سعر المانجو والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم السبت 26 يوليو 2025    تكريم 100 متعافٍ من الإدمان بمركز العزيمة في مطروح.. صور    محافظ شمال سيناء: نجحنا في إدخال عدد كبير من الشاحنات لغزة بجهود مصرية وتضافر دولي    ترامب يحذر الأوروبيين من أمر مروع: نظموا أموركم وإلا لن تكون لديكم أوروبا بعد الآن    الجيش اليمني ينفذ عملية عسكرية استهدفت موقعا حساسا للاحتلال في بئر السبع    كييف تسعى لإنتاج ما يصل إلى 1000 طائرة مسيرة اعتراضية يوميا    غضب واتجاه لسحب الشارة، إجراءات متوقعة من برشلونة ضد شتيجن    الزمالك يعلن رحيل لاعبه    تقرير: بيريز يحلم بثنائية مبابي وهالاند في ريال مدريد    حماس: لم نبلغ بأي إشكال بشأن المفاوضات ونستغرب تصريح ترامب    مصدر أمني عن فيديو احتجاز ضابط بالقاهرة: مفبرك بالكامل    تحولت إلى كتلة لهب في ثانية، لحظة اشتعال النار بسيارة خرسانة بطريق البوليفار بأكتوبر (صور)    الداخلية تنفي مزاعم عن احتجاز ضابط بأحد أقسام الشرطة بالقاهرة    تامر حسني يهاجم عمرو دياب بعد تصنيف الهضبة لألبومه "لينا ميعاد": أنا تريند وأنت تحت    محمد رياض يستعرض معايير التكريم بالمهرجان القومي للمسرح: لا تخضع للأهواء الشخصية    فيديو.. محمد رياض يوضح سبب عدم استمراره رئيسا للمهرجان القومي للمسرح    «منزعجًا للغاية».. مالك إنتر ميامي يكشف رد فعل ميسي بعد قرار إيقافه    رد فعل مفاجئ من كريم فؤاد بعد أنباء إصابته بالصليبي (صورة)    6 أبراج «الحظ هيبتسم لهم» في أغسطس: مكاسب مالية دون عناء والأحلام تتحول لواقع ملموس    سعر العملات الأجنبية والعربية مساء اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    سعر الدولار اليوم أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 26 يوليو 2025    قفزة في أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 26 يوليو 2025    إحباط تهريب دقيق مدعم ومواد غذائية منتهية الصلاحية وسجائر مجهولة المصدر فى حملات تموينية ب الإسكندرية    روعوا المصطافين.. حبس 9 متهمين في واقعة مشاجرة شاطئ النخيل في الإسكندرية (صور)    أخبار كفر الشيخ اليوم.. شاب ينهي حياة آخر بسبب خلاف على درجة سلم    نجم الأهلي يتحدث عن مكاسب معسكر تونس    ليكيب: برشلونة يتوصل لاتفاق مع كوندي على تجديد عقده    خبر في الجول - اتفاق مبدئي بين بيراميدز وبانيك لضم إيفرتون.. ومدة التعاقد    «أنا نازلك».. الشامي يمازح معجبا طلب التقاط صورة معه في مهرجان العلمين    أحمد السقا: «لما الكل بيهاجمني بسكت.. ومبشوفش نفسي بطل أكشن»    ليالي مهرجان العلمين 2025.. الشامي في ختام حفله: أول مرة أغني في مصر ومش هتكون الأخيرة    هاكل كشري بعد الحفلة.. المطرب الشامي يداعب جمهوره في مهرجان العلمين    ياليل يالعين.. الشامي يبدع في ثاني حفلات مهرجان العلمين 2025    وزير الأوقاف: الحشيش حرام كحرمة الخمر سواء بسواء والادعاء بحِلِّه خطأ فادح    باحثة في قضايا المرأة: الفتيات المراهقات الأكثر عرضة للعنف