حينما ظهرت هذه الطبعة الجديدة من "حديث شخصي"لبدر الديب عن دار الكرمة، ضمن سلسلتها المميزة لتقديم مختارات من الأدب المصري، كان ما يشغلني هو كيف تصنف كتاباً مثل هذا، لأنه ليس كتاباً كان موجوداً وتعاد طباعته، بل هذا كتاب جديد بالفعل. كانت هناك طبعة قد صدرت في العام 1982 عن الهيئة العامة للكتاب، سيجد القارئ، إذا وجد منها نسخاً باقية، النصوص الأربعة بالترتيب نفسه "رشدي حمامو"، "ترتيب الغرف"، "مقابلة صحفية"، وأخيراً "أوراق زمردة أيوب". وحمل هذا الكتاب تصنيفه الخاص : "أربع تنويعات". لكن في التسعينيات كان الديب قد قرر أن يعيد نشر العمل الأخير كرواية مستقلة عام 1994، وبالفعل صدرت عن دار شرقيات، بغلاف بتوقيع محيي الدين اللّباد يجسد القديسة دميانة، الأسطورة والأيقونة القبطية المصرية في عصر الاضطهاد المسيحي خلال حكم دقلديانوس. طبعة شرقيات من الرواية أضاف لها بدر هوامش، وهذه النسخة الأخيرة هي التي سيجدها القارئ في طبعة "الكرمة" الصادرة في العام 2015، لهذا نحن أمام كتاب جديد صدر بعد وفاة مؤلفه بعشرة أعوام بالتمام والكمال، وكاتبه هو أبرز كُتّاب ما قبل جيل الستينيات حيث ولد في العام 1926. الجانب الآخر للكاتب دائما يبدو بدر الديب كصاحب مناصب رسمية كبري، خلال فترة حكم ناصر والسادات، أو يكتب كتابة غامضة. كان الرجل حبيسا للتصنيفين ولا يزال. بالفعل كان رئيس تحرير جريدة "المساء" في الفترة بين 1967 حتي 1986، ولكن خلال هذه الفترة صدر عن هذه الجريدة الملحق الأدبي الشهير، الذي كان يشرف عليه الكاتب عبد الفتاح الجمل. هذا الملحق الذي قدم جيل الستينيات. وبالفعل تولي الرجل مناصب أكثر حساسية من رئاسة تحرير جريدة قومية، وهو أمر حدث مع نجيب محفوظ كذلك. تولي صاحب "الحرافيش" منصب رئيسة الرقابة علي الأفلام في العام 1959، ثم ترأس مؤسسة السينما، وخرج للمعاش في العام 1971كمستشار لوزير الثقافة. أمر مربك بالتأكيد، لكن هكذا هي الحياة، كل يسعي علي عيشه..ولنتأمل هذه الفقرة التي يبرر عبرها صدور "أوراق زمردة أيوب" كرواية مستقلة. فلسفة الهوامش »حرصت أن أضيف عددا من الهوامش علي النص، في طبعته الثانية، وهي مشكلة أخري لي. فأنا ضد إعداد هوامش لعمل فني ما، فإن هذه الهوامش بمعني تبيان مصادره ومراجعه أمر يطول. وثار سؤال ماذا أضع وماذا أترك. وسيظل هذه السؤال مفتوحاً رغم استقراري علي هذا العدد الموجز من الهوامش للتعريف بحكاية القديسة دميانة واستشهادها؛ وكذا تحديد مواضع الاقتباس والإشارة إلي الكتاب المقدس بعهديه. وما أكثر حاجتي لهوامش أخري صارعت نفسي حتي لا أدرجها، حرصاً علي النص أو كي لا تخرج الرواية من دائرة العمل الفني إلي البحث التاريخي والادبي. فقد كنت أود أن أضع هوامش مطولة عن كثير من شخصيات الإنجيل التي جاء ذكرها في "أوراق زمردة أيوب"، والتي لعبت دورا هاما في تشكيل الشخصية وتحديد أبعادها، مثل أيوب ودانيال وجومر وهوشع وبولس الرسول وغيرهم. كما اكتفيت بنشر النص الإنجليزي لقصائد "إميلي ديكنسون" التي استخدمت في حياة كاتبة الأوراق. فليعذرني القارئ الذي يريد هوامش أكثر، فهذا أمر لا ينتهي«. الكتابة تكشف هذه الحكاية نظرة الديب للكتابة ومدي عنايته بحراسة وصناعة الجو العام لنصه، حيث يعود له بعد سنوات بحذر، دون أن يعدله، وإنما يضيف فصلا مع اعتذار، ليصنع حالة أفضل من الفهم لهذه الكتابة. من ناحية أخري هذا ليس الكتاب الأول الذي أقرأه لبدر. كل مرة أدخل عالمه أجد ما يكفيني، وأتعجب لماذا وصلنا الآن لهذا الواقع الثقافي البائس.