الصحة: ترشيح 8 آلاف و481 عضو مهن طبية للدراسات العليا بالجامعات    دليلك الكامل للالتحاق ب مدارس التمريض 2024.. شروط التسجيل والأوراق المطلوبة والمزايا    ذبح 360 أضحية للمواطنين ب«المجان» بمجازر كفر الشيخ    بيت الزكاة والصدقات يستعد لتوزيع 300 طن لحوم على المستحقين غدا    «ري كفر الشيخ»: متابعة مناسيب المياه بالترع والمصارف على مدار الساعة    إنجاز جديد.. طلاب حاسبات القاهرة يفوزون بمسابقة تكنولوجية في الصين    الحكومة بغزة: نطالب بإفراج الاحتلال عن 310 من الكوادر الطبية    خبير عسكري روسي: موسكو تخطط لاستهداف سفن الأعداء بالأسلحة النووية    تل أبيب: في حالة حرب شاملة سيتم تدمير حزب الله    البرتغال ضد التشيك.. رونالدو يقود برازيل أوروبا بالتشكيل الرسمى فى يورو 2024    الVAR ليس الحل.. الأهلي والزمالك ضمن 7 حالات أثارت الجدل بسبب خط المرمى (فيديو وصور)    عاجل.. إيقاف قيد الزمالك رسميا    محافظ الدقهلية يحيل 188 محضرا بمخالفات التموين والرقابة على الأسواق للنيابة العامة    شؤون الحرمين تعلن نجاح خطتها التشغيلية لموسم حج 2024    أكرم حسني يوجه الشكر لتركي آل الشيخ بعد دعوته لحضور "ولاد رزق 3" في الرياض    نوستالجيا 90/80 عرض كامل العدد على مسرح السامر من إخراج تامر عبدالمنعم    دار الإفتاء عن حكم التعجل في رمي الجمرات خلال يومين: جائز شرعا    لسهرة مميزة في العيد، حلويات سريعة التحضير قدميها لأسرتك    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج إنتاج وتكنولوجيا القطن بزراعة سابا باشا جامعة الإسكندرية    مطران مطاي يهنئ رئيس مدينة سمالوط بعيد الأضحى    زراعة 609 آلاف شجرة بالطرق العامة والرئيسية بالشرقية خلال الأيام الماضية    عودة الاقتصاد المصرى إلى مسار أكثر استقرارا فى عدد اليوم السابع غدا    غارة إسرائيلية بصاروخين "جو - أرض" تستهدف بلدة عيتا الشعب جنوبي لبنان    سامح حسين عن مسرحية عامل قلق : أعلى إيرادات إفتتاحية فى تاريخ مسرح الدولة    «دعم اجتماعي ومبادرات خيرية» كيف غيّرت قصة بائع غزل البنات من حياته؟    تنسيق الجامعات 2024.. قائمة المعاهد الخاصة العليا للهندسة المعتمدة    أخبار الأهلي : تصنيف "فيفا" الجديد ل منتخب مصر يفاجئ حسام حسن    لمتبعي الريجيم.. ما الحد المسموح به لتناول اللحوم يوميًا؟    إسماعيل فرغلي يكشف عن تفاصيل إصابته بالسرطان    خروجة عيد الأضحى.. المتحف المصري بالقاهرة يواصل استقبال زواره    الجارديان: حل مجلس الحرب سيدفع نتنياهو لمواجهة الفشل وحده    "تخاذل من التحكيم".. نبيل الحلفاوي يعلق على أزمة ركلة جزاء الزمالك أمام المصري    جدول مباريات ريال مدريد بالكامل فى الدورى الإسبانى 2024-2025    مصرع 13 شخصا بسبب الفيضانات فى السلفادور وجواتيمالا    «البيئة» توضح تفاصيل العثور على حوت نافق بالساحل الشمالي    «الصحة» تقدم نصائح لتجنب زيادة الوزن في عطلة عيد الأضحى    هل يؤاخذ الإنسان على الأفكار والهواجس السلبية التي تخطر بباله؟    