الرقمي    جوتيريش: ما يحدث في غزة أزمة أخلاقية تتحدى الضمير العالمي    ذروة الموجة الحارة.. إنذار جوى بشأن حالة الطقس اليوم: «توخوا الحيطة والحذر»    تنسيق الثانوية العامة 2025.. التعليم العالي: هؤلاء الطلاب ممنوعون من تسجيل الرغبات    وزير الخارجية يختتم جولته الإفريقية بعد زيارة 6 دول    مشروبات طبيعية تخفض ارتفاع ضغط الدم    الجلوكوما أو المياه الزرقاء: سارق البصر الصامت.. والكشف المبكر قد يساهم في تجنب العمى الدائم    التحالف الوطني: جاهزون لاستئناف قوافل دعم الأشقاء في غزة فور عودة حركة المعابر لطبيعتها    يسرى جبر: حديث السقاية يكشف عن تكريم المرأة وإثبات حقها فى التصرف ببيتها    الشيوخ اختبار الأحزاب    «الجوز» ومرض السكري.. وجبة مثالية بفوائد عديدة    عالم أزهري: خمس فرص ثمينة لا تعوض ونصائح للشباب لبناء المستقبل    رددها الآن.. أفضل أدعية لاستقبال شهر صفر 1447 هجريًا    ترامب: أُفضل الدولار القوي رغم فوائد انخفاضه لقطاع التصنيع    برلماني: الدولة المصرية تُدرك التحديات التي تواجهها وتتعامل معها بحكمة    جامعة دمنهور الأهلية تعلن فتح باب التسجيل لإبداء الرغبة المبدئية للعام الجديد    وزير العمل عن دمج وتوظيف ذوي الهمم: قضية تحتاج تكاتف المؤسسات    وزير الاستثمار والتجارة الخارجية يلتقي مسؤولي 4 شركات يابانية لاستعراض مشروعاتها وخططها الاستثمارية بالسوق المصري    باستقبال حافل من الأهالي: علماء الأوقاف يفتتحون مسجدين بالفيوم    «100 يوم صحة» تقدّم 14.5 مليون خدمة طبية مجانية خلال 9 أيام    أسعار الأرز في الأسواق اليوم الجمعة 25-7-2025    الحكومية والأهلية والخاصة.. قائمة الجامعات والمعاهد المعتمدة في مصر    متحف الفن المعاصر بجامعة حلوان يستعد لاستقبال الزوار    شائعات كذّبها الواقع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال الغيطاني ..
نفَسٌ منْ أنفَاس المُتصوّفة
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 11 - 2015

أربعون يوما مرت علي رحيل الروائي الكبير جمال الغيطاني، هذه الموهبة الاستثنائية في تاريخ الثقافة العربية والإنسانية، في هذا العدد ننشر مقال بعنوان "نفس من أنفاس المتصوفة" لمحمد بنيس و"رسام السجادالذي أصبح صوفيا عبقريا" للفنان والناقد التشكيلي د.مصطفي الرزاز، وكلاهما يضيئان جوانب متعددة في إبداع الغيطاني ورحلته الثرية خاصة وحهه الصوفي.
1
بسرعة حان موعد رحيلك. كنت أشتاق إلي لقائك بعد طول مدة عن آخر لقاء بيننا في واشنطن سنة 2009. لكن رحيلك كان أسرع. وهل لنا أن نقرر في توقيت موعد الموت ؟ عبارة موجزة عن وفاتك، ضمن قائمة أخبار يوم الأحد 18 أكتوبر، علي شاشة التلفزة، تختصر كل ما لم أكن أنتظره. أنت وأنا ودعنا في سنواتنا الأخيرة أصدقاء مشتركين، آخرهم عبد الوهاب المؤدب. وها أنت بدورك ترحل. أشاهد الاسم وأصمت. لا أحتاج إلي كلمات الوداع. نظرتك شاخصة بكل صفائها، بعيدة ووحيدة. باتجاه الأهرامات تنظر، وباتجاه نجيب محفوظ تبتسم، وباتجاه فاس تترك الكلمات تطير في سماء الأرض جميعاً.
