أوكرانيا.. تأهب في كييف بعد هجوم روسي بطائرات مسيرة وصواريخ    حريق محدود بورشة رخام في جهينة دون إصابات    في لحظة عائلية دافئة.. محمد رمضان يُطفئ شموع عيد ميلاده مع أولاده (فيديو)    استشهاد 75 بغزة منذ فجر الجمعة جراء القصف الإسرائيلي    هزة أرضية بقوة 3 ريختر تضرب جزيرة كريت في اليونان    اليونيسف: إنشاء كيانات جديدة لإغاثة غزة إهدار للموارد والوقت    «مش شبه الأهلي».. رئيس وادي دجلة يكشف رأيه في إمام عاشور    بعد تدخل المحافظ، "ترانس جاس" تكشف حقيقة تسرب الغاز بكفر الشيخ    تعاون شبابي عربي لتعزيز الديمقراطية برعاية "المصري الديمقراطي"    نجاح مركز طب وجراحة العيون بكفر الشيخ في إجراء جراحة دقيقة لزراعة طبقية قرنية    رابط نتيجة الصف الأول الثانوي الأزهري الترم الثاني 2025.. رابط مباشر وخطوات الاستعلام    رابط نتيجة الصف الأول الابتدائي بالقاهرة 2025 وخطوات الاستعلام عبر بوابة التعليم الأساسي    حملات أمنية لردع الخارجين عن القانون في العبور| صور    حرب شائعات.. المستشار الإعلامي لمجلس الوزراء ينفي معلومات مغلوطة بشأن تصدير المانجو    اليوم.. نظر دعوى الفنانة انتصار لزيادة نفقة أبنائها    اليوم| أولى جلسات محاكمة «القنصل» أكبر مزور شهادات جامعية و16 آخرين    ضبط 2.5 طن أعلاف مخلوطة بالقمح المحلي في التل الكبير بالإسماعيلية    نشرة التوك شو| الاتحاد الأوروبي يدعم مصر ماليا بسبب اللاجئين.. والضرائب تفتح "صفحة جديدة" مع الممولين    خبيرة أسرية: البيت بلا حب يشبه "بيت مظلم" بلا روح    الفيلم الفلسطينى كان ياما كان فى غزة يفوز بجائزة أفضل ممثل بمهرجان كان    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    أسماء المقبولين بمسابقة 30 ألف معلم.. تعليم الشرقية تعلن النتائج    حلمي طولان: تراجعنا عن تعيين البدري مدربًا للمنتخب لهذا السبب    اليوم.. منتدى القاهرة ل«التغير المناخى» يحتفل بمرور 100 عام على فعالياته بين مصر وألمانيا    النسخة الأفضل مِنكَ    واشنطن ترفع العقوبات عن موانئ اللاذقية وطرطوس والبنوك السورية    الضرائب: أي موظف يستطيع معرفة مفردات المرتب بالرقم القومي عبر المنظومة الإلكترونية    استشارية أسرية: الحب مجرد تفاعل هرموني لا يصمد أمام ضغوط الحياة    نابولي يهزم كالياري بهدفين ويحصد لقب الدوري الإيطالي    تعرف على نتائج المصريين فى اليوم الثانى لبطولة بالم هيلز المفتوحة للإسكواش    ننشر أسماء المقبولين في وظيفة «معلم مساعد» بالمنوفية| صور    أسماء المقبولين في مسابقة 30 ألف معلم الدفعة الثالثة بالشرقية (مستند)    سعر الذهب اليوم السبت 24 مايو محليا وعالميا بعد الارتفاع.. بكام عيار 21 الآن؟    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 24 مايو 2025    صور عودة 71 مصريا من ليبيا تنفيذا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي    الأرصاد الجوية: طقس الغد شديد الحرارة نهارا والعظمى بالقاهرة 37 درجة    مصر تعيد 71 مواطنا مصريًا من ليبيا    وفاة 3 شباب إثر حادث سير أليم بكفر الشيخ    ترامب والشرق الأوسط.. خطط مخفية أم وعود حقيقية؟!    وول ستريت تهبط بعد تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبى    وزير الزراعة: صادرات مصر الزراعية إلى السعودية تتجاوز 12% من إجمالي صادراتها للعالم    بالأسماء.. «تعليم الإسكندرية» تعلن قائمة المقبولين بمسابقة ال30 ألف معلم    إسقاط كومو لا يكفي.. إنتر ميلان يخسر لقب الدوري الإيطالي بفارق نقطة    عمرو أديب: الناس بتقول فيه حاجة مهمة هتحصل في البلد اليومين الجايين (فيديو)    بعد وفاة زوجها.. كارول سماحة لابنتها: هكون ليكي الأمان والسند والحضن لآخر لحظة من عمري    "الثقافة" تصدر "قراءات في النقد الأدبي" للدكتور جابر عصفور    "الظروف القهرية يعلم بها القاصي والداني".. بيراميدز يوضح تفاصيل شكواه للمحكمة الرياضية بشأن انسحاب