الشمس صباحاً.. تسطع وئيدة.. تهب من سباتها.. خلف الأفق.. وتظل تركض وتركض.. في بطء حتي تشرق.. علي مدينتي.. المدينة العظمي السلطوية الغربية.. وترسل أشعتها البرتقالية.. شعاعاً تلو شعاع.. فتستقبلها ناطحات السحاب في ود وترحاب.. وكلها شوق لتغسل نفسها.. بدفء الشمس القرمزية.. من معدل الجريمة المتنامي.. المتزايد في مدينتي المدينة العظمي.. ومدينتي مدينة الجريمة.. نعم بحق الجريمة المنظمة.. والاعتداءات تحدث ألوفاً مؤلفة في كل ثانية.. مثل السرقة والقتل والاغتصاب.. وكذلك تحتل مدينتي المركز الأول في الإرهاب.. إرهاب الفرد والدولة والجماعة.. فمدينتي بحق هي مدينة الجريمة المنظمة بلا جدال.. وناطحاتها تتعاظم وتتطاول.. لتحفر عباب السماء.. وتعاند السحاب فتشق كتله وتكويناته.. وكأن الإنسان يتطاول علي السماء.. بناطحاته الشهيرة.. أما أنا فمجرد إنسان بسيط.. يعمل عامل نظافة في إحدي ناطحات السحاب التي تبلغ خمسمائة طابق.. زادت أو نقصت.. ومهنتي بالتحديد هي تنظيف نوافذ الناطحة الزجاجية من الخارج.. وهو عمل صعب وعسير ويحتاج إلي شجاعة ليس لها مثيل.. وكأني أجتاح قمة إفرست.. أو جبال الإنديز أو الهيمالايا.. ففي الساعة التاسعة صباحاً.. أصعد علي المصعد الخاص بي خارج الناطحة لأنظف النوافذ بهدوء وروية.. وربما أمر علي الطابق الأول وأنا أنظف نافذته الزجاجية.. بالمسّاحة الآلية والصابون الفاخر.. ألفي رجلاً فحلاً ومعه امرأة لعوب جميلة.. معاً في الفراش.. يتضاجعان.. فأظل أضحك ملء فمي.. فيثور الرجل الفحل وينهض عارياً ويغلق ستائر الحجرة من الداخل.. وهو يقول متوعداً: - لماذا تتلصص علينا يا رجل.. أين الحرية الشخصية التي كفلها لنا الدستور؟! فأبتسم في هدوء.. وأضحك وأنا أقول له: - وقتاً سعيداً. ويمر الوقت.. وأظل أصعد وأصعد وأنا أنظف النوافذ الزجاجية.. وأتسلي بالصفير الآتي من فمي.. وريثما أقترب من النافذة الخمسين.. أشعر بتيار هواء بارد.. ثم ألفي بعد ذلك داخل النافذة المزعومة.. رجلاً ممسكاً بسكين ضخم حاد.. ويهجم علي امرأة مسكينة لا حول لها ولا قوة.. ويظل يطعنها وهي تصرخ وتصرخ.. والدماء تتناثر علي جسدها وعلي وجهه المغضن.. وعلي الأرض.. وفجأة يراني وأنا خارج النافذة.. أنظر إليه بهدوء.. فيقترب من النافذة ويقول لي مهدداً والشرر يقطر من عينيه.. مثل وحش مسعور: - كأنك لم تر شيئاً.. أفهمت وإلا!! فأبتسم في هدوء.. وأضحك وأنا أقول له: - وقتاً سعيداً. وتمر اللحظات.. وأظل صاعداً.. أنظف النوافذ الزجاجية.. نافذة تلو نافذة.. بجد واجتهاد.. حتي أصل إلي النافذة المائة.. فأنظر إلي أسفل.. فأجد كل شيء صغيراً صغيراً.. السيارات والمارة.. والسحاب الأبيض المتراص الساكن.. ثم أعاود النظر إلي ما بداخل النافذة.. فألفي رجالاً يجتمعون في الحجرة.. بصورة سرية.. ويخططون لعمليات إرهابية مخيفة.. فلا تهتز لي خلجة.. لكن يراني زعيمهم وهو يضع عصابة سوداء علي عينيه.. فيقترب من النافذة.. ويرسم علي وجهه ابتسامة مصطنعة.. ويقول لي ملوحاً: - هيا معنا.. نحن ثائرون.. ومظلومون لذلك نفعل ما نفعل! فأبتسم في هدوء.. وأضحك وأنا أقول له: - وقتاً سعيداً. واستمر في صعودي.. نافذة تلو نافذة.. والهواء من حولي يهب حاداً مؤلماً بارداً.. ويتلاعب بي.. ويشتد ويشتد.. وأنا مازلت أصعد وأصعد.. ويمر