تبادلتُ وصديقنا سعيد الكفراوي عبارات الأسي علي طول عنائك ووفاتك. ثم ظفرتُ لاحقاً بصوت ماجدة. كلماتي معها عن الصبر علي آلام الفقدان كانت متعثرة. وهي كانت تبادلني عبر الهاتف كلمات منكسرة، كلها حزن ودعوات وشكر علي الاتصال. لم أبحث عن كلمات التعزية. فأنا دائماً أرتبك في النطق بها. لأن الموت عتبة تؤدي إلي الشعور بعبث الوجود. شعور تربّي معي عبر الزمن، ولا يفارقني. من خلاله أري زوالي وفنائي، ومن خلاله أحس أن موت الأصدقاء شخصيٌّ جداً، ولا شيء يعوض عنه. كل واحد أفتقده من بينهم متفرد، له ما لا يبلغه سواه. فلا مفاضلة بين صديق وصديق. لذلك أعرف عن يقين أنني لن أعثر علي من سيحل محل الصديق الذي أفقده. بل حتي كلمة "خاصة"، التي نستعملها عن بعض الأصدقاء لعجزنا عن الخيال، لا تليق بفقدان صديق. كل واحد من الأصدقاء تبقي مكانته كما كانت من قبل، في لحظات تبادل الفرح بالحياة.
أدركني الصمت علي إثر قراءة الخبر. وفي الصمت امّحت الكلمات من ذهني. حدادٌ تنقصه الكلمات. كان بودي لو يطول الصمت، لو يتفرع إلي شجرة أتفيأ ظلها. عزيزي جمال. كنت أسمع في دواخلي هذا النداء وأصمت. نداء لا أعرف هل هو لقريب أو بعيد. نداء في شكل دقات القلب، ذلك القلب الذي عذّبك وأخذك. حكيت لي، ونحن في واشنطن، عن العملية الجراحية التي أجريت لك علي القلب المفتوح، وكنتَ متيقناً من أن بقاءك علي قيد الحياة هبة إلهية. في نطقك بكلمة "الحياة" كان نغمٌ ينقل أصوات الحروف إلي تأليف موسيقي. كلمة واحدة هي نفسُها ولا نفسُها. أوتار الحلق تتحرك فيما الكلمة لا تتحرك. الحياة نغم علي لسانك، بطبقات صوتية متباينة.
2
كان لنا أول لقاء في فاس، بمناسبة ندوة الرواية العربية الجديدة، التي كان نظمها اتحاد كتاب المغرب بين 21 و24 من شهر دجنبر 1979 ، وفي صباح اليوم الموالي لانتهاء الندوة، 25 دجنبر، توجهنا جماعة، أنت وعبد الحكيم قاسم وإدوار الخراط ومحمود أمين العالم وصديقي محمد حميمش وأنا لزيارة المدينة القديمة. بمجرد ما أقبلنا علي باب بوجلود، أشهر أبواب المدينة، تبدلت سحنة وجهك. سطعت في عينيك إشراقة، لعلها عادت إليك من عهود لا عدّ لها. وفي الخطوات المتباطئة كنت تسأل، أو كنت تتوقف وتتأمل، أو تعلق، أو تقارن بين فاس والقاهرة.
لم أفاجأ بدهشتك أمام عتاقة فاس وما تمثله من أسرار عمرانية، وحياة يومية تحافظ علي ثقافة مغربية أندلسية. كان مشهد الأسواق يتوالي في سلسلة من الألوان يؤاخي بعضها بعضاً. وأنت تمسك ذراعي وتسأل. ولأنني ابن فاس، الذي عاش في الخمسينيات والستينيات بين بيوت وأسواق ومساجد وأضرحة، كنت لا أتلكأ في تقديم المعلومات والشروح مما تعلمت من أبي، ومن أفراد عائلتي، أو مما تعلمت بنفسي من كتب التاريخ التي كنت محباً لها. ومن اللحظات الجليلة، التي ارتويت بها، تلك التي دخلت فيها إلي مسجد القرويين وفتحت حواراً مع إمامها. كنت تريد أن تفهم سر انحراف القبلة نحو الجنوب، بدلاً من توجهها نحو الشرق. وفهمتَ كيف أن انحراف قبلة القرويين خصيصة معمارية في مجموعة من مساجد الشمال الإفريقي، كما هو الحال في الزيتونة وفي الأزهر نفسه.
