عام 1955 كان عاما فاصلا وحاسما في تاريخ مصر السياسي والثقافي علي وجه الخصوص، وكانت ثورة يوليو بعد سلسلة من الصراعات ومحاولات السطو عليها من أطراف عديدة، قد استقرت بعض اختياراتها التي ظلّت فاعلة لأكثر من عشر سنوات قادمة في ذلك الحين، وتمزقت العلاقات المصرية الأمريكية، وراحت تحلّ محلها علاقات أخري مع الكتلة الاشتراكية، وعلي رأسها الاتحاد السوفيتي، مما دفع اليسار المصري للتعاون الكامل مع سلطة ثورة يوليو، وكانت بوادر ذلك التعاون واضحة منذ أواخر عام 1954، رغم الإجراءات العاصفة التي شكّلت مناخا ملبدا بالغيوم علي مدي العام 1954 كله، ومنذ أزمة مارس، وتعقيداتها، وصراع نجيب - ناصر الدامي، والذي انتهي بالإطاحة بمحمد نجيب بشكل نهائي في سبتمبر، ثم محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في أكتوبر، والمسماة بحادث المنشية، وإحداث جو من التوتر، ويعقبه استقرار وطني وسياسي واجتماعي بشكل نسبي. هذا الاستقرار استطاع أن يخلق مشتركات وطنية بين سلطة يوليو، واليسار المصري، فوجدنا مجلات وصحفا يسارية تتنفس في ظلال تلك الأجواء، وراحت رموز من اليسار تقدم أطروحات فكرية وثقافية وأدبية وسياسية، للدرجة التي جعلت السلطة السياسية تطلب من تلك الرموز أن يندمج اليسار المصري فيما يسمي ب"الاتحاد القومي"، وتبعا لذلك طلب القائم مقام أنور السادات آنذاك- أن يلتقي مع الناقد محمود أمين العالم لكي يتم تنسيق ذلك الاندماج، وبعد حوار طويل، أدرك محمود العالم أن ذلك الاندماج أو التحالف أو المساندة ما هو إلا الابتلاع الكامل لقوي اليسار داخل أروقة السلطة، وراح يضع بعض الملاحظات أمام السادات، ولكن الأخير رفض تلك الملاحظات وأنهي اللقاء بطريقة متعسفة ،وترك العالم يعود إلي منزله في المساء البعيد دون السيارة التي أحضرته. ورغم هذا الورم الذي تكوَّن في متن العلاقة بين اليسار والسلطة، إلا أن الطرفين، حاولا بقدر الاستطاعة استثمار تلك العلاقة في إنجازات مرموقة، وتبعا لذلك استطاعت جريدة "الجمهورية" الوليدة في حضن الثورة أن تستقطب كتّابا يساريين، أو علي الأقل في صفوف اليسار مثل محمد عودة وأحمد عباس صالح ويوسف إدريس وعلي الراعي وعبد العظيم أنيس وأحمد رشدي صالح وغيرهم، حتي أن صدرت صحيفة "المساء" في 6 أكتوبر 1956 لتضم غالبية كتّاب اليسار الجدد والقدامي، مثل طاهر عبد الحكيم وفتحي عبد الفتاح وفيليب جلاب وعبد الفتاح الجمل وسعد التائه وآخرين، كما كانت الجريدة تستكتب كبار اليساريين بأسمائهم الحقيقية مثل أديب ديمتري وعلي الشلقامي، أو بأسماء مستعارة مثل شهدي عطية الشافعي الذي كان يكتب باسم مستعار هو "أحمد نصر"، وصنع الله إبراهيم باسم "الأورفلي"، وهناك البعض كان يكتب بكنيته دون الاسم، مثل "بقلم تربوي أو اقتصادي أو متابع"، وهكذا. في ظل هذا الجو بدأ صلاح جاهين المشاركة في تلك المعادلة، باعتباره أحد أبناء اليسار، وكان ينتمي بجدارة إلي تنظيم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو"، وكان أحد اللاعبين النشطاء والفاعلين في مكتب الأدباء والفنانين التابع للمنظمة، ذلك المكتب الذي كان يضم في إهابه كتّابا ومبدعين يساريين مثل يوسف إدريس وإبراهيم فتحي وعبدالرحمن الخميسي وحسن فؤاد وغيرهم، وبدأ جاهين المشاركة في الصحف اليسارية العلنية مثل مجلة "الكاتب" التي كان يصدرها يوسف حلمي، وصحيفة "الملايين" التي كان يصدرها أحمد صادق