من المهندسين ركبت تاكسي مع صديق، وجهتنا وسط البلد، 4 شارع عبد الخالق ثروت.. تجاذبنا أطراف الحديث عن المرشحين في انتخابات مجلس نقابة الصحفيين، وقبل أن ننزل من التاكسي أعطاني صديقي سيجارة من علبته الروثمان، فقبلتها لأن دخان البايب كان قد نفد. تخطيت زحام السرادق أمام سلم النقابة بسرعة قاصدا الدور الثامن حيث الكافتيريا، لأدخن السيجارة في هواء طلق، وأستكمل من بعض زملائي أسماء ستة من المرشحين لأنتخبهم.. فالمطلوب اثنا عشر مرشحا، وأنا مقتنع بستة أعرفهم عن قرب وباق ستة. انتهيت من المهمتين.. السيجارة والتصويت ليصبح في إمكاني أن أذهب لشارع طلعت حرب لشراء دخان البايب. مع شعور بالراحة كلما غادرت مكانا مزدحما دبت خطواتي الثابتة علي الرصيف المحاذي لمبني دار القضاء العالي المهيب، وفجأة.. بينما أعبر الشارع الهادئ.. لم أحسن تقدير المسافة بيني وبين سيارة قادمة.. صدمتني فسقطت بثقل جسدي كله علي كتفي الأيسر، وارتطمت جبهتي بحافة الرصيف.. كانت إصابتي خفيفة علي ما يبدو، فنبضي كالمعتاد، لكنني أصبت بإغماءة، حسبما كان يقول بعض المارة وهم يحاولون إفاقتي برش قليل من الماء علي وجهي.. قمت أنفض التراب عن ثيابي، وبصعوبة أتبين ما حولي.. رأيت نفسي شبحا أقوم من علي الأرض، وأري المكان غير المكان!
وجدت نفسي أسير في صحراء المقطم علي طريق غير ممهد.. في البعيد باتجاه الشرق سرادق ضخم، تعلوه خيوط مظلمة تطارد ببطء ودأب ضوء الشمس المنسحبة إلي الغرب، وعلي زوايا السرادق المهيب تتوهج أضواء كأنها نجوم غادرت السماء إلي الأرض، ونسيم من الهواء البارد يحمل إليَّ موجات من صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد المعدني الرائق، وحالة من السكينة لم أشعر بها من قبل وأنا أسمعه يتلو »يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَي رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي«. تسابقت خطواتي نحو السرادق مأخوذا بسحر المشهد كله.. النجوم الأرضية والهواء البارد والصوت الملائكي، ورجفة سربلت جسدي، فأوحت إليَّ أنني مقبل علي شيء لم يره بشر من قبل. عند المدخل تباطأت خطواتي من هول ما رأيت، فتمنيت أن يتوقف الزمن لأتأمل الوجوه والأجواء، انحبست أنفاسي وأنا أسلم علي الواقفين عند الباب.. لم أستطع أن أخفي أمارات الذهول في عينيَّ ووجهي وأنا أنقل يدي من يد رجل إلي آخر، وجرت علي لساني كلمات العزاء وكأنها حروف مبعثرة في الهواء: »البقية في حياتك«.. »آدي حال الدنيا«.. »كلنا لها«. لم أتذكر بدقة ردود الآخرين علي كلماتي، لكنني حين خذلتني قدماي عند أول مقعد خال، هويت بجسدي وكأنني سرت ألف عام.. رحت أستعيد النبرات المختلفة لعبارة واحدة »حياتك الباقية«.. »حياتك الباقية«، وأنا أتأمل تلك الوجوه المهيبة القادمة من زمن سحيق.