في مدرسة العطارين استحوذ عليك الهيكل المعماري، وأخذك جمال الزليج، بتنوعه وتناسقه، في تركيب هندسي يطوف بالجدران. فوق الزليج أحزمة ولوحات من الجبس المنقوش، ثم في الأعلي أفاريز من الخشب، حفرت عليها آيات قرآنية بخط مغربي أندلسي سميك. في وسط المدرسة صهريج ماء دائري من الرخام للوضوء. في الداخل قاعة للصلاة والدراسة. وفي الطابق العلوي غرف إيواء الطلبة، الوافدين علي فاس للدراسة في القرويين. زمردة تشهد علي هندسة العمارة المغربية الأندلسية في عهد المرينيين.
ثم وقفنا عند جامع عين الخيل. ذكرت لك أنه المسجد الذي كان ابن عربي يلازمه ويؤدي فيه صلواته. كان يسميه "الجامع الأزهر". فيه عاين النور وهو يصلي بجماعة صلاة العصر، عام 593ه / 1197م. قال عنه "فرأيتُ نوراً يكاد يكون أكشف من الذي بين يدي". حدقتَ في المئذنة السداسية الأضلاع، السابقة علي النموذج الموحدي للمئذنة الرباعية الأضلاع. تقدمت نحو باب المسجد وأخذت تكلم نفسك، بكلمات لم أتبيّنها. كنت في حالة قصوي من الغبطة، وتخيلت أنك كنت تتلو التحية والسلام علي الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. عندها فهمت أنك شاهدت في فاس ما لم تكن تتخيل أنك ستشاهده من الجلال في حياتك.
وفي سهرة مع جوق البريهي للموسيقي الأندلسية كانت لك الجذبة. لم تتوقف عن متابعة المقاطع بنشوة تغيب فيها عنا جميعاً. كنت في عالم من الشطح لا يدركه إلا المهيئون لمقام الكشف. كنت أشعر أن الموسيقي الأندلسية انتقلت بك إلي حيث لا بداية ولا نهاية للنشوة. طيلة السهرة كنت تقف وتشارك بطريقتك العفوية في الإنصات والدخول في الجذبة. وقبل مغادرتك فاس تيقنتُ أن ما ربطته فاس بيننا سيدوم دوام الحياة.
3
هل تتذكر يا جمال لقاءنا الموالي في القاهرة، ونحن الثلاثة، أنت وبهجت عثمان وأنا ؟ كان ذلك في أكتوبر 1982، بمناسبة مشاركتي في مؤتمر حافظ وشوقي. أتذكر أنك أهديتني نسخة من الطبعة الأولي لرواية "الزيني بركات" بغلاف أنجزه وأهداه إياك صديقنا بهجت عثمان. كنت أزور القاهرة أول مرة. خلالها أحطتني بكل الرعاية. أخذتني إلي قاهرتك أنت، القاهرة الإسلامية، التي عشت فيها صباك وشبابك. أقصد حيّ الجمالية. لم أنس لحد الآن غني تلك الجولة، التي تعرفت فيها علي الأزمنة المتعددة للعمارة القاهرية، وعلي الحياة الشعبية التي كنت تسترجعها بتلقائية مع العديد ممن كنت تتبادل وإياهم السلام. القاهرة الفاطمية، التي بناها الفاطميون المغاربة، كما كنت تقول، تكريماً منك للمغرب وأهل المغرب. الأزهر، والمدارس الأيوبية والمملوكية، وخان الخليلي، ومسجد الإمام الحسين. تدلني علي بذخ المعمار. وفي الوقت نفسه تعيد عليّ لقطات من ثلاثية نجيب محفوظ أو من ذكرياته في حي الجمالية، الذي قضي فيه طفولته وكان مصدر كتابة ثلاثيته. ففي خان الخليلي، تقول لي إنه أصبح يجلس أمام مبني قديم، تبدل أهله وتبدلت مظاهر حياتهم. يظل صامتاً لوقت طويل، لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد.