مجدي يعقوب يشيد بمشروع التأمين الصحي الشامل ويوجه رسالة للرئيس السيسي    تفاصيل جديدة في واقعة وفاة الطيار المصري حسن عدس خلال رحلة للسعودية    شد الحبل وكراسى موسيقية وبالونات.. مراكز شباب الأقصر تبهج الأطفال فى العيد.. صور    الجثمان مفقود.. غرق شاب في مياه البحر بالكيلو 21 بالإسكندرية    تنسيق الأزهر 2025.. ما هي الكليات التي يتطلب الالتحاق بها عقد اختبارات قدرات؟    خبير سياحي: الدولة وفرت الخدمات بالمحميات الطبيعية استعدادا لاستقبال الزوار    في ثالث أيام عيد الأضحى.. المجازر الحكومية بالمنيا تواصل ذبح أضاحي الأهالي بالمجان    الصحة: فحص 14 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة والاعتلال الكلوي    دعاء الخروج من مكة والتوجه إلى منى.. «اللهم إياك أرجو ولك أدعو»    دار الإفتاء: ترك مخلفات الذبح في الشوارع حرام شرعًا    الاتحاد الأوروبي والصين يعقدان الحوار ال39 بشأن حقوق الإنسان والعلاقات المشتركة    بعثة الحج السياحي: إعادة 142 حاجًا تائهًا منذ بداية موسم الحج.. وحالة مفقودة    الحرس القديم سلاح البرتغال في يورو 2024    "سويلم" يوجه باتخاذ الإجراءات اللازمة للاطمئنان على حالة الري خلال عيد الأضحى    هل يجوز للزوجة المشاركة في ثمن الأضحية؟ دار الإفتاء تحسم الأمر    عبد الله غلوش: «إفيهات» الزعيم عادل إمام لا تفقد جاذبيتها رغم مرور الزمن    مدرب بلجيكا: لم نقصر ضد سلوفاكيا ولو سجلنا لاختلف الحديث تماما    تعرف على حكام مباراة الاتحاد والأهلي    العثور على جثة شخص بجوار حوض صرف صحى فى قنا    مصرع شخص وإصابة 5 فى حادث تصادم بالدقهلية    البطريرك يزور كاتدرائية السيّدة العذراء في مدينة ستراسبورغ – فرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رغم الإشارات ، لا تحصل التحوّلات:
قراءة في أهم الكتب الأدبية للربع الأخير من القرن العشرين
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 11 - 2015

ملاحظة أولي: قُدمت هذه الورقة ضمن الجلسات النقاشيّة حول معرض "طقوس الإشارات والتحوّلات (1975 1995)" الذي أقيم في إدارة الفنون في عمّان، للحديث عن مختارات الكتب البارزة في الفكر/الأدب العربي المعاصر ضمن التساؤل عمّاذا تبقّي من الإبداع الثقافي العربي في الربع الأخير من القرن الماضي. لا تُقدّم هذه الورقة المشهد كاملاً بل علامات مختارة من الكتب الأدبية الصادرة في الربع الأخير من القرن العشرين (1975 2000) استناداً إلي ذائقة كاتبها ومحدودية المساحة المتاحة وحدود الإطلاع، وهي تقتصر علي السرد، وقد تتبعها أخري عن الشعر. لا تدّعي هذه الورقة أبداً أنها تحتوي كل العناوين الهامة، بل العكس هو الصحيح، فكثير من الكتب/المشاريع الهامة لم يرد هنا (خماسية مدن الملح لعبد الرحمن منيف، وروايات الغيطاني والبساطي وصنع الله إبراهيم علي سبيل المثال). وثمة كتب أخري قد أكون غفلت عنها أو جهلتها، ولا يقلل هذا من شأنها في شيء بل يشير إلي تقصيري من جانب، ورغبتي في أن تكون الكتب الواردة هنا عيّنة عن المرحلة من جانب آخر، لا رصداً كاملاً وافياً لها.