الأهلي أمام الزمالك    يوريشتش يستقر على تشكيل بيراميدز أمام صن داونز.. يجهز القوة الضاربة    صلاح سليمان: مباراة بتروجت مهمة للزمالك لاستعادة الانتصارات قبل نهائى الكأس    نصائح لتجنب الارتجاع المريئي، و7 أطعمة تساعد على تخفيف أعراضه    ارتفاع حالات الحصبة في الولايات المتحدة وسط مخاوف من انتشار واسع    أخبار × 24 ساعة.. حصاد 3.1 مليون فدان قمح وتوريد أكثر من 3.2 مليون طن    وفقا للحسابات الفلكية.. موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى 2025    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    انطلاق امتحانات العام الجامعي 2024–2025 بجامعة قناة السويس    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    بحضور انتصار السيسي، "القومي لذوي الهمم" ينظم احتفالية "معًا نقدر"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغيطاني نموذجاً
تحديث التراث في الرواية العربية
نشر في أخبار الأدب يوم 31 - 10 - 2015

إن الحداثة العربية في نظرنا تجذر وتجاوز في الآن نفسه، وليست تقليدا سلبيا لحداثة الآخر، إنها سعي إلي تأسيس وسائل جديدة للتعبير والتبليغ، وابتكار شعرية جديدة تتميز بالخصوصية وإثبات الذات والهوية ومثلما هي غير مقطوعة عن التراث فهي غير مقطوعة عن حداثة العصر، وإذا تجاهلت ما يجد من ابتكارات في العصر الحديث، وانغلقت علي نفسها، رافضة أهم القيم الجمالية التي يبتكرها الغير فإنها تحكم علي نفسها بالتقوقع والجمود لأن الفنون تتناسل من الفنون، وهذه لا تعرف لها حدودا غير حدود الإبداع، وبذلك تكون الإضافة واعية وذات إشعاع علي الغير نفسه الذي لا يلتفت إلي بضاعته مردودة إليه بقدر ما يتطلع إلي ما يضاف إليها ويميزها عنها شأن أدب أمريكا اللاتينية الذي ما حظي باعتراف الثقافة العالمية إلا لأنه استوعب حداثة العصر وأضاف إليها خصوصياته الكثير.
اخترنا إذن أن نبحث في بلاغة الرواية الحديثة لتميل ذاتي إلي نقدها وتدريسها وكتابتها ولأن الزمن زمن الرواية. وليس معني ذلك أن الشعر أفل نجمه، فنجم الشعر لا يأفل أبدا، فهو دوما مشع وقد يشع علي الرواية نفسها، وهذا وجه من وجوه حداثتها إذ تمردت منذ مطلع هذا القرن علي التصنيف ودكت الحدود بين الأجناس الأدبية المعهودة، وأرادت أن تكون نصا جمعا (Architexte) يستوعب في صلبه نصوصا أخري وفنونا أخري.
ومن هذا المنطلق تفتح الأدب العربي علي هذا الجنس الوافد عليه من الغرب وبذلك لم يبق حبيس الأنماط الأدبية المعروفة في الأدب القديم إلا أنه تعامل معه من زاوية مرجعيته الثقافية المزدوجة أي الجامعة بين التراث وثقافة العصر، وذلك منذ أول محاولة جادة في هذا المجال وهي حديث عيسي بن هشام" لمحمد المويلحي الصادرة سنة 1900. لكن هذه المحاولة بقيت يوما بلا غد إذ سرعان ما ركن الروائيون طيلة النصف الأول من هذا القرن إلي التقليد وأحدثوا قطيعة تامة مع الجذور وتبنوا الأشكال التقليدية لرواية القرن التاسع عشر - مع بعض الاستثناءات بالطبع - كمؤلفات المسعدي - ولم يسعوا إلي التجاوز والتحديث الا في الستينيات.
ففي هذه الفترة تدعمت التحولات الكبري التي جدت في الواقع العربي إثر حصول العديد مما الأقطار العربية علي استقلالها ودخول أخري في تجربة إشتراكية خاصة لم تستند إلي صراع اجتماعي حقيقي مما أفضي بها إلي فشل ذريع ولدت توترات عميقة عقدت العلاقات الإجتماعية.
ونتيجة لهذه الأوضاع الجديدة تعددت الرؤي ووجهات النظر وبرزت إلي الوجود فكرة الصراع وظهر التمزق بين عديد الاختيارات والأنساق وتقلصت نسبياً سلطة الأسرة وتوسعت سلطة الدولة وحاول المثقف من جهته أن تكون له سلطة فكرية.
إلا أن صدمة 67 كان لها دور كبير في مراجعة العديد من القيم والتشكيك في العديد مم اكان يعتبر يقينا، وقد كتب الكثير عما أحدثت هذه الصدمة من تذبذب وإحباط سرعان ما أفضي إلي التفكير في العوامل العميقة للهزيمة وفي اثبات الهوية وفي سبل بناء الإنسان العربي الجديد.