أسألك لأننا كنا أصفياء. كنت تسميني بما لا أستطيع البوح به، تقديراً ومحبة، واستقبلت بعض أعمالي علي مر السنوات بشغف العاشق. وعندما حملت بين يديك "كتاب الحب" في طبعته اللندنية الأصلية، بأعمال العزيز ضياء العزاوي، ونحن في تونس، ضممته إلي صدرك، قرأته بسرعة. فتحت آلة تصوير وصورته كاملاً. وبعد عودتك إلي القاهرة نشرته بصوره الملونة وبكامل نصوصه في "أخبار الأدب". احتفيت به كما احتفيت بسواه. وفي كل لقاء كنت تهديني مؤلفاتك الجديدة. الإهداء المتبادل للكتب هو أعز ما كان بيننا. وكثيراً ما حصلت منك علي كتب كنت أبحث عنها أو سلمتك كتباً كنت تفتقدها. كتب عديدة تراثية استلمتها من يديك. وإن كان لي أن أنوه ببعضها فلن أتردد في ذكر كتاب "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار" لأحمد بن يوسف التيفاشي، ونسخة مصورة من كتاب"مذكرات الأمير عبد الله" آخر ملوك بني زيري بغرناطة. وهما معاً من التحف النادرة. الأول كنت عرفتني به، والثاني قضيت زمنا في البحث عنه دون جدوي.
4
في زيارة موالية للقاهرة، سنة 1996، بمناسبة مؤتمر الألفية الأولي لأبي حيان التوحيدي، تجددت المناسبة للتعرف علي ما لم أتعرف عليه معك من قبل. زرت القاهرة آنذاك صحبة صديقنا جعفر الكنسوسي. أخذتنا نحن معاً إلي ضريح رابعة العدوية، وضريح الإمام الشافعي، المتفرد بفنه المعماري، وعرجنا علي زيارة القرافة، حيث التقينا صديقك الروائي خيري شلبي، ثم انتهت سياحة ذلك اليوم بزيارة صديقك الكبير نجيب محفوظ في العوامة علي النيل. قضينا معه وقتاً وهو محاط بأصدقائه من الحرافيش. كان شفي من الطعنة التي كان تعرض لها. اقتربت عندها من طريقته في الحديث وإلقاء النكتة وتتبع ما ينقله الحرافيش عن الحياة المصرية. خلال تلك الجلسة وافق علي طلب منك لإعادة نشر "أصداء السيرة الذاتية" في "أخبار الأدب". وفي وقت متأخر من المساء ودعناه. لم تقم بذلك وحده تجاهي، لكنه أقرب ما أستحضره الآن. عنايتك بي، في تلك الزيارة، تدل في تفاصيلها ولحظات السياحة والحديث علي المحبة التي ازدادت بمرور السنوات.
أذكر احتفاءك بي الذي كان يتقاطع مع الاحتفاء الذي كان يخصني به أصدقاؤنا المشتركون، سعيد الكفراوي ومحمد عفيفي مطر وعبد المنعم رمضان. بفضلكم جميعاً تعرفت علي القاهرة، التي ارتبطت بها في شبابي من خلال قراءة الكتب والمجلات. وبصحبتكم أصبحت المدينة قريبة مني. كثيراً ما كنت أقضي الساعات مشياً علي الأقدام، حرصاً علي الاقتراب أكثر من معالم المدينة القديمة ومن حياتها اليومية ومن تاريخها، أو في زيارة الأهرامات ليلاً ونهاراً، أو ركوب قارب في النيل والجلوس مطولا في مقهي للاستمتاع بأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم. وفي كل فرصة كان حديثك عن المغرب لا يتوقف. جلسات في مناطق شعبية كانت تعيدنا إلي الرباط أو فاس أو مراكش أو شفشاون أو
طنجة أو الأندلس.
شيئاً فشيئاً أصبحت تعرف المغرب من داخله، بعد أن تعرفت وأنت طفل في الصعيد علي الحجاج المغاربة الوافدين علي مصر في "الركب الفاسي". تمكنت من اكتشاف ما يغيب في المغرب عن بعض أهله، لأنك كنت حريصاُ علي أن تتزود من أعماقه، في حضارته وثقافته وفنونه. تجمع بين القديم والحديث، بين الأجواء الروحية والأعمال الفنية والأدبية والفكرية. بذلك القرب بيننا تمتنت الألفة. اكتشفت فيك إنساناً منفتحاً علي العالم. تتعلم من كل الثقافات، وفي كل سفر تنتقي الكتب وتحملها في حقيبتك الخاصة التي تسافر بها إلي كل مكان.