أعرف عالمه جيداً، لكن هناك لعبة بدأت أمارسها حينما أقرأ أكثر من عمل لكاتب، وهي أن تبحث عن المدخل الأنسب لعالمه. كان هذا المدخل متحققا مع " لحم الحلم" بالنسبة لي. كان الكتاب نائما علي طاولة بجاليري 5+5 بميدان طلعت حرب. ومن وقتها وأنا أتتبعه ككاتب سري. قليلاً ما قابلت من يحب كتابته، رغم الشهرة الذائعة لشقيقه الكاتب الكبير علاء الديب. قصيدة النثر الثقافة في مصر أمرها غريب، لا أحد يدقق، لأن الكلام ليس عليه جمرك بالفعل، دائما ما يقولون إن بداية قصيدة النثر كانت مع مجلة "شعر"، التي صدر عددها الأول في بيروت بالعام 1956. سيجد القارئ العديد من النماذج لسباقين مصريين لكتابتها مثل أحمد راسم صاحب ديوان "البستان المهجور"(1922)، والذي لاقي هجوما دفعه فيما بعد للكتابة بالفرنسية والإقامة بفرنسا حتي وفاته، وفؤاد كامل وكتابه "الغرفة الرنانة" (1939)، وهناك ما كتبه توفيق الحكيم في كتابه "رحلة الربيع والخريف" (مكتبة مصر، 1964)، حيث كان يضم نصوصاً نثرية بلا أوزان، وكان الحكيم يقول في مقدمتها إنها موسيقي النثر. بعيداً عن هذا الوهم الخاص بالريادة في كتابة هذه القصيدة، فإن كتابة الديب الشعرية كانت نثرية دون صخب أو طلب لريادة، تجربة مهمة وستظل فارقة. حكاية قتل الزوج وأنا طفل صغير وبينما كنا نلعب في الشوارع كانت حكايات عن زوجة قطعت زوجها كجزار محترف، يتداولها الأطفال من حولي. كانت قد وضعت لحمه في أكياس، بعدما قطعته ب"ساطور". لم نكن نقرأ هذه الحكاية في الجرائد، وإنما كانت تنمو علي ألسنة الأطفال نقلا عن الكبار. الزوجة بدأت تهرب هذه الحمولة الكبيرة كيساً وراء الآخر. أذكر هذه التفاصيل، وأتخيل أن هناك أكثر من قصة، أكثر من زوجة فعلت هذا، وستفعل هذا. كانت هذه القصة سببا للرعب في الصغر، لكن الآن صرت مقتنعا أن هناك حكايات لهؤلاء الزوجات يمكننا أن نسمعها، نعرفها، نفهم لماذا فعلن ذلك، بالتأكيد هؤلاء الأزواج فعلوا أموراً لا تغتفر. فكرت في كل هذا وأنا أقرأ "ترتيب الغرف". أغلب نصوص هذا الكتاب يحدث الراوي فيها القارئ، حيث ينحاز الكاتب للحديث الشخصي ليصبح موضوع الكتابه. من يتحدث في "ترتيب الغرف" الزوجة التي قتلت زوجها بمقص، حيث تكتب: "لا بد أن يملك الإنسان هذا الحق في الحديث الشخصي ولو لبضعة أيام، بعدها إلي راحة أخيرة لا تنتهي". تكتب هذا الاعتراف وهي في السجن، تخيط ملابس للسجانة لأنها لم تتوقف يوماً عن العمل بخياطة الملابس، منذ طفولتها حتي حلّت هنا بالزنزانة، لينفذ بحقها حكم الإعدام. يحضر الكاتب بذكاء، في "حديث شخصي"، خاصة حينما يكون الراوي سيدة، يلمس القارئ تفهما ووعيا وحساسية لافتة وغير مسبوقة لكاتب ينتمي لثقافتنا الذكورية الطاغية. كما لا تستشعر حضورا زاعقا له داخل نصوص الكتاب. يستغرق القارئ بشكل تام في حديث أربع شخصيات تروي له آخر الكلام. يجد القارئ صراحة مطلقة، رغبة قوية في التطهر، كأنها حالة من تفريغ الحمولة الشخصية قبل الرحيل. نحن أمام نماذج لكتابة ما قبل الموت أو الانتحار. وهذا السرد الشخصي للغاية لن يوقفه إلا حدث كبير مثل خبر تصحبه صورة علي عمود في الصفحة الأولي من الجريدة تنعي الصحفي الكبير نصر الشربيني في "مقابلة صحفية"، أو تقرير لجنة داخل سجن النساء، جاء فيه: "إنه في يوم الثلاثاء الموافق ..من عام.. توجهت اللجنة المشكلة من ..إلي زنزانة السجينة سميحة عبد العظيم..رقم 333.."