وهذا كله بالطبع سيكون له دور أساسي في مراجعة الكتابة الأدبية فضلا عن ورود مرجعية ثقافية جديدة تعددت مصادرها وروافدها، فقد دخل الثقافة العربية إنتاج الحداثة الغربية بمختلف توجهاتها من جويس إلي كافكا وفوكنر ودستيوفسكي وبروست إلي رواد الرواية الجديدة بفرنسا مثل الان روب قريي وناتالي ساروت وميشال بوتور وغيرهم..
نتج عن هذا في مستوي النص الروائي العربي مبدأ التعدد الموافق لتعدد رؤي العالم وتعدد الأنساق الإجتماعية.
- تعدد الأصوات الذي حلله باختين في روايات دستيفسكي والمتمثل في تعويض الراوي العالم بكل شيء بفسح المجال للشخصيات حتي تعبر بنفسها عن مواقفها ورؤاها.
- تعدد السجلات اللغوية الذي يتجاوز ثنائية فصحي / دراجة إلي مستويات من القول تنهل من مجالات مختلفة.
- تعدد أنواع الخطاب الناتج عن التفاعل النصي وتداخل نصوص تاريخية وصوفية وفنية وسياسية وغيرها، وهذا بدوره مرتبط بتمازج الأجناس الأدبية إذ سقط الكثير من الحواجز بينها، بل أكثر من ذلك تسربت إلي الفن الروائي فنون أخري غير أدبية كالرسم والموسيقي والمعمار.
- تعدد الدلالات إذ لم يعد الكاتب مطالبا بتقديم أجوبة جاهزة لقضايا العصر بل انحصر دوره في إثارة السؤال فلم يعد مكان للإيديولوجيا والالتزام المباشر الذي يلقن حلولا جاهزة بل صارت غاية الرواية طرح القضايا وعرض جملة من الرؤي عرضا فنيا وعلي القاريء أن يستنبط الحلول المناسبة.
- تعدد علامات الإلغاز والترميز والتلميح مكان البوح والتصريح مع وجود شفرات لفك الرموز وإنتاج المعني، وربما وقع اللجوء إلي توظيف الأسطورة أو عمد الراوي إلي أسطرة أحداث وشخصيات عادية، وهذا كله من شأنه أن يكسب اللغة والأسلوب مسحة شعرية لم تكن موجودة في النصوص النثرية.
- تعدد زوايا النظر إلي الواقع إما بالانزياح أو بالمعارضة أو بالسخرية أو التعالي وتعويض مبدأ الإنعكاس بجدلية بين النص والواقع لإعادة بنائه وتشكيله حسب منظور مختلف عبر الواقع النصي.
- تعدد الأمكنة الميسر لمسرحة الأحداث مكان سردها ووصفها وهو ما يحدث تفاعلا دالا بين الشخصيات والفضاءات التي تتحرك فيها ويمكن من اقتباس بعض التقنيات السينمائية.
- وأخيرا تعدد الأزمنة بواسطة فنيات الاستباق (Prolepse) والأرتداد (analepse) والمزح في تيار الوعي مثلا بين الماضي والحاضر، أو بين الحلم والواقع وكسر خطية الزمن واسترساله المنطقي وتعويض الزمن المادي بزمن نفسي باطني لا يمكن قياسه. ومن الروائيين من يعمد إلي توقيفه وتجميده وتعطيل حركته وعمله في الأحداث والنفوس والنظر إليه من زاوية وعي الانا السارد الذي قد يكون في كثير من الأحيان مركز التبئير (la focalisation) وقد يلجأ إلي مناجاة النفس والتداعي بطريقة تتجلي فيها أزمنة مختلفة. وبهذه التداعيات وتلك التجليات يضفر نسيج للنص متميز. ويمكن أن نضيف تقنية الرواية داخل الرواية، وهي الرواية الواصفة لذاتها، وكذلك تقنيات الكولاج والربرتاج وغيرها.
وقد تعددت التجارب في مختلف الأقطار العربية وابتعد الروائيون عن الأنماط الجاهزة وصار كل روائي تقريبا يتفرد بخطاب متميز ليس دوما ممتازا.
وإذا كان لابد من ذكر بعض أعلام التجريب والتحديث فإننا نقتصر علي أبرزها وإن كان العديد منهم لم يتجاوز نصوصا معدودة ففي مصر انتمي إلي هذا التيار زيادة علي جمال الغيطاني ونجيب محفوظ في بعض رواياته، صنع الله إبراهيم وادوار الخراط وإبراهيم أصلان ويوسف القعيد وعبدالحكيم قاسم ويحيي الطاهر عبدالله وصبري موسي ونذكر الياس الخوري من لبنان، واميل حبيبي من فلسطين ومحمود المسعدي الذي سبق الجميع منذ نهاية الثلاثينيات وعزالدين المدني وفرج الحوار وصلاح الدين بوجاه من تونس وواسيني الأعرج من الجزائر، وجبرا ابراهيم جبرا وفؤاد التكرلي وعبدالرحمن مجيد الربيعي من العراق وغيرهم.