ملاحظة ثانية: أعلام تلك المرحلة كانوا نجومها بشكل عامّ. وإن كان نتاجهم يتراوح نوعياً فيصعد حيناً ويهبط حيناً، يصرّح حيناً ويلمّح حيناً، إلا أنهم كانوا بمجملهم ومجمل أعمالهم أصحاب مشاريع كتابية/ثقافية، لا يتوانون عن النقد الحاد والسافر والغوص العميق في الظواهر التي يقاربونها. ولعل الربع الأخير من القرن العشرين هو الزمن الأخير الذي يجتمع فيه المشروع الثقافي الإبداعي الجديّ المتمكن مع الانتشار قبل أن يفترقا بعدها، ولكم أن تقارنوا حال ذلك الزمن بحال نجوم مرحلتنا الحالية و"مشاريعهم" المتركزة حول الذات والشهرة ولمّ الجوائز وكتابة "ما يطلبه الجمهور" لتعرفوا الفرق؛ وحسْبُ من سيرد ذكرهم تالياً أن نبوءاتهم باستمرار عصور الانهيار قد تحققت بشكل أو بآخر.
1
"في فم هذا المخلوق دودة تجعله يأكل نفسه إذا لم يجد لحماً يأكله."
كتب إبراهيم الكوني عوالم الصحراء والمفازات، واستبطن مدياتها المفتوحة في إنتاج شكل من الكتابة التأملية التي ميّزت تجربته، وقادته إلي نوعٍ مكثّف من الحكمة مثل العبارة أعلاه، وهي من الكتاب الذي اخترته هنا وتدور أحداثه أيضاً في لقاء الرمل والصخر، علي تخوم الفيافي والجبال، لكن موضوعه لم يُطرق سابقاً في عالم الكتابة العربيّة علي هذه الصورة الفاضحة، ف نزيف الحجر (رواية، 1990) يتحدّث عن توحّش الإنسان، وظلمه الماحق للحيوان والطبيعة. في الرواية يتحوّل أكل لحم الحيوان إلي مدخل لسبر أغوار الاستعمار، والانتهازية، وصعود القوي فوق الضعيف، والشرّ فوق الخير، فلا طريق لآكل اللحم سوي أن يكون آكلاً للحوم البشر أيضاً:
"تململت الدودة الشيطانيّة في أسنانه، فنهش رقبة الودّان، والتهم قطعة لحم. ولكن الحيوان لم يتوقّف عن القفز بين أحجار الجبال. غرس أنيابه في رقبته، ونهش قطعةً أخري... صعد الحيوان قمّة جبل عالية، فاكتشف أنه يجلس علي ظهر رجل بائس لم يعرفه من قبل، نحيل الجسم، طويل القامة، تقطر من رقبته الدماء. وقبل أن يفيق من هول التحوّل، رفع الرجل نحوه وجهاً شقياً وقال له: لا يُشبع ابن آدم إلا التراب ورمي به من القمة السماوية، فوجد نفسه يطير إلي الهاوية".
والكاتب يشتق موضوعه بالغوص في مستويات عدّة تنهل من الأسطورة، والحكاية الشعبية، والنص الدينيّ والتراثيّ، مما يجعل من العمل أيضاً نوعاً من الاشتغال المعرفي والجمالي الرفيع. في ثقافة تعتبر الطبيعة بحيواناتها وجماداتها ومواردها مُسخّرة للإنسان (صورة الله وخليفته)، وتحتقر عالم المحسوسات (دار الفناء) بصفته ممرّاً إلي عالم الملذّات الشهوانيّة الأبديّة (دار البقاء)، يُعتبر نزيف الحجر، الذي يتجرّأُ علي الإنسانِ آكلِ اللحمِ مُبيدِ الحيواناتِ قاهر الطبيعة المتلذّذِ بقتلها فيرسّمه شيطاناً،علامةً باهرةً بحق في سجلّ الكتابة العربية.