، لكن اللجنة لم تكمل تقريرها لإن الأبرة والمقص كانتا في صدر سميحة، أو المحاولة الفاشلة لمسئول كبير بالتطهر، فلا يجد من الشجاعة لأن يكتب أي شيء إلا اسمه "رشدي حمامو"، وأخيرا ما سيحدث مع زمردة. مدرسة السياسة الخارجية للأدب! أي كتابة تهدف لتواصل، وحديث شخصي تتسم بأسلوبها السلس، كتابة رائقة. كل جملة تبدو مقصودة، منتقاة بعناية، هناك حساسية وتفكير بالغان. نحن أمام منتج نهائي جيد. في شهادة للكاتب ياسر عبد اللطيف، نشرتها جريدة "الأخبار" اللبنانية، حول بدر الديب، يصفه بأنه "مِيتا كاتب" .. أي كاتب للكُتّاب. كتابة لا تذهب للقارئ العادي، لكن أظن أن هذه العناية بالكتابة التي كان يبذلها الكاتب ستجد طريقها مع الوقت للقارئ سواء كان كاتبا أو يقرأ دون أن يكتب! حينما نقرأ نصاً أحيانا نقف عند جملة ما ونفكر كيف توصل الكاتب لهذه الصيغة التي تبدو كأنها الأدق والأكثر تعبيراً. الكتابة في »حديث شخصي«، مثل الماء، تبدو سهلة، لكنها ذكية وحساسة للغاية، بلا لون تقريباً. تأمّل أسلوب بدر الديب في النقد السياسي يكشف الكثير من حساسية هذا الكاتب كما لو أنه يقر واقعاً، يرسم حدود هذ المجال الخاضع للسيطرة بالكامل دون أوصاف زاعقة، حيث يتم الوصف بسلاسة. كانت زمردة أيوب، أستاذة الأدب الأمريكي، قد كتبت رسالة مطولة تذكر فيها رغبتها في العودة للتدّريس مرة أخري، بصيغة أنها تريد أن تفيد بلادها والطلاب من دراستها في الخارج، ومعرفتها بالأدب الأمريكي، لكن لا رد يأتي. بعد إلحاح، ومحاولات أخري تخبرْ بأن لا حاجة لأساتذة في الوقت الحالي، رغم نشر الجامعة لإعلان يؤكد العكس. مرة أخري تخبرْ بعدم توفر درجات، لكنها- فجأة- تعود. تنال الأستاذة الجامعية ترقياتها المستحقة بمنتهي السلاسة حينما جاءت "أوامر" بهذا الشأن، ثم تدخل أستاذة الأدب فيما بعد علاقة حب مع صاحب هذه الأوامر. داخل هذه المؤسسة الأكاديمية تعترف أنها كانت تدفع لإعادة كتابة تاريخ الأدب الأمريكي "ليتفق مع سياستنا الخارجية في الستينيات"، تتحوّل زمردة أيوب لشخصية عامة تكتب في الصحف مقالات عن الثقافة والإعلام والتحول الاشتراكي أو عن شخصيات الأدب الأمريكي التي صاحبت أزمة الثلاثينيات. علي فراش المرض تحرك زمردة رغبة في التحدث، أن تعترف، بعدما صارت مريضة بسرطان الدم. تحكي عن علاقتها/ خطيئتها، حيث جاءت أوصاف العلاقة حسب قاموس الشخصية، الحائرة بين مفردات الكتاب المقدس وشعر الأمريكية إيملي ديكنسون (1830- 1886).كما تعقد صفقة بشأن هذه الاعتراف المكتوب. بعد رحيل زمردة تقوم تفيدة، خادمتها المسلمة، بالتوجه إلي دير القديسة دميانة ببلقاس، بمحافظة الدقهلية لتحرق الأوراق، هذا ما يجب أن يحدث حسب هذه الصفقة. لا تريد زمردة أن يعرف دانيال ما جري، رغم أنها لم تكتب شيئا يفهم منه ما جري بعلاقتها، لكنها تخاف أكثر من "الشرير" الذي يعرف ما لم يذكر في الأوراق، لكن هل حَرَقت تفيدة الأوراق بالفعل!؟ تستعيد زمردة حكايات من حياة صعبة عاشتها. يصير لها ولولدها ملكية ضخمة، بعد ترمّلَها المبكر، لكنها ستطارد بقرارات ثورة يوليو الاقتصادية. ستوضع أملاكها تحت الحراسة، التي سترفع، فيما بعد، عبر سحر الأوامر. رغم ذلك الخسائر دائمة، لم تكسب زمردة من الدنيا إلا دانيال. ولا تنتبه لما خسرته إلا في نهاية الأوراق، لتعرف أن ولدها لم يسافر خارج مصر، وإنما كان سجيناً، حيث كان ضحية للأوامر وصاحبها مثل أمه. بالفعل لا تبدو أن هناك راحة في حيوات أبطال تنويعات هذا الكتاب إلا عند نهايتها.