لقاء الوحشة عند مدخل السرادق جلس »أول الواقفين«.. ملامح خشنة تحمل تعبيرات ما بين الحسرة والغضب.. كف عريض وصوت جبلي أجش يوحي بالوحشة.. عاري الكتف كأنه في زي الإحرام. حين تلا عبد الباسط عبد الصمد »وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ«، أطرق برأسه إلي الخلف قليلا، وتذكر حياة.. لابد أنها علمت الخبر فجاءت إلي السرادق تؤدي واجب العزاء.. أوحشته بشدة، منذ زمن لم يرها. استأذن من جواره بهدوء وسار في خطوات وئيدة وسط المعزين لا يثير انتباه أحد. خلف حجاب شفاف في ركن كبير بالقاعة.. اقتحم أنفه عبق كثيف من روائح العطور الأنثوية كاد يلعب برأسه، بعد أن أيقظ في ذاكرته خبرة الشم في سالف الأزمان، عندما كانت أنفه تميز عن بعد بين الحيوانات والبشر، وبين الذكور والإناث منها من خلال روائحها.. تعرف علي الوجوه وسط الزحام. مارلين مونرو بمساحيق وجهها ذات الألوان الصريحة، وتحية كاريوكا في بدلة رقص فاتنة، وهدي شعراوي ترتدي فستانا أسود غاية في الأناقة، وشجر الدر في زي جواري المماليك، وحتشبسوت علي رأسها تاج من الذهب تزينه الكوبرا المجنحة، وعن يمينها كليوباترا تمسك في يدها ثعبانها الحي، وفي الركن هند بنت عتبة علي حواف فمها بقايا من كبد حمزة، وإلي جوارها صفية العامرية في جلباب منزلي تشد علي وسطها حزاما من الخيش، وفي وجهها مظاهر إعياء كأنها جاءت للتو من خلف جذع النخلة حيث وضعت وليدها، وبجانبها صفية المندلية، منهكة من أثر إخراج الشياطين من جسدها. حياة في صدر ركن النساء تلقي بعينين زائغتين نظرة لوم إلي حيث تجلس ماري منيب وزينات صدقي تتبادلان مع النادلات نكاتا فاحشة، فتعلو أصوات ضحكات ماجنة.
ناديت عليها فجاءتني.. كما رأيتها أول مرة.. حبشية سمراء مكتنزة الصدر والأرداف، مدورة البطن كأنها لم تلد ألفا من البنين والبنات، بضة الملامح كأنها لم تعمر تسعمائة وثماني وعشرين عاما.. شعر أسود طويل مجدول بعناية علي كتفين عاريين، ورداء أبيض شفاف يكشف عن كل مفاتنها الأنثوية من الصدر إلي الفخذين وما بينهما، وابتسامة بوهيمية علي وجهها.. لم يبد أنها أهالت التراب علي رأسها أو خمشت وجهها بأظافرها حين علمت بالخبر الجلل، بل استحمت استعدادا لحضور المناسبة الرسمية وتصدر ركن النساء. أخذتها بين أحضاني وربت علي ظهرها نصف العاري، وأنا لا أكاد أصدق أننا نقف هذا الموقف العجيب. - البقية في حياتك يا حية (اسم الدلع الذي كنت أناديها به كلما اعتدل مزاجي). ردت منتبهة إلي لغتي المتبسطة: - حياتك الباقية يا واقف. طبعت قبلة علي جبينها وعدت أدراجي إلي مجلس الرجال، لأتصدر القاعة حيث كنت أول الجالسين لاستقبال وجهاء التاريخ.
