولي. لا أود ان أطرح الآن موضوع نظرة البولنديين تجاه الثقافة العربية ومدي ابتعاد تلك النظرة عن الواقعية حيث ما زالوا ينظرون إليها من خلال عاطفة هستيرية غير عقلانية، ومن خلال منظور مجموعة متنوعة من الاتجاهات الفكرية والإيدولوجيات المعاصرة المتغيرة، لأن مناقشات مماثلة عقدت سابقاً حين تُرجم العمل إلي لغات أخري. بيد أنه لا يمكنني ألا ألاحظ أنه نظراً لعدم وجود استراتيجية للعلاقات الثقافية المتبادلة وعدم وجود الإهتمام المناسب لإيجاد تبادل ثقافي بين منطقتينا، تظهر »فيرديدوركه« كترجمة تاسعة الي اللغة العربية في مجال belles-lettres باستثناء الدواوين الشعرية والمسرحيات) من اللغة البولندية في السنوات ال 25 الماضية، وهي العمل الثاني فقط للمؤلف الذي يترجم إلي اللغة العربية. لذلك، أنا أشعر بكثير من الامتنان لصاحب منشورات الجمل - خالد المعالي أنه وجه بصره نحو بولندا وقام بالاهتمام بإبداعها. وهذا بعد لقائنا العرضي تماما في معرض الكتاب في الجزائر. بعد ذلك اللقاء بعامين كانت ترجمة فيرديدوركه جاهزة. أنتمي إلي جيل كانت »فيرديدوركه« تدرس له من ضمن القراءات الأساسية في المدرسة الثانوية، ولكن حتي قبل معرفتي بها من خلال دروس اللغة البولندية، كنت قد شاهدها »فيرديدوركه« علي المسرح بعد أن حولها إلي مسرحية المخرج ماتشي فويتيشكو وبالتالي أصبحت عبارات »فيرديدوركه« الأساسية (بوبو ودميمة وسمانة الساق) وأيضا الفكاهة والعبثية المميزة لغومبروفيتش جزءا من ثقافتي. بالنسبة للكثير من الشباب في بولندا كان صوت غومبروفيتش صوتهم ومعبر عن مشاعرهم في مواجهة واقع تقليدي. استمر إفتتاني ب »فيرديدوركه« طوال سنوات دراستي، علي الرغم من أن »يوميات «- تعتبر العمل الأكثر أهمية للمؤلف - قرأتها فقط بعد مغادرة بولندا إلي مصر، وربما نتيجة لتجربة سفري هذه الي مصر كانت مواجهتي مع لغة بولندية بارعة ووصف تجارب الكاتب المرتبطة بإنغماسه - بعد وصوله إلي الأرجنتين - في ثقافة غريبة تماماً (كم هناك من تشابهات!) وأيضا منظوره الجديد في المنفي من حيث تقييم الظواهر والأحداث، إلي جانب هذا التحول الذي يتسم به المهاجر ذ التحرر من تسلسلات هرمية والإلتزامات وصيغ التفكير والتأويل، المنتمين إليها مسبقاً، التي يصعب رؤيتها "من الداخل"، أثرت في أكثر مما لو أنها وقعت في ظروف أخري... قام غومبروفستش بترجمة »فيرديدوركه« إلي اللغة الإسبانية في الأرجنتين، بعد عامين من الحرب. »في البدية ترجمت أنا، بقدر استطاعتي من البولندية، ثم أخذتُ النسخة المطبوعة إلي مقهي"ريكس" حيث لعبتُ الشطرنج. أعاد أصدقائي الأرجنتينيين ترجمة العمل معي جملة جملة حيث بحثوا عن الكلمات المناسبة، تصارعوا في النحو والتعبيرات الجديدة وروح اللغة. سريعاً بدأت هذه الترجمة الجماعية تجذب الناس. في بعض