5
لقاءاتنا في تونس، في باريس، في بوردو، في غرناطة، في واشنطن، في فرنكفورت، في صنعاء، في أبو ظبي. محطات لا أنساها. وفي كل واحدة منها كان الحوار بيننا لا يتوقف. كنا نلتقي في مهرجانات عربية وأجنبية. والحوار يتشعب عن الكتابة والترجمة والتصوف والأبدية والمعمار والفنون التشكيلية ونجيب محفوظ وفلسطين والغرب والسياسات العربية وأخلاقيات الثقافة والمثقفين. كل مرة كنا نستأنف الحوار، كأننا لم نكن نفترق إلا لنجدد اللقاء. نمشي، نغامر بسلوك طرق لا نعرفها، لا نعبأ بالوقت. وحضور المغرب في جانب من أحاديثنا يتواصل، لأن إلحاحك علي استحضاره كان يصدر عن رغبة لا قرار لها في نفسك.
تلك الرغبة هي التي تجسدت في أعمالك التي كتبتها بعد أواسط السبعينيات، أي بعد رواية "الزيني بركات". وأعتقد أنه من الصعب فهم بعض أعمالك دون الرجوع إلي شغفك بالثقافة المغربية، أو المغربية والأندلسية تدقيقاً. مثلما يصعب دون استيعاب تعلقك بأسرار الأبدية في الأهرامات والحضارة الفرعونية. فأنت ذكرت لي، بخصوص المغرب، ونحن في بيتك، بأنك تكتب في الليل تحت تأثير الموسيقي الأندلسية، وبان أحب الأجواق إليك هو جوق البريهي، بقيادة الحاج عبد الكريم الرايس، الذي كنت اكتشفته أثناء زيارتك الأولي لفاس عام 1979. وكنت تشير من جهة أخري بأن ثقافة المغرب ساعدتك علي استرجاع طفولتك، وعلي تعميق مداركك الروحية والثقافية.
كنت تبوح لي بعفوية بهذا الشغف المغربي. وكنت، أكثر من هذا، تتمسك بتلبية أي دعوة تأتيك من المغرب، لحد أنك لا تبالي بالجهة الداعية. الدعوة مناسبة للعودة المتكررة إليه، وشعلة شوقك لا تنطفئ أبداً. كنت أغبطك علي هذا الشوق وعلي هذا الحفر الذي لا يتعب عن الطبقات المغمورة من ثقافة المغرب. ومن غير مبالغة أقول إن تعلقك بهذه الثقافة أعطي كتاباتك، كما أعطي تجربك الذاتية، قوة عرفانية أصبحت من خصائص نسيج أعمالك.
6
ثمة إشارة دائمة من طرف النقاد والقراء إلي أن عملك الكبير هو رواية "الزيني بركات". لا شك أنه عمل متميز بجرأة استثمار أسلوب كتابات تاريخية في الفترة المملوكية، وخاصة كتاب "بدائع الزهور" لابن إياس، و"الخطط والآثار" للمقريزي، و"عجائب الآثار" للجبرتي. عثرت في هذا الأسلوب علي ما سميته "بلاغة مصرية"، تجمع ما بين العربية الفصحي والعربية المصرية، كما كانت عليه الكتابات العربية لما قبل النهضة. وهو أسلوب تنكر له الحديثون واعتبروه متخلفاً عن تقنيات السرد في الرواية الغربية الحديثة. لكنك ربطت بين استعمال هذا الأسلوب وبين كتابة عمل سردي يحاكم القهر البوليسي في الفترة الناصرية، من خلال استعمال قناع العهد المملوكي كما أرخ له ابن إياس، حيث عاني الناس من ظلم ورعب السلطة التي كانت تقوم علي الإرهاب والتخويف، كما كانت عليه الحال في السجون المصرية إبان الستينيات.