عزام، وكتب القصة والشعر الفصيح وقصيدة النثر، بالإضافة إلي الكاريكاتير، وبعض الرسومات الطبيعية، بعدها أي في عام 1953 عمل في مجلة "بنت النيل"، وكانت صاحبتها درية شفيق، وكان جاهين هو المشرف الفني للمجلة، وكان يخرجها من الألف إلي الياء، حتي أن انتمي بشكل حاسم إلي مؤسسة "روز اليوسف" عام 1955. وكان ذلك العام هو العام الذي انفجرت فيه مواهب صلاح جاهين الكاريكاتورية والشعرية معا، وكانت تظهر له رسومات كاريكاتورية -علي استحياء- في المجلة، وكأنها رسومات متوارية، في ظل الاكتساح الذي كان يمثّله فنان الكاريكاتير الكبير "عبد السميع"، وكانت المجلة بمثابة معارض فنية متوالية لعبد السميع، علي هامشها كانت أسماء جاهين وبهجت عثمان ورجائي وموافي وجورج البهجوري تظهر في المجلة بين الحين والآخر، حتي أن تأسست مجلة "صباح الخير"، وصدر عددها الأول في 12 يناير عام 1956، أي منذ ستين عاما تماما، واستطاع أحمد بهاء الدين أن يستقطب تلك الأسماء الفنية والهامشية في مجلة "روز اليوسف"، لتصبح متونا أساسية في المجلة الطليعية الشبابية الوليدة. وكان صلاح جاهين نجما منذ العدد الأول، علي عكس ما يقول جورج البهجوري في شهادته التي كتبها إثر رحيله، تلك الشهادة التي نشرها في مجلة "اليوم السابع" بتاريخ 12 مايو 1986، يقول جورج "بدأت علاقتي مع صلاح جاهين في الخمسينيات، قابلته للمرة الأولي في ليلة مولد سيدي الأحبابي، كنا نذهب آدم حنين وبهجت وعمّار وأنا لنرسم في الموالد، وكنا ما نزال طلبة في الكلية، في تلك الليلة التقينا في سرادق -خيمة شعبية ملونة- بزكريا الحجاوي المعروف باهتمامه بالفنون الشعبية، وكان برفقته شاب قصير القامة وسمين، يقف علي المسرح ويلقي مواويل وأزجالا شعبية، قال لي آدم -إنه صلاح جاهين-، وتساءلت من يكون، فأجاب إنه كان معنا في الكلية لكنه سرعان ما تركها لأنه رفض أن يكمل التعليم الأكاديمي، وفهمت فيما بعد أن هدفه كان الوصول إلي الناس بطريقة مباشرة ..."، وبعد استطرادات في الشهادة راح جورج يكتب بلهجة مستفزة "في البداية، كنت أري لصلاح بعض الرسوم التزيينية لبعض القصص أو الكتب أو المجلات، وهي رسوم لم تكن تتميز بطابع معين ولا بأسلوب خاص، وكنت أنا وقتها أعمل في روز اليوسف، فإذا به يدخل إلي المجلة ذات يوم، فينظر إلي الحاضرين -بهاء الدين وإحسان عبد القدوس وأبو العينين وجمال كامل وأحمد حجازي ..- ويسحب من جيبه ورقة ويقول: اسمعوا، ويروح يقرأ قصيدة، عندما فرغ من القراءة، قال له الجميع: برافو". ويسترسل البهجوري في شهادته المطولة، وأعتقد أنه لم يعد نشرها، ليشي بأن صلاح جاهين كان متأثرا به في الرسم، "بعد أسبوع دخل المجلة، وكنت منكبا علي الرسم، فجاء ووقف ورائي من دون أن يلقي عليّ التحية، تضايقت للوهلة الأولي لأن ثمة من ينظر إليّ وأنا أرسم، وما أن انتهيت من تنفيذ ثلاثة رسوم حتي وضع يده علي الورقة وبادرني بالقول: دي كويسة، ودي مش بطالة، ودي أوحش من دي، ودي أحسن من دي ...قال كلامه هذا ومشي، فغضبت من تصرفه، لكن كلامه كان صحيحا، فالرسوم التي أعجبته فيها من نفسي وفيها صدق أكثر من تلك التي لم تعجبه، ثم عثرت ذات يوم علي رسوم في صحيفة القاهرة اعتقدت أنها لي وأني رميتها ونسيتها، فقالوا لي إنها لصلاح جاهين "، وتحدث بعدها جورج بأن "أبو العينين" كان يدرّب جاهين في تلك الفترة علي الرسم، حتي يكتسب أسلوبه الخاص، بعيدا عن التأثر بهذا أو بذاك. ويوحي كلام جورج البهجوري أن صلاح جاهين لم يكن له الأسلوب الخاص قبل أن يلتقي بهم في روز اليوسف، بينما ذلك عكس الحقيقة تماما، فمن يستعيد الصحف التي عمل بها جاهين سيلاحظ تلك النواة التي انبثقت منها شجرة صلاح جاهين المستقلة والوارفة. في أول ديسمبر عام 1955 صدر الديوان الأول لصلاح جاهين "كلمة سلام"، وكتب علي غلاف الديوان "قصائد شعبية"، وكانت تلك الفترة تشهد شيخوخة الزجل، وكان لابد من روح جديدة لتنفخ في ذلك النوع الشعري، والذي كان قد نما واشتد عوده علي أيدي الكبار بديع خيري وبيرم التونسي شفيق المصري وغيرهم، حتي أن ظهر فؤاد حداد وصلاح جاهين، فكان تعبير "قصائد شعبية" خطوة بينية للوصول إلي ما سمّي فيما بعد ب"الشعر العامي". كان ذلك الديوان "كلمة سلام" بمثابة طلقة كبيرة في ساحة الشعر الشعبي، وقدّم له الشاعر كمال عبد الحليم، بمقدمة بليغة، استعرض فيها تاريخ الشاعر منذ عام 1946، عندما كان يكتب الشعر الفصيح الموزون والمقفّي، واقتبس بعض أبيات من قصيدة كتبها صلاح في ذلك العام عندما كان طالبا في المنصورة الثانوية، والمنصورة ثائرة تحتج علي مذبحة كوبري عباس، وسقط شهيد، فوقف صلاح يرثيه قائلا: (كفكفت دمعي فلم يبق سوي جلدي ليت المراثي تعيد المجد للبلد صيرا فإنا أسود عند غضبتنا من ذا يطيق بقاء في فم الأسد). كانت المقدمة النقدية والتعريفية الحماسية، سفيرا كبيرا لصلاح بين الناس، ولم يقتصر الأمر علي المقدمة فحسب، لكن الديوان قوبل بحفاوة كبيرة من مختلف الأذواق السياسية والفنية، فكتب أحمد بهاء الدين في روز اليوسف بتاريخ 9 يناير 1956مقالا جاء فيه :"صلاح جاهين شاب موهوب، أكبر ميزاته البساطة، بسيط في سلوكه الشخصي، وفي إنتاجه الفني علي السواء ..وبساطة صلاح جاهين تتجلي في أنه لا يحاول أن يقنعك بأنه فنان، ولا يتحذلق حذلقة الفنانين، ولكنه يرسم ويقول الزجل وكأنه يعلن خواطره لا أكثر ولا أقل"، وكان بهاء شديد الحماس لجاهين، وقد نشر هذا المقال قبل أن يصدر العدد الأول من صباح الخير بثلاثة أيام، وجدير بالذكر أن أحمد بهاء الدين كانت له دراسات في الأدب الشعبي وتطوره، نشرت واحدة من تلك الدراسات في كتابه "مبادئ وأشخاص"، وبقية تلك الدراسات مدفونة في بطون الصحف والمجلات. وفي الأسبوع التالي مباشرة أي في 16 يناير كتب محمود العالم مقالا طويلا تحت عنوان "قصص وأشعار في المعركة"، وتضمن هذا المقال قراءة لديوان "كلمة سلام"، جاء فيها :"هي مجموعة من الشعر الشعبي كتبها الفنان صلاح جاهين وأخرجتها دار الفكر وقدم لها الشاعر محمد كمال عبد الحليم، بمقدمة طيبة حلل بها الديوان تحليلا رائعا ربط فيه بين تطورات الشاعر وتطور الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه وحدد القيم الإنسانية التي تنبض بها هذه الأشعار الشعبية..والحق أن هذه المجموعة تقدم لنا باقة من التجارب الحية الصادقة لطائفة من المشكلات الإنسانية الكبري "، ويسترسل العالم في قراءة جميلة للديوان، تتلوها مقالات ودراسات أخري لنقاد ومبدعين من طراز فتحي غانم ورجاء النقاش وعلي الراعي وغيرهم. كل ذلك كان بعد الطلقة الأولي لصلاح جاهين، والذي كان يقف علي الخط الأمامي في صفوف الشعر والأغنية، إذ راح اسمه يلمع كشاعر شعبي، وكاتب للأغاني، وفنان للكاريكاتير، وكانت روز اليوسف تنشر له بعضا من أغانيه، قبل أن يتم تلحينها مثلما فعلت مع أغنية "أنا ..هنا يابن الحلال" أو مقاطع من الليلة الكبيرة، والذي يقارن بين الأصل المنشور، والمنتج الفني النهائي بعد تلحينه وغنائه، سيلاحظ أن هناك اختلافات واضحة جدا، وذاع اسم صلاح جاهين بين المطربين والملحنين، واشتعلت موهبته في الأغاني أمام الظرف التاريخي الوطني، ففي أول نوفمبر 1956 عندما اشتد الخلاف بين مصر عبد الناصر والغرب، أذاع عبد الناصر خطابه الأول عن المعركة بقوله :"سنقاتل ..سنقاتل ولن نستسلم "، وبعد أن انتهي جمال عبد الناصر من خطابه، أمسك صلاح جاهين بقلمه -كما كتب أحد زملائه- ليترجم كلمات الرئيس في أصغر وأقوي نشيد وطني ..لا تزيد مدة إذاعته عن دقيقة وعشرين ثانية .. حانحارب ..حانحارب كل الناس حا تحارب.. ثم أمسك سيد مكاوي بكلمات النشيد وانتهي من تلحينه في ظرف عشر دقائق، ومن هنا بدأت أسطورة صلاح جاهين وثورة يوليو، وكان قبلها ببضعة شهور يكتب أغانيه المرحة واللطيفة قبل أن تلتحم أغانيه بالهم الوطني العارم، وقبل أن ينتشر ويكبر اسم صلاح جاهين بهذا الشكل، حدثت واقعة مع الفنان محمد عبد الوهاب، تثبت رهافة صلاح جاهين، واعتزازه بنفسه، والواقعة يسردها الكاتب إحسان عبد القدوس، وأنا لا أملك سوي نقل وقائعها كاملة، وذلك لأهميتها الشديدة، وكان إحسان قد كتبها في روز اليوسف بتاريخ 9 أغسطس 1956:"رأيت الدموع في عيني زميلي صلاح جاهين رسام -صباح الخير- ..لقد كان يكتب الشعر والزجل لنفسه، ثم عرفه الملحنون والمطربون، ولحنوا وغنّوا له ..وانتقلت أغانيه إلي أفواه الشعب واتخذ منها هتافا - احنا الشعب ..اخترناك من وسط الشعب-، وكان صلاح سعيدا بكل هذا، فهو في رقة وحساسية الطفل، إلي أن اتصل بمحمد عبد الوهاب في الأسبوع الماضي ليسأله تليفونيا عن أغنية يلحنها له ..أغنية عن حرب الجزائر، وردّ عبد الوهاب علي التليفون، ولكنه أنكر نفسه، وقال : الأستاذ مش موجود، وجن جنون صلاح وقد عرف عبد الوهاب من صوته في التليفون ..وطلب من مديحة -إحدي محررات روز اليوسف آنذاك- أن تحادثه بعده مباشرة، فحادثته ورد عليها عبد الوهاب وحادثها ...واقتحم صلاح مكتبي والدموع في عينيه وهو يصيح :"قل لعبد الوهاب إن ماوتسي تونج كان مؤلف أغان ..قل له إن المؤلفين لهم كرامة ..قل لمؤلفي الأغاني كلهم أن يقاطعوا عبد الوهاب ...أن يقتلوه لأنه يهينهم ..لأنه يتهرب منهم في التليفون...ويستطرد إحسان "وقلت له إن الموضوع لا يتعلق بمكانة مؤلفي الأغاني ..إنه يتعلق بقيمة عبد الوهاب كإنسان ..كبني آدم". تلك الواقعة تثبت مدي رهافة صلاح جاهين، واعتزازه بنفسه، رغم بساطته التي أوضحها أحمد بهاء الدين، وعدم إصراره علي تعريف وتصدير نفسه كفنان، ولكن عند اللزوم فهو يثأر لنفسه، بل يبكي من أجلها أمام كبرياء وصلف محمد عبد الوهاب. بالطبع فحكاية جاهين وعبد الوهاب، راحت في التاريخ، وتعاون جاهين وعبد الوهاب فيما بعد، ولكن بعد ردّ اعتبار صلاح جاهين علي كافة المستويات، وأصبحت أشعاره وأغانيه ترددها جموع الشعب المصري، من مختلف الفئات والطبقات والطوائف، وأصبح ديوان رباعيات الذي صدر في مطلع الستينيات بمثابة الكتاب السحري الفريد، الذي يتلوه المصريون في جميع أحوال الفرح والحزن والشجن والتأمل والبكاء والرقص، وكتب الفنان آدم حنين شهادة في منتهي الإبداع عندما كان يرسم له الرباعيات، وظل المصريون حافظين لها عن ظهر قلب حتي الآن، صلاح جاهين وأشعاره ورسوماته تستعصي علي النسيان أو التجاهل، رحمك الله يا عم صلاح ونحن في ذكري مولدك العطرة.