العلاقة التحويلية بين النص، والواقع تيمة فنية متواترة في كتابة الروائي السوداني المبدع أمير تاج السر؛ فقد كان المؤلف (أ.ت) في "صائد اليرقات" يعايش الشخصيات الفريدة، ثم يقوم بتخييلها؛ مثل شخصية المخبر المتقاعد فرفار الذي كان بدوره يراقب طقوس المؤلف، أما رواية "العطر الفرنسي"، فقد بدت الممرضة الفرنسية المتخيلة فيها كتشبيه يستبق الواقع، ويفككه في وعي البطل / علي جرجار، وبدت أخيلة أسماء كموضوع للهوية الذاتية، والجمالية للبطل في رواية "366"؛ وكأنها تشير إلي درجة متعالية من الحضور الذي يقع في مفارقة مع الواقع. ويكشف أمير تاج السر في نصه الروائي "طقس" الصادر عن دار بلومزبري بالدوحة - عن تجاوز الفن لحدوده الخاصة، وأبنيته الداخلية باتجاه اتساع الإنتاجية الإبداعية؛ وما تحمله من علاقات تشابه، واختلاف محتملة مع المستويات المتعددة من الواقع فيما يشبه السيمفونية ذات النغمات المتصاعدة من وقائع يومية بسيطة يلتقي فيها المؤلف / البطل بشخص أربعيني يشبه بطل روايته، إلي مستوي التفاعل بين الواقع، وصيرورة النص في علاقات التشابه، والاختلاف بين مصير الشخصية في النص، وموتها المؤجل في الواقع، حتي يستبق الواقع النص عبر آلية الاستبدال التي تضع الواقع في السياق الفني، وتشبيهاته؛ فنجد المؤلف قد قيد بالسلاسل مثل بطل روايته، وكذلك شخصية جوزيف أفرنجي الفريدة التي جمعت بين العودة إلي الأسطورة، والموقع الهامشي في آن. وتعرف عملية اتساع الفن خارج حدوده بأفول الفن داخل الإطار في الاستراتيجيات الفكرية ما بعد الحداثية؛ وهو ما نلاحظه في خروج نص روائي كتبه المؤلف / البطل بعنوان "أمنيات الجوع" عن إطاره في سياق انتظار نص واقعي آخر مكمل؛ فالواقع يختلط باستراتيجيات الكتابة، واستبدالاتها الإبداعية عند أمير تاج السر هنا في مستويين رئيسيين من التأويل؛ هما: الأول: الاتساع الجمالي للعلامات، والأحداث، والشخصيات خارج النص في وعي، ولاوعي المؤلف / البطل؛ وهو ملمح ما بعد حداثي؛ يصفه جياني فاتيمو في "نهاية الحداثة" بالتفجر الاستطيقي خارج الحدود التقليدية، ويمثل نفيا للواقع الذي عينه الموروث للتجربة الجمالية؛ كقاعة الموسيقي، والكتاب، وصالة العرض. (راجع، فاتيمو، نهاية الحداثة، ت: د. فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1998، ص61). لقد تواترت شخصية نيشان حمزة وفق سياق واقعي يشبه الفن في وعي، ولاوعي المؤلف؛ فهو مهمش، ومصاب بفصام موسمي، ورغب في دراسة القانون، ويحب ممرضته، ويصاب بنوبات هجوم غير مبررة علي الآخرين، أو يتقمص شخصية عامة، وقد يموت بسرطان الغدد، ويلتقي نيشان بالمؤلف؛ فيحاول الأخير تعديل مصيره بمساعدته علي الشفاء، أو تحسين إقامته، أو إنقاذه من مصيره المحتمل في الرواية. لقد صار الواقع بحد ذاته فنيا في وعي المؤلف؛ إذ تعامل مع العلامات الواقعية؛ مثل نيشان الآخر، وجوزيف، والممرضة، وشخصيات الحي الماليزي بوصفهم علامات تقع بين النص، والواقع في مستواه الفني / التشبيهي؛ فالمؤلف يقوم بتعديل النص خارج الكتاب؛ فهو يحور السياق الواقعي بوصفه أحد تداعيات الإنتاجية الإبداعية؛ وكأن الكتابة تقع في صيرورة الواقع، وسيرة المؤلف، وشخصياته. الثاني: فرضية التخاطر؛ فعبد القوي الظل، كاتب المسرح، وصديق المؤلف يرجح أن يكون نيشان قد بعث برسائل روحية خفية للمؤلف؛ لينقذه من مصيره المحتمل في النص، وأنه قد مر بتجربة تخاطر حلمية لاواعية مع قس يدعي ماثيو كان ينتقد الديكتاتورية، ودخل السجن بعد كتابتها في مسرحية. التشبيه هنا يلاحق الأصل؛ فنيشان الواقعي الملتبس بالنص، يطارد المؤلف؛ ليتجاوز نيشان النصي عبر التخاطر الذي يحدث في مستويات متباينة من الوعي بين نيشان، والمؤلف؛ فهل يمثل التخاطر خلاصا تنبؤيا لنيشان؟ أم أنه رغبة في دخوله لنص آخر لم يكتب؟ وبصدد فرضية التخاطر، وعلاقتها بالوعي، تري تيريزا إم. كيلي أنه في الحالات العفوية يتصل التخاطر بمتطلبات اللاوعي، وقد يتعلق بالوعي، ونصف الوعي بتحسين شروط الوجود الشخصي، أو بالجوانب العملية، والتكيف اليومي. ويمكننا ملاحظة ثلاث تيمات في النص؛ هي مستويات التداخل بين الفن، والواقع، وتفكيك الحدث، واستراتيجية التحويل الحكائي. أولا: مستويات التداخل بين الفن، والواقع: يمتد الحكي فيما وراء النص القصصي في رواية "طقس"، ويلامس الصيرورة الكونية للمؤلف، وشخصياته الملتبسة بالواقع؛ وابتداء من عتبة العنوان، نلاحظ مدلول الفاعلية الخفية للنص في طقس الكتابة نفسه؛ فهو محاط بشيء من التبجيل الذي يتجاوز فكرة وجود منتج أول مركزي، أو مؤلف؛ فالطقس يتعلق باتصال كوني بين العلامات، وبحضور المؤلف كوسيط لا مركزي. وتبدأ مستويات تداخل الفن والواقع في النص ببكارة الدهشة المتعلقة بتطابق ملامح نيشان الواقعي المحتمل، بنيشان النصي، ثم يلاحق التشبيه الأصل؛ حين يكتسب نيشان الواقعي السمة الاستعارية الكامنة في وعي المؤلف، ويجسد فاعلية الكتابة الخفية، واتصالها بالسياق الاجتماعي؛ فنيشان العامل البسيط في النص، يقطن في مكان هامشي يدعي وادي الحكمة بيوته مصنوعة من النخيل، والصفيح، كما يطلب نيشان المؤلف؛ وكأنه يستنزف استقلال الحكاية، وبنيتها الجمالية في وعي المؤلف، ثم نلاحظ ذلك التعارض ما بعد الحداثي بين مدلول المكان الهامشي لنيشان، والمكان فوق الواقعي المرتبط بنموذج الأمومة في لاوعي المؤلف في بيت أم سلمة التي كان المؤلف يجد راحته في بيتها، ثم يحتل التشبيه موقع البطولة؛ وكأن الواقع يحاكيه في الحركة الأخيرة من النص حين تستبق توقعات المؤلف الخيالية حضور نيشان الواقعي؛ فهو يرمي الدمي علي المارة، ويقيده صاحب الشاحنة بالحبال حين يتهيج؛ وهنا يمتص نيشان النصي، وجوده المحتمل الآخر في الواقع. ويصل تداخل النص، والواقع ذروته في استراتيجية الاستبدال؛ فالمؤلف أشار في روايته المتخيلة إلي وفاة نيشان بالسرطان، بينما تموت ليندا الظل قارئة المؤلف التي اتصلت به روحيا؛ وكأنها تستبدل نيشان النصي في حركة اختلاف، بينما نجد المؤلف مقيدا بالسلاسل كبديل حلمي عن نيشان، ومصائره المحتملة بين النص، والواقع. ثانيا: تفكيك الحدث: تنتقل كتابة أمير تاج السر الإبداعية في نص "طقس" من المتواليات السردية المنطقية للحدث إلي الحدوث بوصفه لعبا محتملا للعلامات؛ فمتوالية تطابق نيشان الواقعي المحتمل مع نيشان في رواية أمنيات الجوع للمؤلف، تخضع في النص للتشكيك في مستويات عديدة من الدلالة؛ مثل ارتباك رواية نيشان عن نفسه، وعن تاريخه، وكذلك غيابه في نهاية النص، وتأجيل مصيره؛ وهو ما يعزز من تفكيك مركزية فرضية التخاطر أيضا؛ فالنص ينحاز إلي التعددية، ونقض المركز، والاستبدال الإبداعي في لعبة الكتابة، وتشبيهات نيشان المحتملة داخل المؤلف، وخارجه. ثالثا: استراتيجية التحويل الحكائي: تتمتع الشخصيات بوفرة إبداعية في كتابة أمير تاج السر الإبداعية؛ وخاصة في "طقس"؛ مثل نجمة الكاتبة التي تميل إلي الغواية، وأفرنجي الذي يقع بين أساطير الصراع مع الجن، والتهميش في الواقع، وليندا ذات الطاقة الروحية اللاواعية التي تشبه جماليات لوحة الفتاة، والقطة لجيوفاني، وصخب الموت في آن، والظل الذي يقيم بالقرب من مقبرة ليكتب مسرحية بعنوان مقبرة السلطان؛ وكأنه يستبدل شخصية المؤلف، وطرقه في التخييل، وشخصية حج البيت الذي يتحدث عن سهيلة التي أكلت لحم الكلاب، والقطط، ولم تعالج؛ وكأنه يؤكد ميكانيكية العبث، وسطوته في حي وادي الحكمة. ويقوم المؤلف في النص بالتقاط السمة الفريدة في الشخصية، ويقوم بتخييلها في مستويات عميقة من اللاوعي؛ فقد تخيل السكرتيرة أنانيا كأميرة من الشرق الأقصي في بلد عربي، أو تبحث عن رجل في متحف بدائي. لقد اكتسبت أنانيا نظائر خيالية محتملة في نصوص سردية وليدة تجمع بين التعالي، والخصوبة في أزمنة عديدة، وأماكن عالمية. وقد تداعت صورتي نيشان، ورنيم محبوبته - في وعي ولاوعي المؤلف ذ في سياق احتضان وحش لها بينما يرميها نيشان بنسخة من أمنيات الجوع. لقد تجسد الهو طبقا لفرويد كبديل أول عن نيشان، بينما تقاوم الرواية بنية حياة نيشان، رغم تخاطره مع بطلها في مستوي آخر من الدلالة الحلمية.