وفي مستوي التقبل فإن هذه البلاغة الجديدة اقتضت قارئا جديدا لا يبحث عن الإنعكاس ولا تهمه الحبكة ولا الأحداث ولا التشويق ويسخر من الوعظ بل يساهم بقراءته في انتاج المعني والدلالات.
ومن هنا وجب البحث عن مناهج حديثة لتلقي النصوص وفهمها. فأقيمت علاقة جدلية بين النص والمرجع والملتقي ونتج تراكم هائل من الروايات التي تقطع تماما مع التقليد وتبشر بواقع روائي جديد.
وإن الملتقي الجديد صار يبحث عن لذة النص حسب تعبير رولان بارط ويسعي إلي مواكبة إيقاعه وإلي تفكيكه وإعادة تركيب أنساقه وأبنيته للوصول إلي دلالته والمساهمة في بلورة رؤيته، وبذلك يصبح طرفا فاعلا في النص لا مجرد باحث عن تسلية عابرة. وهذا بالطبع ليس في متناول القاريء الذي لم يتسلح بزاد معرفي يخول له استعمال الشفرة الملائمة لفك الرموز وفهم الرسالة. فكل كتابة جديدة تستند إلي واقع جديد وتوجه إلي قاريء جديد يتلقاها بأدوات جديدة.
هذه الوجوه المتعددة التي تؤسس لبلاغة الرواية الحديثة والتي ركبناها بصفة تأليفية اعتمادا علي عديد النماذج الروائية تبقي مجردة وعامة إذا لم نبين حضورها الفعلي في بعض النصوص. وقد اخترنا روايتين لجمال الغيطاني تظهر فيهما بوضوح بعض هذه الخصائص وهما "الزيني بركات" و"كتاب التجليات".
ويمكن أن نركز في الأولي علي ثلاثة وجوه هي.
1) محاورة التراث الظاهر في تمازج الأجناس الأدبية وتداخل النصوص
2) تعدد الأصوات وتعدد الرأي مع الإشارة إلي إزدواجية التعبير.
3) الوعي بالزمن ودلالته، ونركز في الثانية علي أهمية التقنيات السينمائية مع الإشارة إلي توظيف لغة التصوف والعجائبي.
رواية "الزيني بركات" تقوم علي استعارة كبري من التاريخ المملوكي سنبين غايتها، وهي غير مقسمة إلي فصول بل إلي سبعة سرادقات مسبوقة بمقتطف من مذكرات رحالة بندقي ومتبوعة بمقتطف آخر له. وتنبني علي جملة من الخطابات المتنوعة يؤدي كل منها وظيفة. وهي فضلا عن أسلوب المقتطف التاريخي وأحيانا الاستنساخ من كتاب المؤرخ ابن اياس "بدائع الزهور" تتكون من نداءات صادرة عن السلطان المملوكي أو أحد أعوانه وموجهة إلي العامة ومراسيم تتضمن قرارات التعيين والعزل والخطبة والفتوي والرسالة والتقرير إلي جانب السرد والحوار وهو قليل جداً، ومعني ذلك أن هناك تداخلا بين الخطاب المسرود والخطاب المنقول والخطاب المعروض. فالمسرود هو خطاب الراوي وفيه سرد بواسطته تتقدم الأحداث وتتأزم. فهو إذن قص أفعال بينما المنقول يقوم علي حكي أقوال، أما العرض أو مسرحة الأحداث فهو محدود جدا نظرا لقلة التواصل بين الشخصيات. فالتواصل يتم عن طريق النصوص وليس عن طريق الحوار المباشر، ويجسم في رسالة ورد علي رسالة أو خطبة جمعة أو نداء يعلم أو فتوي تضبط موقفا لبعض الفقهاء أو تبادل تقارير ثم مرسوم سلطاني يحسم الأمر وينهي النقاش أو ما يمكن تسميته بحوار الصم. فلا أحد يكلم الآخر بل منهم من يأمر أو يعلم أو يحذر أو يدون وكلها خطابات لا تنتظر رداً، الرد يأتي عن طريق الفعل أو القرار أو الصمت بالنسبة إلي العامة خصوصا.
إذن فكل أنواع الخطاب تقوم بنفس الوظيفة أي دفع الحركة الدرامية والقليل منها يعطلها، وأغلبها يؤزمها أو يدفعها إلي الإنفراج الذي لا يكون دائما فرجا بعد شدة كما يقول القاضي التنوخي.
