لم يكن القصر غائبًا طوال السّنوات الماضيّة، كانت حكاياته تَنساب في كلِّ وقتٍ ومع كلِّ مناسبةٍ مازالَ واقفًا هناك في مكانه علي ربوةٍ عاليةٍ» هكذا بدأت أسماء هاشم روايتها الجديدة اصَخَب القصر المهجورب الصّادرة عن دار الشّرق للنشر والتوزيع 2016 لكن في الحقيقة هي لم تكن تصف حالة القصر وصخب حكايته بقدر ما كانت تصف حالتها بعد فترة غيابها منذ أن كتبتْ «المؤشر عند نقطة الصفرب2002 دار ميريت للنشر والتوزريع، حتي إنّها صَدَّقت بالفعل أنّ المؤشر توقّف ولن يتحرك خطوة للأمام. كانت ثمّة ظروف حالت دون توالي حكاياتها التي أَجْهضتها في عقلها ولو مؤقتًا رغمًا عنها. مَن يَعرَف أسماء جيدًا يُدرك هذا، ويُدرك حجم المُعاناة التي عانتها عقب نشر روايتها الأولي، ومَن لا يعرَفها وقرأ مجموعتها التي جاءت متأخّرة كثيرًا عن أولي أعمالها اأسما تكتب قصّة حُبٍّ» (2013 عن دار الحضارة) يُدرك أنّ أسماء كانت تُعاني حصارًا فرضته عليها تقاليد تتحكّم فيها ذكورية لا تؤمن بحقِّ المرأة في الكتابة (وهي الآفة التي تُعاني منها معظم كاتبات الجنوب)، لذا كانت أسماء أمام خياريْن إما أنْ تَقتلَ موهبتها التي تفجّرت كبيرة، فما أن نشرت أولي قصصها في جريدة أخبار الأدب، حتي أرسل رئيس تحريرها آنذاك الرَّاحل الأستاذ جمال الغيطاني الذي كان أشبه بجواهرجي في التقاط الدُّرَّر من المواهب، مُحرِّرًا ليُجري حِوارًا علي صفحتيْن، لكاتبة لم تنشر إلا قصّة واحدة بل كتب تعريفًا ضاهيًّا بالكاتبة إلي جوار قصّتها المنشورة في ذات العدد من الجريدة، أو أنْ تصبر علي أن تراوغَ هذه السّلطة، ما أن تأتيها الفرصّة، وتنتقمَ بقتل هذه الذكورية علي الورق.
أوّل قصّة نشرتها أسماء هاشم، وهي مازالت في قريتها في الجنوب المُلاصقة للجبل، والتي تتلصّص علي النيل بحذرٍ وحياءٍ كانت بعنوان اطائرة ورقيّة»، كتبت في قصتها أحلامها التي كانت تتوازي مع أحلام هذه الطّائرة التي تحمل األوان قوس قزح المبهجة»، فحلّقت بأحلامها عاليًّا فوق المكان والبشر، وأيضًا فوق النخيل وقمم الجبال، كانت تسرح خلف حُلمها الذي آمنت به أمها دون الجميع وفقط، لكنها نسيت أن هذه الطائرة كان طرف خيطها مشدودًا إلي المكان، وبالأحري لأنساق المكان المهيمنة، والتي تركتها تُحلِّق قليلاً مع أحلام الطّائرة التي استطاعتْ أن تُحقِّق لها صَديً علي مستوي الواقع، وهو ما ترجمته في روايتها الأولياالمؤشر عند نقطة الصفرب التي اُستقبلت استقبالاً حافلاً في الوسط الأدبيّ، رغم أن صاحبتها لم تنشر إلا القليل مِن القصّص هُنا وهناك في الصحف والدوريات. كان تحليق الطائرة سببًا لأن تلتفت اليد القابضة علي خيطها، برغبات التحرّر والتحليق التي كانت تراود صَاحبة الطائرة الورقيّة، فقد ظنَّ الجميع أنّها لعبة ما تلبث أن تَخْمُدَ، لكن الأمر خرج عن نطاق أيديهم، ومن ثمّ كان لِزَامًا عليهم أن يَشدُّوا الحبل لتهوي بها إلي الأرض بعدما تجاوزت المَسموح به في التحليق وتهدأ أو تصمُّت. عندما أصدرت روايتها الأولي االمؤشر عند نقطة الصفرب عام 2002 صَدَّرتها بهذا الإهداء: الحُلم يأبي أنْ يتحقّق، لقادم أنتظره بشوقٍ ولهفةٍ، ولأسما المُتْعَبة»، كان الإهداء يستنبط ما تشعر به في داخلها ويراوده من خوف علي حلمها، حتي إنّ مَن قرأ هذا الإهداء وقت صدور الرواية زعم أنّها مفرطةٌ في التشاؤم، لكن الحقيقة أكّدت علي أنها كتبتْ بتلقائية وفي شبه نبوءة ما عاشته بعد المؤشر، الذي لاقي صدي طيبًا في الأوساط الأدبية، وأيضًا عند القارئ، فظلّت بطلاتها سُميّة وعيشة وزينب في منطقة من لا وعي الكثيرين، البعض كان يتساءل في استحياء عن مصائرهن، والبعض الآخر يترقب حكايات جديدة تنسج عنهن ويأمل في أن تكون حكايات مرضية. في سياق التساؤّل والترقُّب كنتُ متحفزًا (كغيري) ومنتظرًا لعمل جديد لها، لكن خَاب الأمل وطال الانتظار، فعلي ما يبدو أن