تجمع كتابة الأديب المصري العالمي الراحل جمال الغيطاني بين إعادة إنتاج الصور المستعادة من الموروث، وما تحمله من فاعلية جمالية، تتصل بتقنيات الكتابة الروائية الجديدة؛ إذ تتداخل في نصوصه علامات الواقع اليومي، بمقاطع من السيرة الذاتية، والصور ذات الطابع الكوني في الوعي، كما تمتزج قوانين الأبدية الغامضة التي يبحث عنها شخوص بعض أعماله بتواتر التحول، والاختلاف في بنية العلامة المدركة، وفي ذات المدرك في الوقت نفسه. الفضاء في كتابة الغيطاني نصي، وكوني في آن؛ فهو يولد تحولات متكررة للشخوص، والعلامات، والصور من جهة، ويستنزف الحدود الفيزيقية باتجاه اللامرئي المستشرف لإيحاءات الخلود القديمة من جهة أخري، وقد يجمع الراوي بين الفضاء، والكتابة، والوعي في نسيج إبداعي واحد، يوحي بخروج النص عن أطره، واتحاده بمدلول الكتابة الأولي كما هو عند جاك دريدا؛ إذ تبدو رسومها كتحولات للوعي، والواقع معا. ويمكننا معاينة هذه السمات، والتيمات الفنية الفريدة في متوالية "متون الأهرام"، وقد صدرت عن الهيئة العامة للكتاب سنة 1997، ونلمح فيها التناص مع متون الأهرام القديمة في الحضارة المصرية في دلالات العبور من المرئي إلي اللامرئي، والأبدي في العالم الآخر الذي تبدو فيه الأنا، والأشياء في صور دائرية متجددة. وتعزز متوالية الغيطاني من الاتصال بين تشكيلات المكان، والخرائط التصويرية المحتملة في مدلول الأبدية من خلال تأملات الشخوص، وحكاياتهم، واختفاء بعضهم، أو معاينته للذة بلوغ الذروة، أو لذة الغياب في رقصة جمالية كونية محتملة، أو الاتحاد بخصوبة لونية مجردة، تؤكد نزوع الغيطاني للتجريب، والاختلاف من داخل بحثه عن الأصالة؛ فالعشق يبدو عالميا، والاتحاد بالذروة، يعزز من الذات المتعالية في الكتابة، وما تحتمله من غياب أو تناقض . ثمة حالات في المتوالية تعبر عن مرحلة ما قبل الفكر، وما قبل الإدراك؛ وكأننا إزاء اكتشاف تصويري أول للفضاء الكوني، وعلاقته الوثيقة بالداخل، وبالجسد؛ فالشخوص يحاولون المعرفة، بينما يقعون في حالات الأداء، أو الغياب في صور فريدة، أو في تحولات واسعة في النماذج الكامنة في اللاوعي. ومن التيمات المميزة للمتوالية، وكذلك نص "مطربة الغروب" المنشور في مجموعة بالعنوان نفسه بمركز الحضارة العربية سنة 1997؛ التجدد المستمر للصوت والهوية، وبين التأمل والغياب، ونشوة التفكك، أو الحضور الفني الآخر، والنصوص كعتبات للرؤية. أولا: التجدد المستمر للصوت، والهوية: تتجدد الهوية، وتتبدل جماليا في المتوالية انطلاقا من علاقة الوعي بالفضاء، والفضاء الحلمي الآخر المحتمل، والأبدي في آن؛ ففي متن "إيغال" يدخل الهرم سبعة من الشباب المغامرين، وعند اجتيازهم للممر باتجاه الحجرة المربعة ، يشعر كل منهم أنه يري الآخر لأول مرة؛ وكأن الذات تعاين تحولاتها الجمالية النسبية خارج منطق الزمكانية؛ فثمة حضور تشبيهي آخر، كما تهل علي أحدهم ذكري شجرة تين عتيقة تلامس مياه ترعة؛ وكأن الذكري تلامس مدلول الامتلاك الأول للعالم في اللاوعي، ونموذج الخلود في الذاكرة الجمعية، وكذلك حلم اليقظة المائي الذي يرتبط بدلالتي التناقض، والتجدد في آن. وقد عاين أحدهم نغمات أنثوية مجردة، ثم اختفي من في المقدمة، وتداخلت الأشكال الهندسية حتي وصلت إلي شكول لا يمكن وصفها. النغمات الأنثوية نماذج محولة من العشق، والموت الذي يسخر من بنية الموت نفسها، وهي تجدد نماذج الأمومة في صورة حلمية تجمع بين القوة اللاواعية، ومرح الغياب، والتجدد في الصوت الفردي؛ أما تبدل الأشكال، وسيولتها، فتوحي بغياب التكوين، واستبدالاته في مسافة جمالية تقع بين الهوية، وما يسبقها من اتحاد كوني