الجلسات في "ريكس"شارك أكثر من عشرة أشخاص« ... كان تنفيذ عملية مماثلة ممكناً لأن مقاهي وسط القاهرة، مثل بوينوس آيرس، لا تزال مليئة بالأدباء، ويجب أن أعترف أنه في البداية كان هذا الخيار يبدو لي أنه الحل الأحسن. ولكن الواقع كان مختلفاً قليلاً. أولاً، عملت أنا (أيضا لحوالي 6 أشهر) علي الترجمة من البولندية، ثم صقلتها مع زميلي معتصم بهائي بلا كلل لعدة أشهر، حيث بحثنا عن الكلمات النادرة واللهجات الإجتماعية والتعبيرات الدارجة. في النهاية تم إرسال النص إلي الأستاذ هاتف جنابي، الشاعر والمترجم الذي يعيش في بولندا منذ سنوات عديدة والذي راجع الشكل النهائي للترجمة، من خلال إجراء تعديلات الأسلوب والتحرير اللازمة. اليوم، تُرجمت »فيرديدوركه« إلي أكثر من 30 لغة (مؤخراً مرة أخري إلي الصينية) وتحظي بشهره كبيرة. عمل غومبروفيتش علي نجاحه باجتهاد وتصميم لسنوات عديدة، ولكن ساهم أيضا في ذلك النجاح مترجميه ومروجي عمله، وكان أشهر هؤلاء كونستانتي كوت ييلينسكي. من بين الكتاب البولنديين البارزين الذين كرسوا أنفسهم ل »فيرديدوركه« يأتي برونو شولتز، الذي وصفها بأنها "مطبخ ذاتنا"، وفنان آخر بولندي مشهور هو الشاعر تشيسلاف ميلوش، الذي أجري لسنوات عديدة مراسلات مع غومبروفيتش وسمي إنتاجه "تمثيل النثر البولندي". أما الكاتب المسرحي سلافومير مروزيك فقد امتدحه في المجمل ومع ذلك لم يخش انتقاد سيده. وتحدث علانية عن فوبيات غومبروفيتش وسخر من تعلقه الشديد بمرحلة الشباب وإرتباطه الكبير بعمله الأدبي ونظرية الشكل التي اعتبرها تافهة وناتجة عن مأساته الجنسية الغير متحققة. في الأساس، كان عمل غومبروفيتش مثيراً للجدل، وخصوصاً في الفترة الأولي. أولاً هوجم الكاتب بتهمة "الإدعاء" ثم بتهمة أنه تشاجر مع تاريخ بولندا وتقاليدها، وأنه أظهر إلي ضوء النهار العقد الوطنية. لكن غومبروفيتش اعترض بعنف علي تلك الآراء وواجهها بازدراء، حيث أكّد في نصوصه النقدية العديدة إلي أي مدي كانت تلك الآراء فاشلة، كما وضّح بأنه لم يقاتل ظاهرة محددة في مجال الأيديولوجية أو البيئة، بل آلية تشغيل أية أشكال مثلها. وللمفارقة أن بعض الادعاءات التي تم نسبها إليه علي نحو خاطئ، مثل مكافحة الرجعية باسم القيم التقدمية (التي كان يسخر منها في الحقيقة!)، تم مصادرتها لاحقاً من قبل الدوائر التقدمية، التي أصبح لها هذا المؤلف المقدر في يومنا هذا، رمزاً للنكتة الأكثر ذكاءً ولكل شيء حديث في اشتباكهم الأيديولوجي بالمحافظين. العديد من الكتاب البولنديين والأجانب أشاروا إلي إنتاج غومبروفيتش، سواءً علي المستوي الشكلي أو الفلسفي. موقفه كرائد لتيارات العصر الوجودية والبنيوية تم تحليله العديد من المرات، بالإضافة إلي لب ظرفه الذكي وسخريته الحادة. طريقة أداء إنسان في الثقافة وعلاقته مع شخص