بهذا العمل أصبح اسمك متداولا في الحياة الثقافة العربية، وبه افتتحت مرحلة ترجمة أعمالك إلي لغات أجنبية. علي أن هذا لا يخفي عني ما أري أنه الأهم. أقصد كتاب "التجليات" بأسفاره الثلاثة. أسميه كتاباً، لأنه عابر لأشكال التأليف عند العرب القدماء. وهو أحد الأعمال الأدبية الكبري في العربية الحديثة. انتقلت فيه من الشهادة علي زمن القمع إلي تجليات الرؤيا الصوفية. فيه تتضح صلاتك بكتاب "ألفتوحات المكية" لابن عربي وقرابتك معه. ثم إنك استثمرت بطريقة مبدعة ومتحررة تقنية بناء العمل، وفق أسلوب لا يفصل بين القديم والحديث، بين تجربة الداخل وبين عوالم الحياة العائلية والسياسية والتاريخية. في البداية تشير إلي التجلي المغربي، إذ "كان القصر مغربياً، والمنمنمات أندلسية". وفي الكتاب تظهر فاس مرات عديدة، ومعها المغرب بحضارته المتشبعة بالثقافة الصوفية وبفنون المعمار والموسيقي والتعبير عن حب الحياة. يصاحبك ابن عربي في أغلب التجليات. وبينكما حديث لا ينفد. نبع الكلام يجري، وأنت تنصت وترتوي.
عندما أهديتني نسخة من "التجليات" صرحت لي بأنك استلمت الأمر بكتابته أثناء زيارتك الأولي لفاس. لم أستغرب ما ذكرت لي، وعلي وجهك علامات تأثر، لمحت فيها امتزاج نشوة الفرح بنشوة البكاء. في كلماتك خشوع وجوارحك خامدة. سلمت عليك وباركت لك. فلا أحد يقدر أن يستلم الأمر بكتابة مثل هذا العمل لو أنه لم يكن من الصّادقين. كذلك رأيتك وخبرتك، طيلة معرفتي بك.
7
شاركنا، أنت وقاسم حداد وأنا، في مهرجان "أرابيسك : فنون العالم العربي"، الذي نظمه مركز جون كينيدي في واشنطن سنة 2009. كنا نتصيد أي فرصة نجتمع فيها. نبحث عن مطعم للسمك، نمشي لساعات، نزور متاحف، نرتاد حانات. وفي يوم عزمنا، أنت وأنا، علي المشي. قطعنا المسافات الطويلة بين الفندق وبين المتاحف في منطقة المادي سون، من ببينها المتحف الوطني للفنون، ومتحف تاريخ الصحافة. تمشينا لوقت طويل، وعند العودة توقفنا عند البيت الأبيض، حيث كان باراك أوباما لا يزال وافداً جديداً. عثرنا علي مقعد خشبي مريح قبالة المبني، الذي يقرر في مصيرنا. كنا نريد أن نستريح. هناك أخذت تروي لي عن تفاصيل العملية الجراحية التي أجريت لك علي القلب المفتوح في مستشفي كليفلاند بالولايات المتحدة سنة 2007، أي قبل سنتين فقط. رويت لي، وأنت تصف إحساساتك بما عرفت عن تكوين القلب وما كان لك من حوار مع طبيبك الجراح.
كنت مبتسماً ومنشرحاً طوال أيامنا التي قضيناها في المهرجان. نحضر الحفلات الموسيقية التي تقام في مركز جون كنيدي. نزور المعارض الموجودة في طابقه العلوي. نتبادل الحديث مع كتاب وفنانين مشاركين. نخرج ونتطلع إلي النباتات علي امتداد الطرق. بين الفينة والأخري نتبادل كلمات ساخرة عن أنفسنا وعن العالم. وفي الندوة المخصصة لتقديم الأدب العربي تناولت الحديث عن حياتك. كنت تتكلم وأنت تكاد تكون تحلم بالكلمات. من نفسك تنظر إلي الحضور. تعيد تكوين مراحل حياتك من قرية سوهاج إلي القاهرة. وفي نبرتك حنين إلي ما كنت عشته، قبل ممارسة مهنة الصحافة. ثم استغرقك الحديث عن تقنيات الكتابة الروائية وحرية الكاتب وصداقة نجيب محفوظ والحوار مع العالم.
8
كذلك كنت في تجربة كتابية تعلقت فيها بالبحث عن أسرار الأبدية، التي لم تكن تتخلي عن تأملها، وقبلت المخاطرة بالسفر إلي أقاصي تجربة عرفانية، تكونت في عوالمها الأولي ثم لم تتوقف عن السير نحوها. نحن، يا جمال، فانون. وكلمتنا هي وحدها التي نتركها لمن بعدنا. لربما تقاوم الزمن أكثر مما نقاومه، تسافر في كتابات، ويعود معها الحلم، كما كنا نحلم بحياة لا تفني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.