نبوءة روايتها تحقّقت، فظل المؤشر علي حاله "عند نقطة الصفر" لم يتعداها إلا بعد سنوات طويلة من الانقطاع. بعد انقطاع دام سنوات كثيرة بعنوان أصدرت "أسما تكتب قصة حبٍّ" عام 2013، كان اختيار العنوان دالاً وكأنّها تُعلن التحدي لهذه الأوضاع التي حبستها، وارتكنتْ لناموسها، فتعلن لمن قَبَعَ وصَادرَ موهبتها بأنّها مازالتْ تُمارس غوايتها، حتي لو حُبست في كهوف ووَضَعوا علي أفواها رصدًا يمنعها من الخروج، فخرجت قصصًّا وحكايات. وأيّ قصص تلك، إنها قِصص حبّ، وهو ما يُعد مخالفًا لتلك الأنساق التي ولدت فيها. كانت مجموعة "أسما تكتب قصة حب" بمثابة إعادة للروح التي خرجت من فترة وظلت في غيبوبة حتي عادت إلي الجسد، بل أعادت الجسد والكتابة إلي الوجود. عادت أسما في حكاياتها إلي عالم الطائرة الورقية وقريتها من جديد تستحضرها في الكتابة بعدما سكنت القاهرة. غادرت أسماء القرية منذ زمن بعيد وإن كانت حملتها معها بعد زواجها إلي القاهرة، بعاداتها ورائحة الدلكة التي طاردت المسافرين في قطار الصعيد، وكانوا يتغامزون عن مصدرها؟ (هكذا قالت في شهادة لها ستُنشر في مجلة الثقافة الجديدة عدد فبراير) فعاشت في نداهة القاهرة، لكنها لم تغيّر جلدها وتنسلخ عن قريتها أو حتي عن لغتها وهويتها، صارت متمسكة بالقرية أكثر من ذي قبل، فاستحضرتها في جميع قِصصها التي كتبتها وهي في القاهرة؛ بنسائها وحواديت الجدّات والأجدّاد وبعاداتها وبلهجتها أيضًا، والأهم بمخزون حكايتها. وكأنّها تعلن انفصالها التام والأبدي عن المدينة التي سكنتها مكانًا وتركتْ رُوحها معلّقة هناك حيث الجنوب، الأغرب أنها لم تستثمر القاهرة كمكان ثقافي وملتقي للندوات واللقاءات الثقافية التي تُعطي زخمًا للمبدع. حضور القرية تجاوز الوصف الرّومانسي لنخيلها ونيلها إلي أن تكون حاضرة بشخصياتها وواقعها المزري، وقهرها لأُناسها وأيضًا ببكورتها وبخيباتها وأفراحها المُختلِّسة من ركام الأحزان، وبدفء شمسها، وبخجل حبّ فتياتها من خلف الأبواب، وضلفات شبابيكها، وبتواطؤ الأخوات والأمهات في العشق. ارتمت في أحضان قريتها من جديد بكتابة تفرقها بمسافات عن بنات جيلها اللاتي سبقنها بكثرة إبداعهن وبذيوع أسمائهن وما حققنه من جوائز هنا وهناك، إلا أنهن لم يسبقنها بملكة الكتابة وعجينة الإبداع التي احتكرتها لنفسها، فصارت غير شبيهة بأحد، دون أن تجترَّ أوجاعها علي الورق أو تكتب بتكلُّف، وتعوِّضها في الوقت ذاته عن سنوات الغياب التي لم تخلق ظواهر جديدة، فظلّت الأسماء كما هي.
كانت لها قماشتها الخاصة، غابت عنها لفترة لكنها عادت إليها لتنسج خيوطها من جديد وتغزلها بعرق حكايات لا تجد لها شبيهًا، وشخصيات تظلّ تتردّد وتطاردك في كلّ مكانٍ، فحكاياتها لا تشبه أحدًا، وكذلك شخصياتها، معجونة بطينة مختلفة، يعرفها أبناء الصعيد حق المعرفة، لكنهم لا يعرفون كيفية صياغتها أو صبّها في قوالب حكائيّة. قصص قادمة من طمي وحكايات الجنوب، معصورة بروائح التراب المختلطة ببقايا السّباخ وفضلات الطيور وروث الحيوان، وأيضًا بعرق الفلاحين ودموع المقهورين، ومعصوبة بعصبات المحرَّمات والتابوهات التي تُشهر ضدّ الفتيات، وإن كنّ لها صابرات ومتحملات لا يجأرن بشكوي أو يظهرن تبرُّم وكأنّ الناموس قدرهن الذي يحملنه، كما كان سيزيف يحمل صخرته في طريق الشقاء الأبدي الذي آثر ألا يُفارقه. أعادت في كتاباتها النسوة المنعزلات في تلك البقعة من نيل مصر، إلي الحياة، بدسائسهن وأوجاعهن، وأحزانهن، وحبهن المجهض، وأيضًا قهرهن، وهو ما استلفتَ ناقدًا كبيرًا مثل فاروق عبد القادر الذي خصّها بدراسة في كتابه "الرِّواية العربيّة المعاصرة"، وبالمثل الدكتورة شيرين أبو النجا، في كتابها "نسائي أم نسوي"، فأعمالها علي قلتها محمّلة بشجن للموروث وللمكان؛ شجن مضفور بحكايات بعضها يذهب إلي مناطق سحيقة من الوعي كما فعل يحيي الطاهر بحزينة