2
"أسجّل هنا... أنني كاتب اليأس والقسوة، والنهار المهزوم بالظلمة، والحزن والموت المخيّم فوق أرواحنا المستلبة والكئيبة".
هكذا تحدّث حيدر حيدر، فالكتابة القياميّة العربيّة لم توجد - بظنّي - قبله، ولم يحتفِ أحدٌ بالحريق الذي يأتي علي كلّ شيء كمقدمة ضرورية لظهور البرعم الأخضر إلاه. وبعد أن دفع بالكتابة إلي أعلي مصاف التشاؤم، صار كاتباً نبوئياً، كاتب المستقبل الذي لا يأتي، كاتب الهجاء المرّ الذي يسعي لخراب الخراب. في الوعول (مجموعة قصصية، 1978) كما في وليمة لأعشاب البحر نشيد الموت (رواية، 1984) أو في أوراق المنفي: شهادات عن أحوال زماننا (مقالات، 1993) أو في غسق الآلهة (مجموعة قصصية، 1995)، يقدّم حيدر حيدر هجاءً قاسياً للماضي الذي لم يتوقّف عن الحضور وإعادة إنتاج نفسه في حاضر مُنسحق تابع لا يحضر إلا بصفته ماضياً، فاسداً دائماً، مريضاً أبداً، ومجرثماً لا يُرجي شفائه ولا يتطهّر إلا بعد أن يصير رماداً في استعادة معاصرة لأسطورة العنقاء. نقرأ في نشيد الموت:
"مدينة المنفي والحب والملاذ والطبيعة الوهاجة تتناثر الآن ذرات هلامية ممحوة المعالم كبقايا سفينة تغرق في أعماق محيط. علي سطح البحر المختلج تعوم منها ندبة... ها قد ظهرت الحدائق ومقابر الشهداء وأبواب البحر أخيراً. من سياج حديقة يقطف الرجل وردة حمراء ثم يلج المقبرة المتاخمة لفاصل البحر. نصب تذكاري يرتفع علي بوابة المقبرة. رمح من الرخام علاه غبار. علي قاعدة النصب ينحني الرجل ويضع الوردة الحمراء ثم يخطو نحو البحر. علي الرمل يتعري ثم يصعد صخرة. يتنفس بعمقٍ الهواء الرطب، وباندفاعة طائر يقذف جسده إلي البحر."
تلك الرباعية تتكثف فيها كل اشتغالات الكاتب الفنية التي ترتكز علي تقنيات الهلوسة والأحلام والقصة المقطعة المرويّة علي مراحل داخل قصّة أخري والقطع التذكّري، تقنيّات جديدة علي الكتابة العربية في حينها وستصبح من تقنيات الكتابة الأساسية بعدها. هذه الرباعية هي خير ممثّل لواقع جهد كثيرون لتجميله، وهرب كثيرون من رصد فظاعاته، فكان حيدر حيدر بذلك رسول المستقبل/الخراب في ذلك الماضي.
3
"سألتُ الشيخ عبد ربه التائه: كيف تنتهي المحنة التي نعانيها؟ فأجاب: إن خرجنا سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل."