الوقت حتي أصل للنافذة الخمسين بعد المائة.. فأجد أسفلي كل شيء صغيراً صغيراً.. مثل النقاط السوداء التي يخطها قلمي الأسود.. الكامن في جيبي العلوي.. ثم أرمق ما خلف النافذة.. فأجد رجلاً متقدماً في العمر.. أشهب الشعر.. جالساً وقد حوّل غرفته إلي معمل علمي لصناعة القنبلة النووية.. جالساً ومنهمكاً في تصنيع السلاح المدمر.. وريثما يراني علي غرة.. يبهت.. ويقول لي بعد أن ينهض ويقترب من زجاج النافذة: - أنت يا هذا.. احذر احذر.. اختبيء بسرعة.. خوفاً من إشعاع القنبلة النووية. فأبتسم في هدوء.. وأضحك وأنا أقول له: - وقتاً سعيداً. واستمر في صعودي.. نافذة تلو نافذة.. وأظل أصعد وأصعد.. وأنا أنظف نوافذ الناطحة التي تقابلني.. وأتوقف قليلاً.. ثم استنشق الهواء، وأظل في حالة الشهيق والزفير طوال عدة دقائق.. ثم بعدها أواصل الصعود.. إلي أن أصل للنافذة المائتين.. فأتوقف قليلاً.. وأنظر داخل النافذة.. فأجد رجلاً عجوزاً أصلع بديناً للغاية.. جالساً أمام مرآة وهو يجادل نفسه وصورته المعكوسة.. ويحتد عليها.. ثم فجأة يراني.. ويقول بعد أن ينهض ويتجه إليَّ.. وقد شهر مسدساً وصوبه نحو رأسه: - أنا رئيس حكومة العالم الخفية.. وقد سئمت الحياة.. لأني ظالم وطاغية.. أثير النزاعات والحروب الأهلية والعالمية.. ويموت بسببي ملايين البشر.. لذلك قررت أن أنهي حياتي بيدي.. حتي أبرأ من آثامي. وفجأة وبلا رحمة ولا إيمان.. يطلق الرصاص علي رأسه.. ويسقط مضرجاً في دمائه.. فلا تهتز لي خلجة.. وأواصل صعودي وأنا مبتسم في هدوء.. وأضحك وأنا أقول له: - وقتاً سعيداً. وأعاود صعودي وأنا أطلق الصفير من فمي مغنياً لحناً.. هو النشيد الجمهوري لوطني، ويمر الوقت وأنا أصعد وأصعد.. ثم بعد عدة دقائق.. أتوقف عند الطابق الخمسين بعد المائتين.. وأنظر أسفلي.. فألفي كل شيء صغيراً صغيراً.. المارة والسيارات.. وكل كل شيء.. ويمر الوقت وأنا أنظف.. ثم أنظر بعدها إلي داخل النافذة التي أمامي.. فأجد ما يُدهش أي إنسان.. بل ما يرعبه.. لكني لم أرتعب.. أجد مخلوقات من كوكب آخر.. عمالقة بيضاويي الرءوس. هبطوا علي الناطحة من السماء.. من علي صحن طائر أبيض كالقمر.. مخلوقات هلامية من الفضاء الخارجي.. أجدهم يعبثون بمحتويات الحجرة.. فلا تهتز لي خلجة.. وبعد أن يشعروا بي.. يتقدم مني زعيمهم ويقول لي بأسلوب التخاطر العقلي: - هيا معنا إلي مجرتنا كصديق أرضي. فأبتسم في هدوء.. وأضحك وأنا أقول له: - وقتاً سعيداً. ثم أظل أصعد وأصعد.. وأنا أنظف نوافذ الناطحة الزجاجية.. غير عابئ بما أراه من مواقف عسيرة.. وأهوال مخيفة.. ثم بعد عدة دقائق.. وعند الطابق الثلاثمائة أتوقف ويجول بخاطري أن أتراقص بهستيريا مؤقتاً.. مدندناً بصفيري.. وأظل أتراقص.. وأنا أغني نشيد السلام الجمهوري لوطني.. ثم علي غرة يختل توازني.. علي إثر رقصاتي.. وأحاول التشبث بأي شيء.. لكني لا أستطيع وأهوي ساقطاً.. ماراً علي كل من نوافذ الكائنات الفضائية، ورئيس حكومة العالم الخفية، وصانع القنبلة النووية، والجماعة الإرهابية، والقاتل، والرجل والمرأة المتضاجعين.. ثم بعدها أهوي محطم العنق والعظام.. علي الطريق الممتد .. والسيارات تمرق من حولي.. وكأنهم لم يروا شيئاً.. فأبتسم في هدوء.. وأضحك وأنا أقول لنفسي: - وقتاً سعيداً. وأموت بعدها.. مبتسماً في هدوء.