هذه الأنماط المختلفة ليست إبداعا صرفا بل هي تتعالق مع نصوص تراثية. ويمكن أن نميز لكيفية حضورها بين ثلاثة مستويات هي: التضمين والمعارضة والتحويل. فالتضمين يمثل المستوي المباشر أي ادماج نصوص أخري داخل النص الروائي حرفيا عن طريق الاستشهاد أو الاستنتاج أو الاقتباس، وهي عادة تقطع من سياقها وتوظف توظيفا آخر، وفي "الزيني بركات" نجدها في شكل نصوص حافة أو ما يسميه جرار جنات بالعتبات (seuils) خارج سياق النص، في التصدير مثلاً لكل أول آخر ولكل بداية نهاية قول مأثور يبدو أنه يلخص مسار الرواية لكننا عندما نقرأها نلاحظ العكس تماما. فالقمع يبدأ ولا ينتهي، والهزائم تفضي إلي الهزائم، والزيني بركات يتعاون مع العدو الخارجي ويحتفظ بمناصبه بعد انتصار العثمانيين علي المماليك ولا شيء ينتهي في الرواية. كذلك تصدير المرسوم القاضي بتعيينه محتسبا: آيتان تحثان علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلي التعاون علي البر والتقوي. سير الأحداث يثبت أن جل الأوامر كانت بالمنكر وأن جل النهي كان عن المعروف، وأن أغلب تعاون المخبرين وغيرهم كان علي الإثم والعدوان. ومن هنا تأتي السخرية ليس من النصوص المضمنة نفسها بل من مستعمليها وممن يتقنع بها لفرض سلطته المطلقة.
أما المستوي الثاني وهو المعارضة فالكاتب ينطلق فيه من أجناس نصية معروفة ويحاكيها فيستعمل لغتها وتراكيبها ولهجتها وفي "الزيني بركات" نجد عديد النصوص التي تذكر بأسلوب الخطبة والرسالة والفتوي والمرسوم.
المستوي الثالث أدق في استعمال النصوص الغائبة، فالتحويل لا يحتفظ بشيء من النص الغائب - أو يكاد - سوي معناه أو مضمونه وفي هذه الرواية يتعلق الأمر بتحويل خطاب تاريخي إلي خطاب روائي. وليس معني ذلك أننا إزاء رواية تاريخية مثل روايات جرجي زيدان. الأمر أعقد من ذلك. فهو تحويل خطاب إلي آخر. قد تستعمل الرواية المادة التاريخية نفسها لكن في تسلسل مختلف ورؤية مختلفة لا تكتفي بسرد الأحداث بطريقة محايدة بل تعيد تشكيلها وعرضها لفهم أسبابها وعواقبها. فيسقط الكاتب بعض الاحداث ويضيف أخري. فالخطاب التاريخي يخضع لتسلسل الأحداث التي وقعت بالفعل بقطع النظر عن أهميتها بينما الخطاب الروائي يخضع إلي منطق داخلي وينتقي ما له صلة بموضوع الرواية. الأول يسجل ويسرد والثاني ينقل ويحلل ويمسرح. الأول يهيمن فيه المؤرخ ولا تظهر فيه غير رؤيته بينما الثاني تتعدد فيه الأصوات والرؤي ويفرز التوتر لدي الملتقي وشيئا من التعتيم الناتج عن التعقيد وهو تعقيد غير مقصود بل حتمته الرؤية الفنية ووعي خاص بالزمن سنري دلالته. وهذا يذكر بصورة الطرس (palimpseste) التي استعارها جرار جنات لهذه الظاهرة. فالطرس هو الرق الذي محيت كتابته الأولي وخطت عليه كتابة ثانية مع بقاء شيء من الأولي.
2- تعدد الأصوات وتعدد الرؤي:
فالخطاب التاريخي إذن يتميز بأحدية الرؤية أي أحدية الصوت، هي رؤية المؤرخ وصوته، أما الخطاب الروائي فإنه يحول المادة التاريخية كما قلت ويعرضها من زوايا نظر مختلفة وبأصوات متعددة فتظهر بذلك مواقف متصارعة تعكس الأوضاع علي حقيقتها لا كما يراها الراوي العالم بكل شيء. وهذا الصراع قد تناول قضية من أهم القضايا التاريخية والفكرية وهي السلطة. لذلك يمكن أن نصنف الأصوات حسب موقفها من هذه السلطة. وهي تتراوح بين المساندة والمعارضة والحياد والصمت.
فهناك صوت القلعة، صاحبة النفوذ وهو يبلغ عن طريق عدة ألسنة وعدة أصناف من الخطاب. فبعضها يصنع القرار في الخفاء، وبعضها الآخر يتخذ القرار وثالث يحوله إلي فعل ورابع هو مجرد صدي يردد القرار ويبلغه.
وهناك صوت المعارضة وهو صوت المثقف الحر الذي يميز بوعي الأوضاع وتحليل أسبابها وعواقبها وينظر إليها نظرة نقدية. فهو صوت رافض لكنه مرفوض أيضا، صوت من لا صوت له. لكنه يخنق في المهد، فحالما يتجاوز الصدر إلي اللسان فإنه يطمس ويواجه بالقمع والاعتقال ولا يتحول أبدا إلي فعل.
ثم هناك صوت العامة أو بالاحري صمتها، فهو لا يصنع القرار ولا يتخذه ولا يبدي رأيه فيه بل يطبقه في جميع الحالات ولو كان غير مقتنع به. وإذا نجم منها من يشكك في صوت السلطة أسكت بكل قسوة.