ثلاثة كتب تشهد علي تمكن كاتب هذا النص من ألوان مختلفة متنوّعة من الكتابة تجعله جديراً بجائزة نوبل اليتيمة التي كانت من نصيب كاتب بالعربية. وهذه الكتب تغادر ما يألفه الأغلبية من مقاربات نجيب محفوظ الأقرب إلي الواقعية والواقعية الجديدة التي ترسخت في ثلاثيته الشهيرة التي عرفها أغلب الجمهور متلفزة وتوقفوا (كما جرت العادة) عند ذلك الحدّ. في حضرة المحترم (رواية، 1975) يذهب محفوظ إلي مسار إشاريّ/رمزيّ صافٍ، يقدّم فيه نقداً لاذعاً ليس للسلطة وفسادها فقط بل وللطريق إليها وفيها، طريق يحكمها البرود والتجلّد وانعدام المشاعر، مقترباً من أجواء غوغول وتشيخوف مع مسحة من خفة ظل تزيد من هول المأساة وبؤسها. لنتأمل مشهد موظف الدرجة العليا الصاعد من الفقر الطامح لأن يكون مدير الإدارة والمضرب عن الزواج ليجد من تعينه بمكانتها علي صعود سلم السلطة، وهو يقرر الزواج أخيراً:
"وجيء بالمأذون إلي البيت. واقتضت الإجراءات شاهدين فلم تجد »العروس« إلا قوادين ممن كانوا يعملون معها. وجرت المراسم البسيطة وهو »الموظف« يتابعها بذهول. ما هذا الذي يجري؟ واجتاحه شعور ممزِّق بالقلق بلغ حد الرعب فتمني لو يقع حادث من عالم الغيب فيبدد سحابات الكابوس الذي يعاني. ثم اجتاحته موجة من الاستسلام بلغت حد الاستهتار. ولما أدلي باسمه وعمله وقع ذلك من المرأة والقوادين موقع الذهول."
أما في ملحمة الحرافيش (رواية، 1977) فتتجاوز الحكاية جدران الواقعية التي تشتغل علي هوامش المجتمع المصري وحواريه (وهي أجواء صارت في الأدب المحفوظيّ متناً حقيقياً) لتقترب من السحريّة وأجواء الأسطورة والحكاية الشعبية المغلفة كلها بالطابع الرمزي الذي ينطبع في أغلب أعماله، فيحضر الفتوّة بصفته المخلّص الغائب، ويغيب الحرافيش (الذين سمي الكتاب باسمهم) إلي أن تصعد ثورتهم المظفّرة آخر الكتاب، وكأنها استعادة مقلوبة لأسطورة المسيح حيث جماهير المغلوبين علي أمرهم هي من تُخلّص "المُخلّص". أما في عمله الفارق الثالث أصداء السيرة الذاتية (مجموعة قصصية، 1995) فيشتغل محفوظ علي السرد القصير جداً ويميل باتجاه الكتابة التجريبية في نصوص مكثفة هي أميل إلي التأمل منها إلي المفارقة، وتؤكد علي أن الكاتب المتمكن قادر علي الإبداع المتنقل بين الأشكال أو الدامج بينها علي حدّ سواء خارج أسوار "حدود" الأنواع.
4
"نفخ الشرطيّ في صفارته، فبزغت تواً شمس الصباح، وأضاءت شوارع المدينة بنور
أصفر كخشب مشنقة عجوز. وعندئذ أفاق الناس من نومهم آسفين عابسي الوجوه."