آخر، وأيضا مسألة عدم نضجه - هي النواحي الأهم لهذا الهيكل الفلسفي - النفسي. ومن الأفضل أن نسمع صوت الكاتب نفسه حين يقول: الحاجة إلي اختراع شكل لما هو ما زال غير ناضج في الإنسان والغير متبلور والغير متطور، والتأوهات بسبب هذا الافتراض اليائس - هي العاطفة الرئيسية لكتابي. أود أن أثبت أن ثقافتنا ما زالت غير مكتملة وناقصة وهي بناء هزيل فوق عنصر الفوضي الذي من حين لآخر يفجر نظم التقاليد الثقافية. لذلك كل جزء من الكتاب ينتهي بغزو مدمر وهراء وفوضي وشذوذ التي تزحف من خلال شقوق الشكل وغرق الأبطال التعساء الذين يتزاعرون فقط بمظهر النضج (...) نعيش في عصر التغييرات العنيفة والتنمية المتسارعة، الذي تتكسر فيه الأشكال المحددة تحت وطأة ضغوط الحياة. الإنسان اليوم مهدد أكثر من أي وقت مضي من العالم السفلي، حيز من الغرائز الداكنة والجامحة، سواء الخاصة به أو الغريبة عنه. الخاصة به - لأنه يجب عليه أن يحس باستمرار بنقصه تجاه عصره الذي يتفوق عليه لأن التأمل الداخلي والنقد الذاتي قد ازداد، نتيجة لإحساسه بأن الفوضي علي بعد خطوة في ذلك العصر الثوري. الغريبة عنه - لأن العلاقة بين البشر والمجتمع قوية بشكل لا يقارن، لأن الطبقات الدنيا والأقل ثقافة تضغط علي الإنتالجنسيا التي تم عزلها عنهم حتي الآن. إذن نتيجة لتشوه التسلسل الهرمي الموجود سابقاً في الفرد والمجتمع فإن المحيط المظلم بمحتوياته الغير ناضجة والوحشية تندفع تجاهنا بقوة أكثر، وكأنما تلقي بنا في مرحلة "البلوغ" الثانية، وتستعبدنا في مراجعة عنيفة لنمط وجودنا بأكمله (في عموم المعني ) (من أجل تجنب سوء الفهم). يظهر من هذه الأطروحات أن »فيرديدوركه« عمل شامل لا يمكن تناوله فقط كمنتج لعصره ولا أن ينسب إلي حقائق إجتماعية وثقافية محددة، لأن القصة التي يرويها هنا ليست إلا ذريعة لطرح أفكار أكثر عمقا. البرجوازية التقدمية وملاك الأراضي والمدرسة والدوائر الأدبية هي ترتيبات وعلاقات تبادلية تنتج شكل الإنسان وتؤدي إلي "صبينته". وعلي الرغم من أن غومبروفيتش يبذل جهداً في الإدلاء بسلسلة من الملاحظات اللاذعة والسخرية الحادة في وصف تظاهر طلاب المدرسة وبروليتاريا الضواحي والأخلاق التقدمية وتقاليد النبلاء العتيقة وتفاهة وإدعاء الفنانين والميول الثورية للفلاحين والمواضيع الرومانسية، فرغم ذلك فإن غرض الكتاب ليس نقدها. بنية العمل مستحدثة بنفس درجة مستوي السرد وهي تمزج بين أشكال الأدب المختلفة، ومحاكاة ساخرة للأساليب الأدبية (رواية نفسية ومذكرات المدرسة ورواية حديثة عن التقدم ورواية رومانسية ورواية تقاليد النبلاء) التي يتخللها قصص قصيرة وتأملات. بالإضافة إلي ذلك، »فيرديدوركه« ممتلئة بالتلميحات والإقتباسات من أهم أعمال الأدب البولندي والعالمي التي لا يشير إلي أصحابها (حتي عنوان الرواية