ثم هناك صوت "محايد" هو صوت الرحالة البندقي الذي يراقب تطور الأحداث ويصفها من زاوية نظره فتظهر علي حقيقتها أي علي بشاعتها. ولكن هذه العين الأجنبية ليست دوما متجردة فقد صرنا اليوم نعرف مدي تجرد وسائل الإعلام الأجنبية.
فهناك إذن صراع بين قوتين يمكن أن نعتبر الزيني بركات ممثلا للأولي وعمر الجهيني ممثلا للثانية، وهما اللذان يستقطبان الأحداث لذلك يمكن اعتبارهما مركزي التبئير في الرواية.
فالأول تحمل الرواية اسمه والعنوان بمثابة المبتدأ وكامل الرواية خبر. العنوان لغز والرواية حل لذلك اللغز، فهي تستهل باختفاء الزيني وتختم به وفي كامل النص يكشف النقاب عن وجهه: فنري في البداية وجها مشرقا يتظاهر بحب العامة والعمل لفائدة الصالح العام فيراقب الأسعار ويعاقب الغش. ثم ينكشف شيئا فشيئا وجه بشع يشتري المنصب بثلاثة آلاف دينار. ويكدس الثروة ويتعامل سراً مع دعاة العثمانيين فيجازونه بعد انتصارهم علي المماليك بإقراره في مناصبه المختلفة.
أما الثاني فهو طالب أزهري يساند تعيين الزيني بركات في البداية لما شاع عنه من تواضع وتقوي لكنه عندما يكتشف وجهه الحقيقي وتواطؤه مع الجهاز الأمني الذي يمثله زكرياء بن راضي ويمارس التعذيب لقمع خصوم السلطة يسحب ثقته فيه ويتحول إلي معارضته: لكن هذا الصوت سرعان ما أسكت رغم أنه صوت المثقف الواعي الذي لا يسعي إلي نفع شخصي عاجل بل يريد ما فيه خير وطنه وقد رآه علي حافة هاوية يقضي في السجن سنتين ثم يخرج منه إنسانا آخر مجردا من هويته، مسلوب الإرادة، يشك في جميع الناس ويتصورهم جميعا مخبرين، يقيد الخوف حركاته، فلا يقترب من حلقات النقاش في الأزهر، ويتحول إلي رقيب علي نفسه، ويمتنع حتي من التفكير. يصيح: ألا يوجد عقار يمنع الإنسان من التفكير في أمور بعينها؟ يطلق سراحه لكن بعد أن يتوصل جهاز القمع إلي مسخه وغسل دماغه ونسف القيم التي عاش عليها فيحكم عليه بالضياع والغربة والتهميش. بل حاول الجهاز ضمه إلي صف المخبرين لكنه امتنع. لذلك صاح صيحته المليئة بالتفجع بعد هزيمة مصر "آه أعطيوني، وحطموا حصوني" وقد أفرد لها الراوي كامل السرادق السابع والأخير.
وبذلك ظهر صوت أخرس جمع الأصوات السابقة هو صوت السلطة الجديدة، سلطة آل عثمان وقد اتضح أن نظام تجسسها يفوق نظام زكريا والمماليك الذي لم تظهر جدواه إلا مع أهل البلد أما إذا تعلق الأمر بأعداء البلاد فإنه ينكشف عجزه وزيفه.
3) وعي الزمن: الترهين
الأمر الثالث الذي يميز الخطاب الروائي الجديد عن الخطاب التاريخي هو وعي الزمن في نطاق ما يمكن تسميته بالتحيين أو الترهين أي استعارة التاريخ للتعبير عن الواقع الراهن المفضي إلي جدلية النص والواقع، وننطلق من التمييز بين أربعة أزمنة لنركز علي أحدها فقط.
فهناك زمن القصة أو الخبر وهو يروي الأحداث في تسلسلها التاريخي ونجده في "بدائع الزهور" لابن اياس وزمن الخطاب ويتمثل في كيفية التصرف في ذلك التسلسل، وزمن الكتابة وقد ضبط بين سنتي 1970 و1971 وهو يفيدنا لمعرفة وجهة الترهين، وأخيرا زمن القراءة وهو غير محدود، ينطلق من تاريخ نشر الرواية سنة 1974 ويتواصل إلي ما لا نهاية له. وقد يكتسب النص دلالات أخري بتقدم العصور.