هذا النص هو الأسطر الأولي من كتاب صدر عام 1978 وصار اسمه علامة بحد ذاته، يُستعار لا في سياق الأدب فقط، بل وفي سياقات أخري أشد وطأة وأوغل أثراً وأكثر ادّعاءً. إنه المجموعة القصصية: النمور في اليوم العاشر لزكريا تامر. قبل هذا الكتاب، كان زكريا تامر قد حقق نقلة نوعية في فن الكتابة القصصية من خلال اجتراح لغة وصور وثيمات جديدة لم تكن معتادة حينها وما زالت تثير الإعجاب وتترك أثرها الذي لا يُمحي في أجيال لاحقة من الكتّاب. لكن ثمة ما يجعل من النمور كتاباً فذاً في سياق المرحلة التي نتحدّث عنها، فالكاتب يقدّم فيه سبراً عميقاً للمجتمعات المُدجّنة، وأشكال القمع والإهانة التي تعيد إنتاج الأشخاص والعوالم والنوازع والرغبات وتسحقهم سحقاً، كل ذلك بلغة باردة تجعل من الألم مضاعفاً. نقرأ مثلاً:
"يطاردني رجال لا أعرفهم، فأختبئ في جسد حبيبتي، ولكن الرجال يجيئون سريعاً قساة غاضبين، ويقتحمون غرفة حبيبتي، ويبحثون عني، فلا يستطيعون العثور علي، فتتجهّم وجوههم، ويهمّون بالذهاب، غير أن أحدهم يقول فجأة لحبيبتي: اخلعي ثيابك، فتقول له بدهشة واستنكار: استح. فيقول لها هادئاً وصارماً: نريد التفتيش بدقة. فتخلع حبيبتي ثيابها بنزق، وتقف جسداً عارياً متحدياً، فيتحسس الرجل لحمها، ثم يرميها أرضاً بحركة مباغتة شرسة. وأسمعها تشهق مرتعدة، وتقول بصوت خفيض: أنت تؤلمني. فيزداد الرجل توغلاً في جسدها، ويصطدم بي، فلا يُدهش، إنما يقول لي بصوت فظ متهدّج: اخرج وإلا أطلقنا النار عليك. فأخضع لأمره، ولكنه يظل متابعاً بحثه عني، ثم يتلوه بقية الرجال، فأصرخ محتجاً، فيطلب مني السكوت، فأطيع، وأراقب ما يجري بعيني ميّت."
ليس ثمة قراءة أعمق لحال شعوب ترضخ للعسف وتستكين للجبن، وهذه اللغة الباردة تكشف لا الموضوع المتناول فحسب، بل تُعرّي القارئ نفسه أمام انفعالات عليه أن يتصرّف حيالها ويتحرّك، أم أنه سيكتفي بالمراقبة بعيني ميّت؟
5
مع لحظات غرق جزيرة الحوت (مجموعة قصصية، 1996) يضع محمد المخزنجي علامة فارقة أخري من سلسلة علامات بدأت قبل هذا الكتاب وتستمر بعده. مجموعة قصصية تقرأ احتضار وموت قوة عظمي في قسمين: "فصول تشيرنوبل الأربعة" بعد حادثة المفاعل النووي الشهيرة، و"طوابير موسكو 90" حيث الاصطفاف الطويل والمضني لساعات وساعات أمام حرف الM الشهير من أجل همبرجر وبعض البطاطا المقليّة. شكل الكتابة تمتزج فيه الحقيقة (Facts) ) بالمتخيّل
Fiction) ) ليولّدان ما يسميه ديفيد لورج Faction ويسميه المخزنجي "رواية الحقائق القصصية"، نوع هجين قادر علي التأثير العميق بحكم استناده إلي الواقع من جهة، ودراميّته الفنيّة من جهة ثانية؛ لكن الأهم من هذا وذاك هو الحساسية الجديدة التي يجترحها المخزنجي لمواضيعه ومنها مأساة هذا الكلب المشعّ:
"انكشف عنه جسم الترولي وكشف عن هذا الامتحان الشديد والصعب لكل الواقفين والماضين في الشارع، الذين استداروا جميعاً يشاهدون كلباً ألصقه بالأسفلت نصفه الخلفي المدهوس والمدمي، فيما راحت العربات المسرعة، والتي لم تكن تتبينه لثباته النسبي في موضعه، تلطمه وهي تحاول تفاديه في اللحظة الأخيرة. كان واضحاً أن الألم يعصف به مع أقل حركة، فبقي علي وضعه.. وضع واحد كأنه يزحف بلا حركة، مرسلاً عواءه الواهن. ثم إن السيارات مع تناقص ضوء النهار راحت تمر عليه، فيعوي وهو يندهس عشرات المرات.. عواء مثل صرخات استغاثة، انفعل لها طفل صغير بالصراخ، واندفع مشيراً إلي الكلب الذي ينهرس علي الأسفلت. لكن أمه المروَّعة شدته إليها برعب فائق.. رعب يعادل الرعب من تلقّي جرعة مكثفة من الإشعاع المخيف حملها المسكين عبر رحلته الطويلة وانتهي بها إلي هذه البقعة التي التصق بها. كومة صغيرة.. كومة صغيرة راحت مدماة- تتسطح رويداً رويداً علي الأسفلت وينبعث منها أنين يهن شيئاً فشيئاً.."