للأصوات، والعلامات في الفراغ. ونعاين بزوغ الشخصية من التاريخ القديم للهرم نفسه في متن "تلاش"؛ فالولد الرشيق كأنه صورة تتداعي مع حضور الهرم، ولانهائية الذروة؛ إذ يعاين في الفراغ تساوي الموجودات، وتناقض نغمات الرغبة، والموت، أو الغياب. إن الذروة تماثل حضورا مضافا، أو كتابة أولي لهوية الشخصية الجمالية، وحضورها النصي / الكوني. ويكتسب حدس الراوي حضورا جماليا في معاينة رقصة أنثوية تعيد قراءة الجسد فيما يتجاوزه في متن "رقصة"، كما يتحد بخضرة ضوئية حلمية خصيبة بين الهرمين في متن "ألق"، ويعاين مرح الأشكال والأهرام، وأصواتها الخفية في متن "صمت" كأنه يسخر من مركزية الصمت والفراغ. ثانيا: بين التأمل والغياب: تعايش شخصية الشيخ تهامي لحظات التوحد والتأمل الممزوجة بالغياب إزاء الهرم في متن "تشوف"؛ إذ تجلت له كتابة، أو حروف غامضة حين داوم النظر، وكان يغيب في رجفة حين يهيمن البناء علي روحه. ويختلط هذا العشق الصوفي في المتن بإيماءات التحول في الكتابة الأولي طبقا لدريدا؛ وهو ما يؤكد أن الغيطاني يجمع بين أصالة بحث الشخصية عن قوانين أبدية غامضة، واتحادها الخفي بحركة اختلاف، وتجاوز للمركز؛ فالكتابة علي علامة الهرم تكشف عن مخطوط مؤجل في وعي الشيخ، وتحجب أي معرفة في الوقت نفسه؛ فهي كتابة لغياب، أو لحضور تأملي تأويلي للوعي. ويري دريدا في كتابه "في علم الكتابة" أن الرسم المباشر مجازي؛ لذلك لا توجد كتابة حقيقية، وهي تضاعف الشيء من خلال رسمه، وإن الظهور هنا يكون مفتتحا لغياب الشيء عن ذاته. (راجع، دريدا، في علم الكتابة، ت:د. مني طلبة، وأنور مغيث، المجلس الأعلي للثقافة بالقاهرة ط2، 2008، ص 533). ويؤكد هذا المنظور التحويلي للكتابة التي تجمع بين الحضور الآخر والغياب تناثر كتابة هيروغليفية حول تكوين ميريت آمون في وعي الراوي في نص "مطربة الغروب"، وهو يحمل نتفا من سيرة المؤلف، وتمتزج داخله نغمات الرغبة، والتلاشي، والتشظي الكوني بين النجوم . الكتابة تفكك الداخل باتجاه اتحاد لاواع واسع بتحول يستنزف النصية، ويستشرف الصيرورة الكونية داخل الذات، وخارجها انطلاقا من التأثير الجمالي للتكوين. ثالثا: نشوة التفكك: يجمع الراوي بين دلالتي العشق، والموت كتحول يناهض مركزية كل من الغياب، والحضور في وجود فني لامرئي فريد في متن "نشوة"؛ فثمة رغبة هائلة استولت علي الشاب، والمرأة السائحة في حجرة تلي الممر الثالث، تم تحولا إلي ما يشبه الرماد، وإن لم يبد كذلك. الراوي يشكك في يقين الإشارات، ويوحي بقوة باطنية وليدة وفنية في المشهد، توحي بتفكك التكوين، وولادة اللامرئي الجمالي مرة أخري. رابعا: النصوص كعتبات للرؤية: تتخلل متوالية الغيطاني تعليقات كثيفة وكاشفة، يستخدمها الراوي؛ ليسائل حالات العشق، والتأمل، وبلوغ المعرفة، وتأجيلها في آن؛ فيقول في متن "تشوف": "البقاء في الفناء والفناء في البقاء"، ثم يشير إلي تأملات الشيخ تهامي في كوخه المفتوح للهرم، ومعاينته لحالات تشبه الرجفة، ومعاينة ثراء دلالات التكوين بين الرسوخ والصعود، أو بين الجلاء، والغموض. العتبة تكشف عن علاقة البقاء بالفناء في العشق، والتأمل، ويوحي النص / الكتابة بالاختلاف في ذلك الغياب الصوفي؛ فهو غياب يؤجل اكتمال الصوت، أو المعرفة، ويوحي بثراء علاماتي واسع في المشهد الكوني. وتصير العتبة بحد ذاتها نصا في كتابة الغيطاني في الخمس متون الأخيرة؛ لتؤكد تيمة التصاعد؛ ومنها: "كل شيء من لاشيء". وهي عتبة تأتي كنص كثيف كاشف عن ثراء الفراغ اللامرئي بحيوات حلمية متجددة، وبأصوات فنية محتملة في المشهد الكوني في وعي الراوي، وفي كتابة الغيطاني المتجاوزة للمركز، وللتأويلات المعرفية المستقرة.