يدعي البعض أنه يشير إلي شخصية من رواية »بابيت« لسنكلير لويس: "Freddy Durkee) لكنها تلعب فقط دور إنشائي للرواية، بدون إثبات أو نفي أفكار مؤلفيها. من بين المراجع الغير مباشرة، والذي تجلي في أسلوب الكتاب، يذكر غروتسك رابليه وتهكمية وجموح الروايات البيكارسكية أو حتي ربط السمو بالحقارة علي طريقة سرفانتس. تتكون لغة الرواية من الكلمات المستحدثة والسخرية النابعة من وحي البيئة المحيطة (لغة طلاب المدارس ولهجة محكية عامية ومفردات من قاموس ملاك الأراضي وأحاديث الفلاحين والمنظرين وشعراء الطليعة) مركبة بعناية فائقة، وتحتوي علي عبارات متكررة وعكس طريقة التركيب اللغوي واستخدام كلمات رئيسية حاكمة يستخدمها طوال الروية والتعبيرات الغريبة (علي سبيل المثال: "جلوس ساحق") ووصف الطبيعة ببساطة وللغة المقدمات المختلفة. حينما أقوم بتلخيص أهم عناصر تكوين الكتاب، أتساءل من من مبدعي المنطقة العربية كان غومبروفيتش شريكا جيداً له في تلك التأملات الذاتية حول الأدب واشتباك الإنسان بالثقافة. كيف يمكننا أن نضع عمله في مواجهة الإنتاج الأدبي العربي لكي نجد نقاط للالتقاء أو مخرجات أدبية جديدة؟ في النهاية لعل الرواية قد خرجت إلي النور في لحظة تاريخية مماثلة. واليوم، في حين أن العالم العربي يواجه قضايا تصادم أنماط الحياة والثقافات، ونحن جميعا لا زلنا نواجه مشاكل التسلسلات الهرمية وصيغ التعليم والوظيفة، فإن التفكير في دور الثقافة ووظيفتها في العالم المعاصر وأيضا انتقاد الزيف وكشف الرداءة ما زال تبدو أنها ضرورية كما كان في أيام غومبروفيتش. بالإضافة إلي ذلك، لاحظ الكاتب سابقاً الدور الذي ستلعبه مرحلة الشباب في الثقافة، ورأي خصائص تلك المرحلة في الأرجنتين (التي كانت تذكره ببولندا) وكثير من ملاحظاته يمكن تطبيقها بنجاح علي الثقافات الغير أوروبية، وربما يعد ذلك واحد من أهم الأسباب التي تجعل افيرديدوركةب مقبولة بشكل جيد من قبل تلك الثقافات.
دعونا نتصور أن غومبروفيتش اليوم يغادر بولندا إلي مصر بدلا من إلي الأرجنتين، ويصل عبر البحر المتوسط إلي الإسكندرية. هل سيضع أسسا للتاريخ غير الموصوف بين العالم "الثاني" و"الثالث"، وكلاهما تمزقها رياح الأيديولوجيات؟ هل سيبدأ بالحوار مع الفنانين وسيجد مشجعيه؟ هل سيستوعب الأدب المصري روح فنه وسيردد صداه؟ وأخيرا، هل سيترك أتباع له الذين يرتبطون بإنتاجه ويواصلون عمله؟ نترك افيرديدوركهب في يدي القارئ العربي بكل ثقة في أننا سوف نجد الإجابة علي هذه الأسئلة. أجنيشكا بيوتروفسكا هي مترجمة الأدب العربي والبولندي ودكتورة في الأدب العربي من جامعة آدم ميتسكيفيتش في بولندا حيث اشتغلت محاضرة للأدب العربي واللغة العربية، مقيمة منذ 4 سنوات في القاهرة. حاليا تعمل علي مجلة لترجمات الأدب البولندي إلي اللغة العربية.