هي فجائعية يستلهمها المخزنجي من الصغير والعابر، من هامش الصورة وأطرافها، يلتقطها ويفجّرها بفتح أحشائها وأعماقها مَرّة واحدة فيما لا يتعدي الفقرتين أو الثلاث فقرات، واضعاً القارئ في قلب المأساة الشاملة؛ فالكاتب هنا لا يصف الوقائع للقارئ، بل يحمله حملاً ليصير جزءاً منها، وفيها؛ وهذه مهارة نادرة.
6
"العبد ذبح الشيخ، والفلاح ذبح
( البدوي ) سحلول، عمرها ما انسمعت. ما ظل غير النسوان."
لم يكتب أحد حياة القرية والبادية في الأردن، وتخوم التقائهما وصراعهما، كما كتبها غالب هلسا في عملين أساسيين: زنوج وبدو وفلاحون (مجموعة قصصية، 1976) وسلطانة (رواية، 1987): البريطانيون والمرابعون والعبيد وصراع البدو والفلاحين والمدينة الهجينة وثيمات أخري لم تُطرق بعمق في أي عمل شبيه، فالموضوع يتوجّس منه كثيرون. كان غالب هلسا متحرّراً من أزمة الهوية التي تحوم كقدرٍ لا فكاك منه في المشهد الثقافي المحلي: كان متحرّراً بالمعني السياسي، ولعب منفاه الاختياري دوراً مضاعفاً في تعزيز إمكانياته وأدواته، فلم يشارك في تجاهل قراءة الواقع الاجتماعي الاقتصادي كما هو من حيث هو واقع صراعي مُشتبك مُتحوّل:
"كان ستة من الزنوج قد ربطوا إلي لوح الدراس، محنيي الظهور والسيقان وقد التصقت قطع قش دقيق بالجزء الأعلي من أجسادهم. كانوا يلهثون وقد انتفخت أنوفهم، ومخاط أصفر مختلط بالقش والعرق يسيل منها. وعندما يهوي السوط علي ظهورهم كان يصدر عنهم فحيح حاد مبتور. الدرّاسون علي البيادر ربطوا إلي الألواح الخشبية خيولاً هرمة، أو بغالاً، والدرّاس الذي يقف علي اللوح كان يمسك بأعنة الحيوانات التي تندفع مسرعة جارة اللوح الخشبي وراءها... قال طافش: ما أجت أخبار عن العبد؟ - من يجيبها؟ هذاك صار في الغور وضاع بين الغوارنة. قال طافش: عبد يذبح شيخ. عمرها ما انسمعت."
في الأردن ثمة ما هو أوسع بكثير من المنسف والبداوة والقبيلة، ومن علاقات القوة الأحادية الاتجاه. هناك تنوع هائل بين حضر وبدو وفلاحين مرّ غالب هلسا بها جميعاً، وثمة مجتمعات (بدوية وفلاحية وحضرية) عابرة للحدود شمالاً وجنوباً وغرباً وشرقاً، تشهد علي ما صُنع في المنطقة علي يد مُستعمريها بعد الحرب العالمية الأولي. لهذا لا يُحتفي ب سلطانة أو زنوج وبدو وفلاحون كأعمال "أردنية" بامتياز، مثلما لا يُحتفي بزياد قاسم في أعماله الملحميّة عن عمّان، وأبرزها أبناء القلعة (رواية، 1990) الذي يستحق أن يكون ضمن قائمة الكتب المهمة في الربع الأخير من القرن العشرين هذه، وكذلك كتاب عبد الرحمن منيف الفريد من نوعه سيرة مدينة: عمّان في الأربعينات (سيرة، 1994) الذي لولا أن كاتبه هو عبد الرحمن منيف لكان اختفي من التداول ككتب زياد قاسم، فهذه الكتب تطرح عمّان بعيداً عن رومانسيات المكان الفارغة أو الأسطرة المتكلّفة أو الحشر في قالب الدعاية السلطوي. في هذه الكتب نجد عمّان (كبقية المدن) وهي تتشكل من مجموعة هائلة من التنوّعات والتجاذبات والتشوّهات، مختبر للتحوّلات سبق الهجرة الفلسطينية الأولي بعد نكبة ال1948 واستمر بعدها.
