ذات يوم كان يحدثني الأديب الكبير الراحل جمال الغيطاني، وتطرق حديثنا إلي مجلة " ديوان" التي يرأس تحريرها الزميل الشاعر إبراهيم داود، فإذا به يقول لي كنت أتمني أن يكون الملف المعد عن " الحدود" في ديوان منشور في أخبار الأدب، فقلت له إن ثقافة الحدود يكتب عنها عندنا دائما الصديق الشاعر مسعود شومان، وعندما أطلعت علي الملف أدركت الجهد الكبير المبذول في هذا الملف، واليوم أعترف أنني كنت أتمني- أيضا- أن يكون الملف الموجود في هذا العدد من " ديوان" عن نهر النيل منشورا في أخبار الأدب. فهذا الملف وثيقة غابت للأسف عن المفاوض المصري في تفاوضه بشأن سد النهضة الأثيوبي، لذا أتمني أن يتم قراءته بدقة من جانب المسئولين، فقد استطاع الزميل ماجد محمد فتحي الذي أعد الملف أن يشرح في مقدمته أبعادا مهمة ومؤثرة عن قصة المصريين مع النيل فيقول: " توجهت أنظار المصريين وضمائرهم- مؤخرا وبقوة- إلي النيل لما شكله تهديد التحكم في منابعه الحبشية من خطر علي مصالح الشعب المصري المائية والحياتية. وإذا كان التاريخ يبين لنا ثوابت الحق التاريخي والجغرافي للشعب المصري في حصته من مياه النيل، فإننا في هذا الملف نبين ما خفي علي اهتمامات المصريين العادية من الحق " الأدبي والوجداني" لمصر في مياه النيل، حيث أهمل القارئ المصري البحث في كيفية اكتشاف منابعه، وكيف ساهمت مصر في ذلك بشكل مباشر وغير مباشر علي امتداد آلاف السنين... وربما كان إهمال وزارة التربية والتعليم المصرية لذكر هذه القضية التاريخية والجغرافية المهمة في مناهجها باعثا ل" ديوان الأهرام" علي إعداد هذا الملف، مخاطبة ضمائر المصريين والسودانيين أيضا- الاهتمام بحقائق التاريخ والجغرافيا، حتي لا تتوهم أمة أن باستطاعتها سلب مصر حقها التاريخي والأدبي في مياه النيل، فمصر هي أخطر دولة في دول حوض النيل، ورغم أنها دولة المصب، فإن فيها من عوامل القوة والحضارة ما لم يتوافر لدول الحوض قاطبة بما فيها دول المنبع". الملف المهم الذي يحمل عنوان " حابي.. اللغز الذي شغل العالم منذ فجر التاريخ" يتضمن معلومات وخرائط عن النيل، لم يلتفت إليها أحد من قبل، وتبين الجهد الكبير الذي بذلته مصر علي مر العصور لاكتشاف منابع النيل، باعتبارها جزءا من تاريخ هذا الشعب، الذي يدافع الآن عن حقه في حصة مياه عادلة، لاسيما أنه أولي لهذه المنابع أهمية كبري، وخرجت من هنا جحافل من العلماء والجيوش لاكتشاف هذه المنابع، وألفت المراجع التي رصدت لهذه الاكتشافات، واليوم لا يمكن لأحد أن يسلبنا حقنا، ويجب أن يكون المفاوض المصري علي دراية كاملة لمختلف الحقب التاريخية ولدور مصر العلمي والثقافي والتعليمي في هذه المنطقة. فيخصص الملف جزءا مهما يسرد فيه الحملات المتعاقبة لاكتشاف منابع النيل، حتي التي تجاهلتها المراجع الأجنبية، من ذلك الموضوع المنشور بعنوان " البكباش سليم قبطان.. وحكاية ثلاث حملات مصرية" وفيه يشير إلي أن كل الجهود التي بذلت لاكتشاف سر النيل من عهد قدماء المصريين إلي العصور الوسطي تتوقف عند منطقة المستنقعات والسدود التي كانت تقف حائلا دون الاتجاه إلي المناطق الواقعة جنوبها، فبقي النهر وراء هذه السدود والمستنقعات سرا غامضا حتي امتدت الإدارة المصرية إلي السودان 1821، واستتب الأمن في ربوعه، فأرسل محمد علي البكباشي سليم قبطان، للكشف عن منابع النيل، فقام بثلاث حملات في الفترة بين 1839-1842... وترجع أهمية هذه الحملات أنها أثارت اهتمام الشركات التجارية والهيئات العلمية لهذه المنطقة، فشدوا الرحال إليها. الملف ملئ بالموضوعات والمعلومات الدقيقة عن نهر النيل والمحاولات المتتالية لاكتشاف منابعه، كما يضم موضوعات عن عشق المصريين لهذا النهر وتخليدهم له سواء في أعمالهم الابداعية أو رسوماتهم، ولعلي أتوقف لتأمل ما أورده د. عبد العزيز جمال الدين في مقاله " قال الشر: سأحاربكم بلصوص الصحراء. وهتف المصريون: سنهزمكم بالماء والرقص" فقد ورد في مقدمته المقتبسة من كتاب " تاريخ المصريين" لهيرودوت أن " كل البلاد التي يصلها ماء النيل هي وطن للمصريين، وإن الأقوام الذين يشربون من مياهه إنما هم مصريون". الملف بأكمله يستحق القراءة والتأمل والشكر لإبراهيم داود ولمعد الملف ماجد محمد فتحي، ولكل الزملاء في مجلة " ديوان".