ما يهمنا إذن هو زمن الخطاب وقد بدأ بنوع من الاستباق ولد لغزا نجد حله في بقية الرواية. هذا الاستباق مؤرخ سنة 922ه، وكان يخيم علي القاهرة جو من التوتر والانتظار، انتظار خبر هام. ثم ينطلق الراوي من سنة 912ه التي تمثل بداية صعود الزيني بركات ويصل بالأحداث إلي سنة 922ه، وبذلك تنغلق الدائرة وتعود إلي نقطة البداية، وهذا الزمن الدائري يمثل اكتمال التجربة لكنها سرعان ما تنفتح من جديد إذ يتواصل سرد الأحداث سنة 923ه، ويكتسب بذلك دلالة جديدة فهو انفتاح علي المستقبل علي الراهن. فأهم ما يميز العصر المملوكي في الرواية والتاريخ أمور ثلاثة: القمع والخوف والانتهازية وكلها أفضت إلي هزيمة مصر أمام العثمانيين، وهذه أمور مشتركة مع فترة الستينيات في مصر أدت إلي نتيجة واحدة هي هزيمتها سنة 67، وهي هزيمة كبري زعزعت الكيان العربي وفتحت العيون علي عديد القضايا، وربما تسببت في أزمة عميقة دفعت المفكرين العرب إلي تحليل أسبابها، وتبين أن نفس الأسباب حتمت هزيمة 922ه وهزيمة 67، وبذلك ظهر نوع من التناظر بين العصرين يتجاوز التماثل إلي الانفتاح.
يقول الغيطاني: وفي هذه المرحلة قرأت تاريخ مصر كله، وتوقفت طويلا عند العصر المملوكي، فقد وجدت أنه قريب الشبه جدا بالفترة التي كنا نعيشها وقتها في أواخر الستينيات. توقفت عند العصر المملوكي وبدأت أعالج مشكلة القهر والتعذيب في رواية "الزيني بركات" علي أساس أنها مشكلة مطلقة. فيقول أيضا وفي "الزيني بركات" التقي القهر المملوكي بقهر الستينيات (فصول 182 ص 213).
وبذلك فان انفتاح الزمن الدائري هو انفتاح علي العصر الراهن مع شيء من التصاعد. فيتحول إلي زمن دائري منفتح تصاعدي أي زمن حلزوني يعيد فيه التاريخ نفس الهزائم الناتجة عن أسباب متماثلة، يقول سعيد يقطين الذي استفدنا كثيرا من كتابيه تحليل الخطاب الروائي وانفتاح الخطاب الروائي ، وليست الهزيمة الآن إسقاطا أو مشابهة لهزيمة الأمس لأن نتائجها أكثر فظاعة (انفتاح الخطاب الروائي ، ص 67) ان انفتاح الدائرة يظهر لنا أن الزمن يتطور إلي الأمام، في تطوره يزداد حدة عما كان عليه فالزيني بركات اعتي من أبي الجود كما يصرح بذلك زكريا والزيني بركات اعتي منه في دولة المماليك، وهكذا (انفتاح ص 67) ويمكن أن نضيف أن هزيمة 1948 اثقل من هزيمة 922 ه وهزيمة 967 ه أثقل من هزيمة 1948 وهزيمة 1973 اثقل من هزيمة 1967 بما أنها أدت إلي التطبيع مع العدو إلي غير ذلك.
وبذلك نتبين العلاقة الجدلية بين النص والمجتمع فمرجعيات النص - أي نص - لا تقتصر علي اللغة والشعر بل تتجاوزهما إلي الواقع لكن دون أن يكون النص انعكاسا له. رأينا أن الواقع الراهن حاضر في ذهن الراوي لكن بصفته بنية عامة فقط أو أحد طرفي الاستعارة الكبري فلا يمكن الانطلاق من هذا الواقع لفهم النص بل لابد من فهم الواقع انطلاقا من النص. لذلك جعل بيار زوما (Pierre Zuma) دراسة له بعنوان "من البنية النصية إلي البنية الاجتماعية". ويقول سعيد يقطين "وهكذا ان انفتاح زمن النص الداخلي علي القراءات المنفتحة "الممكنة" خير مؤشر علي كون بناء النص المحلل يأتي بصورة جديدة تحمل كتابة جديدة ووعيا ودلالة جديدة للزمن عكس ما نري في المتن الروائي التقليدي" (انفتاح ص 87).
العجائبي والتقنيات السينمائية
ومن عجب بلاغة الرواية الحديثة جمعها بين استخدام التقنيات السينمائية الحديثة وتوظيف لغة التصوف وما توحي به من صور هي إلي العجائبي أقرب منها إلي كرامات الأقطاب. أقرأ هذه الفقرة من "كتاب التجليات" لجمال الغيطاني ومن فصل بعنوان "تجل عابر".. هذا تجل عابر بمثابة نقطة بين مرحلتين ولحظة تلتقط فيها الأنفاس بين عذابين، بدأت أطفو إلي أعلي عليين، ولم يساورني الخوف أن أرد إلي أسفل سافلين ثبت أمري عند نقطة مرتفعة حدقت بالبصر الحديد، رأيت عالمنا الأرضي كله، مستديرا جميلا مبهرا، رأيت داخل شكله الآكري الأشكال كافة من طول وعرض واستقامة وعوج وتربيع وتثليث، رأيت القارات كلها في تفصيلها وفي جملتها رأيت البحار وما تحوي، والجبال وما تحمل، والشهب ومقاصدها، والغمام. رأيت المدن وحركتها، والقري، والمدقات والشوارع والمنحنيات كلها، ثم طاوعني بصري فأصبحت أري ما أشاء، ما أتمناه، أرغبه، دون أن يغيب عني الكل كأني أري الدنيا كلها وفي نفس اللحظة (......) حام بصري وحط كفرخ حمام متعب علي المواضع التي عرفتها طفلا وصبيا وشابا ثم رجلا مكتملا، وهنا أفيض علي بقدرة خصتني دون غيري ممن سبقوني في التجلي وهي قدرتي علي رؤية المكان في زمانين أو عدة أزمنة كل ذلك في نظرة واحدة. وأول من رأيت أبي ها هو يسعي في صباح باكر والندي يقطرها هو يعيش في ظهيرة مزدحمة (....) كتاب التجليات 1 (213 - 220).