الإشارة إلي هذه الأعمال مهمّ لأنها اقتربت من المجتمع المتشكل المتغيّر كما هو، لا كما صار يراد له أن يكون لاحقاً، شيء يشابه بطولة الشهيد محمد حمد الحنيطي المنسية، لا لشيء إلا أنه لا يمثل الخطاب السائد: فالرجل القادم من أبو علندا شرق النهر (تم فك الارتباط اليوم) كان قائد المقاومة المسلّحة (لم تعد مرغوبة اليوم) في حيفا 1947 (التي تقع في "إسرائيل" اليوم)؛ تحوّلات مستقبل لحظة الكاتب (الحاضر) تفرض نفي الكتابة/البطولة اللاحق، وتفرض استعادتها هنا.
7
"الحقيقة هي ما وافق أهواء السادة، وما انقادت إليه العامة انقياد الأعمي، وعدا ذلك لا توجد إلا الافتراءات والظنون."
تلك صفعة أخري يوجهها كاتب آخر لعصر انحطاط جديد. فأحداث طقوس الإشارات والتحوّلات (مسرحية، 1994) لسعد الله ونّوس تصلح لبلاط خليفة عباسيّ، وتصلح لزمنها المفترض (النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، وتصلح لزمننا الآن، ولقادم الأيام. فالسلطة هي السلطة: تحيك الدسائس والمؤامرات، وتستمرّ سيادتها بالابتزاز والإكراه، ويتضامن أفرادها المتصارعون حين تتعرّض امتيازاتهم للتهديد من العامة المقموعين. هناك تركيز شديد في هذا العمل علي تفكيك مقولة أساسية من مقولات تغييب العقل ومصادرته: "الحقيقة في الإجماع"، وثمة فكرة أظنها غير مسبوقة- تجعل من "الانحلال" انعتاقاً وتحرّراً وفعلاً ثورياً حقيقياً، تقول مؤمنة زوجة نقيب الأشراف التي صارت ألماسة العاهرة عن سبق إرادة وتصميم وإعلان:
"وأول المقامات في رحلتي هو أن أرمي وراء ظهري معاييركم. ينبغي أن أتحلل من أحكامكم، ونعوتكم، ووصاياكم كي أصل إلي نفسي."
هذا التحدّي الثوري لقيم ظاهر المجتمع المُنفصم المُشوّه الذي له "مَخبر ومَظهر" يتمثّل أيضاً في شخصية العفصة: الزكرتي الذي يتكشّف عن مثليّ لا يخجل من حلق شواربه ونتف شعر جسده وإعلان حبه لرجل آخر، وفي صفوان الذي يتحدّي سلطة أباه الشيخ التاجر المعروف ليقتل شقيقته مؤمنة/ألماسة، وفي عبد الله نقيب الأشراف الذي يُلقي بأمواله وسُلطته ومتع الدنيا ليختار أن يكون مجذوباً صوفياً. لكن هناك تراكماً من التناقضات لا يتم تجاهله أبداً بين الفواعل المختلفة، يجرُّ بعضها إلي التغيير والتقدّم (ألماسة، العفصة) ويجرُّ آخر إلي التقهقر والرجوع (صفوان، عبد الله)، فتمتنع الحركة، ويظل التاريخ مُعلّقاً: رغم الإشارات، لا تحصل التحوّلات وتظل تنتظر، وننتظر معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.