حروف طائرة في الصف المقابل جلس تشي جيفارا بلحية سوداء يتخللها بعض البياض وشعر رأسه مرسل إلي الخلف دون هندام.. علي قميصه آثار دماء جافة مختلطة بصدأ الرصاصة التي اخترقت صدره. برفق تناول من طاولة أمامه علبة من السيجار الكوبي.. أخذ واحدا منها وقربه من أنفه ليتأكد أنه من النوع الجيد، وانتظر حتي أتاه فنجان قهوة سادة، ثم أشعل سيجاره. تصاعد دخان أزرق كثيف يرسم في الهواء حروف كلماته الأسطورية، فيقرأها من يتطلع إلي أعلي من الجالسين. »لنكن واقعيين، لنحلم بالمستحيل«. »أحس بآلام الصفعات التي وجهت إلي كل مظلوم في هذه الدنيا علي وجهي.. أينما وجد الظلم وجدت وطني«. »دماء الشهداء وحدها هي التي ترسم حدود الوطن«. «ليس مهما متي أو أين أموت، لكن المهم أن تستمر الثورة، فلا ينام البرجوازيون بكل ثقلهم فوق أجساد أطفال الفقراء والمعذبين، ولا يغفو العالم بكل ثقله علي جماجم البائسين والكادحين«. »المستقبل ملك للشعب، وتدريجيا أو مرة واحدة سيستولي علي السلطة، هنا وفي كل مكان، والمصيبة أن الشعب يحتاج إلي أن يتعلم، وهو لا يستطيع التعلم قبل أن يتولي السلطة بل بعدها، أي أنه سيتعلم فقط من أخطائه، وستكون أخطاؤه فادحة، وتكلف الكثير من الأرواح البريئة أو غير البريئة ممن ارتكبوا خطيئة كبري ضد الطبيعة؛ هي عدم القدرة علي التكيف«. »سأموت وأنا أعلم أن تضحيتي تنبع فقط من العناد.. رمز حضارتنا الفاسدة المنهارة، وأعلم أيضا - وهذا لن يغير مجري التاريخ - أن الثوار سيموتون وقبضاتهم مضمومة، كعلامة علي الكراهية والصراع، فهم ليسوا رمزا بل أعضاء حقيقيون في مجتمع يتم تدميره«. »الاشتراكية الحقيقية أن يصبح ضمير كل فرد هو الضمير الجماعي، والضمير الجماعي هو ضمير كل فرد، وهذا يتطلب بناء جديا وعميقا وطويل المدي«. »ستصبح الأمريكتان مسرحا لمغامراتي بطريقة أعظم بكثير مما يمكنني أن أتخيل«. »لسنوات طويلة سيتصدر القديس كارل ماركس محور دائرة الثورة لكنها ستترك لي مساحة علي غلافها الخارجي«. »الثورات والتحولات الاجتماعية الجذرية والمتسارعة تتم في ظروف محددة، ونادرا ما تخرج ناضجة تماما، ولا يمكن التنبؤ علميا بكل تفاصيلها، ولا يمكن أن تكون أبدا نموذجية، فهي نتاج العاطفة وارتجالات البشر في نضالهم من أجل التغيير الاجتماعي«. من بين دخان كلماته تعرف جيفارا بصعوبة علي الوجوه المجاورة.. ملامح تشي بخليط من الوجوم والدهشة والرضا بالمكتوب.
سؤال ابن أمه وقعت عينا جيفارا علي إكليل من الشوك فوق رأس مطأطئ إلي أسفل، وجسد عار إلا من قميص مهلهل علي كتفيه وإزار يستر بالكاد عورته، وفي كفيه دماء متجمدة تملأ الفراغ الذي تركته المسامير.. عرفه من هيئته التي اشتهر بها، وأصبحت عنوانا له، وإن اختلف الناس في ألقابه، ياسين ابن صفية، ابن الرجل الكبير، المنقذ، الأستاذ، كل حسب اعتقاده فيه، لكن اللقب الأعمق دلالة كان ابن أمه. بسرعة أدرك جيفارا الشبه بينهما، شبه لا يقتصر علي الهيئة بل يشمل الروح أيضا، فكلاهما صار أيقونة مقدسة للمقاومة.. جيفارا بالثورة وابن أمه بالتسامح. عن يمينه جلس كونفوشيوس والمهاتما غاندي، وعن يساره جلس عُدي بن أبي غالب، وثقة العالم ببواطن الأمور واضحة في ملامحه ونظرته الحادة. مال عليه عدي برأسه وسأله بلغة صارمة: - في آخر لحظات حياتك نطقت عبارتك الشهيرة: