ما أحوج الشعوب في أي مكان كانت، أو زمان، إلي حاكم مثل عنْبسة بن إسحاق الضبي آخر ولاة العرب علي مصر وأفضلهم جميعًا، لقد حكم عنبسة مصر من عام 238 ه إلي عام 242ه، وكان رجلًا قويًّا عادلًا، أحكم قبضته علي موظفيه، وأظهر لرعيته ودًّا، لم يألفوه من قبل، ولأنه كان عازفًا عن التفاخر، كان دائمًا ما يسير علي قدميه، من مقر الحكومة إلي المسجد.هذه هي إحدي قصص الولاة الذين يَروي تاريخهم، فيما يقرب من سبعمائة وخمسين صفحة، كتاب "تاريخ مصر في العصور الوسطي" الصادر مؤخرًا في طبعته الثانية عن الدار المصرية اللبنانية، وكذلك عن مكتبة الأسرة، وفيه يحاول ستانلي لين بول أن يحصر أهم الأحداث التاريخية والأسماء والتواريخ في حقبة زمنية بلغت التسعمائة عام من الفتح الإسلامي لمصر عام 23ه إلي الفتح العثماني عام 923ه.يُعتبر الكتاب أول كتاب شامل يتناول تاريخ مصر في تلك الحقبة الطويلة والممتدة.وقد وضع ستانلي في كتابه قوائم للولاة والسلاطين والخلفاء، ودعم كل ذلك بالصور والأشكال التوضيحية التي بلغت مائة صورة وشكل مع ذكر رأيه ووجهة نظره الخاصة كمؤرخ ومستشرق غربي.أحمد سالم الذي أنجز ترجمة الكتاب إلي العربية يعتبره من أهم الكتب الكلاسيكية الحديثة التي ظهرت في تلك الفترة وتناولت تاريخ مصر الإسلامية.هذا ويقسم ستانلي كتابه إلي أحد عشر فصلًا يتحدث فيها عن الفتح العربي لمصر، عن ولاية الخلافة الإسلامية، عن الطولونيين والإخشيديين، عن الخلفاء الفاطميين، عن صلاح الدين وخلفائه، عن الثورة الشيعية، عن المماليك الأوائل، عن أسرة قلاوون وعن المماليك الجراكسة. نقطة تحول أما أيمن فؤاد سيد مراجع الترجمة فيقول في تصديره إن الفتح العربي لمصر كان نقطة تحول مهمة في تاريخها الطويل، وضع حدًّا فاصلًا بين عصرين مختلفين عقائديًّا، ثقافيًّا واجتماعيًّا.هنا اعتاد ستانلي أن يبدأ كل فصل بذكر أهم المصادر الخاصة به والتي كانت معروفة وقت تأليفه وأهم الآثار الباقية التي ترجع إلي ذلك العصر، كما زوَّده بالعديد من الصور الفوتوغرافية النادرة والأشكال التوضيحية ونماذج للنقود التي كانت تُتداول آنذاك، بل لم يكتفِ ستانلي بالسرد التاريخي للأحداث، وإنما كان له الكثير من التحليلات ووجهات النظر التي جعلت كثيرين، ممن تناولوا تلك العصور بالدراسة بعد ذلك، يُحيلون في هوامشهم إلي كتاب ستانلي الذي يمكن اعتباره مجموعة من القصص التي تروي تاريخ البشر والحجَر في مصر، منها قصة الثورة السياسية الخطيرة التي وقعت عام 165 ه في صعيد مصر، حيث أعلن دِحْية بن مصعب الأموي نفسه خليفةً، وانضم له معظم الصعيد واستطاعوا صد القوات التابعة للوالي، وتم تعيين والٍ آخر.في فصل الكتاب الأول يقول ستانلي إن الروايات العربية عن فتح مصر تتضارب مع بعضها البعض، لكنها تؤكد حقيقة أساسية هي انتصار عين شمس الذي وقع قبل أن تُغمر الأرض بماء الفيضان، وتسجل الاحتلال الذي تلا هذا الانتصار أثناء فترة الفيضان وتضيف قصصًا مختلفة عن مفاوضات وضيافات تمت بين المصريين والعرب. ستانلي يذكر أن الغالبية العظمي من شعب مصر كانت وقتذاك من النصاري الأقباط، وأيًّا كان الظلم الواقع فقد تحملوه بشكل أساسي، ومع ذلك فإن الأدلة علي إساءة معاملتهم كانت قليلة للغاية.في موضع آخر يقول ستانلي إن مصر شهدت العديد من حركات العصيان المسلح تحت حكم خلفاء بغداد العباسيين، قلّ أن تنشأ بسبب الأقباط، مقارنة بما أحدثه المسلمون أنفسهم، إذ ظهرت انشقاقات خطيرة بين المسلمين حتي دون الحديث عن الاختلافات الطفيفة بين مدارس الفقه الأربعة. سقوط البيت الطولوني بعد ذلك يذكر ستانلي أن مصر ظلت في حالة عدم استقرار لمدة ثلاثين عامًا بعد سقوط البيت الطولوني، وأصبحت ولاية تابعة مرة أخري، إلا أن الخلفاء صاروا في غاية الضعف في ممارسة سلطاتهم، أما الحكومة فكانت في أيدي الجند الأتراك.هذا ويذكر ستانلي كذلك أن مصر لعبت دورًا ثانويًّا في دولة صلاح الدين منذ عام 578 ه، حين غادر صلاح الدين القاهرة لآخر مرة، إذ انتقل مركز الثقل السياسي إلي الشام، وكان علي مصر أن تقنع بأن تكون مكانًا لتجنيد من يحتاجهم السلطان باستمرار لتعزيز جيوشه المنهكة.وفي موضع آخر يذكر ستانلي أن القبائل البدوية في مصرالعليا تخلصت من السلطة المملوكية بعد الكارثة التي وقعت في حمص عام 698ه وأطلقوا ألقابًا ساخرة علي القائديْن سلار وبيبرس، الأميران الرئيسيان في القاهرة.فيما كان بيبرس ذا شعبية بين الناس إذ كان شديد السخاء ونال استحسان التقاة لأنه لم يُظهر انحيازه لمذهب معين من مذاهب الإسلام.وما زالت جماهير المستمعين في المقاهي حتي القرن الحالي تبتهج لسماع سرد الرواة لشيم الشجاعة والكرم الأميري لذلك السلطان الذي تأثرت به مخيلة المصريين أكثر من أي شخص آخر، باستثناء الإسكندر وصلاح الدين فيما ندر.ستانلي يذكر أن مصر أصبحت أحد أقاليم الخلافة الإسلامية لمدة قرنين وربع ولم يظهر أن العرب قاموا بأية تغييرات شاملة في إدارتها، يبدو أنهم كانوا سريعي التأقلم وعلي استعداد لتقبل أفكار أخري، لقد وجدوا في مصر نظامًا حكوميًّا قائمًا فتبنوا خطة الرومان السابقين لهم مع قليل من التعديلات، تلك الخطة التي صيغت عبر تاريخ عريق.وعن نهاية دولة السلاطين يقول ستانلي: لقد كان للظروف والمتغيرات الدولية دور مهم في وضع نهاية لدولة سطين المماليك في مصر والشام تمثلت في اكتشاف رأس الرجاء الصالح ووصول البرتغاليين إلي المحيط الهندي وتحوُّل الدولة العثمانية من قوة إسلامية محصورة في آسيا الصغري إلي قوة عالمية كبري بعد نجاحها في فتح القسطنطينية عام 857ه.وبعد هذه دعوة صريحة يوجهها هذا الكتاب لإعادة تاريخ مصر في تلك الفترة الزمنية الفارقة في تاريخ مصر، والتي سنستفيد منها قطعًا حين نتأملها وندرسها جيدًا.