أمر بسرعة علي الشحنة القرآنية التي يحيل إليها التناص في هذه الفقرة. فمنذ البداية تقفز إلي الذاكرة آيات عديدة. فهو عندما يقول "بدأت أطفو إلي عليين" فانه يشير إلي الآية 18 من سورة المطففين "كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين" وعندما يقول:
"لم يساورني الخوف أن أرد إلي أسفل سافلين"، فإنه يشير إلي الآية الخامسة من سورة التين : "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين" وعندما يقول:
"حدقت بالبصر الحديد" فإنه يشير إلي الآية الثانية والعشرين من سورة ق : "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" وعندما ينتهي هذا المعراج يقول في آخر التجلي فخررت من حالق صعقا يشير إلي الآية 143 من سورة الأعراف "فلما تجلي ربه للجبل جعله دكا وخر موسي صعقا".
- لا أتوقف كذلك عند استعمال ضمير المتكلم المفرد ودلالته علي جانب من سيرة الأنا السارد الذاتية.
- لا أتوقف عند بعض مصطلحات الصوفية كالتجلي والرؤية وغيرهما.
- وأركز علي التقنيات السينمائية المستعملة في هذا الفصل وغيره من الفصول التي تصور معراج السارد إلي عالم التجلي.
فأول عمل يقوم به الإخراج السينمائي قبل البدء في تصوير المشهد هو اختيار موقع الكاميرا حتي يتسني التصوير من زوايا مختلفة. وقد أثبت السارد رؤيته هنا في نقطة مرتفعة حتي يتمكن من الإشراف علي كامل المشهد في عمومه وتفاصيله "ثبت أمري عند نقطة مرتفعة" ثم تشعل الأضواء الكاشفة يقول "حدقت بالبصر الحديد" فكل كلمات هذه الجملة أي الفعل والاسم والنعت تدل علي التركيز والتكثيف والاستعداد للكشف. ثم ينتقل إلي تصوير المشهد العام (une plongee) "رأيت عالمنا الأرضي كله مستديرا، جميلا، مبهرا" وهذه صورة فضائية لا تقدر علي التقاطها كاميرا عادية ولو أثبتت في مكان مرتفع، والصور التي تلتقط من الطائرة هي مجرد صور جوية لا يتجاوز ارتفاعها طبقة الجو التي تحيط بالكرة الأرضية، فيجب أن تثبت اذن داخل مركبة فضائية أو قمر اصطناعي ليتسني التقاط صورة كوكب الأرض في كليتها إذن خارج مجال جاذبية الأرض. ولذلك قال في البداية "بدأت أطفو" وهذا الفعل يوحي بحركة رواد الفضاء في تنقلهم من مكان إلي آخر، وهذه التجهيزات الحديثة في إمكانها التقاط المشهد العام والتركيز علي أدق الجزئيات: "رأيت داخل شكله الأكري الأشكال كافة من طول وعرض...." ثم ينحصر المشهد فيري المدينة، ويري اباه فيها، ويدقق أكثر أكثر ويضخمه باستعمال تقنية le gros plan فيري "الشعيرات النامية علي يده وعند مفاصل أصبعه كذلك التصاوير علي الورقة المالية" وفي امكان هذه الآلة أن تتنقل بين مشاهد عديدة "حام بصري وحط كفرخ حمام متعب" وهذه التجهيزات تمكن من تعديل الرؤية لتدقيق مشهد بعينه "ثم طاوعني بصري فأصبحت أري ما أشاء، ما أتمناه، أرغبه، دون أن يغيب عني الكل" وتصوير مشهد كهذا جامع بين صورتين فأكثر يحتاج إخراجه إلي عدة آلات تلتقط الصور ثم يقع تركيبها (montage) والتركيب السينمائي اليوم يمكن من الحصول علي صور عجيبة تتزامن فيها الحركات وتتلاصق المشاهد (une superposition dimages) أو تتوالي بسرعة "طفلا فشابا فرجلا متكاملا" وتوجد اليوم تقنيات حديثة تمكن من كل هذا وهي زيادة علي قاعة السينما الدائرية" (Salle circulaire) السينما ذات الأبعاد الثلاثة (cinema a trois dimension ) وهو طور أحدث من السينما سكوب وقد شاهدنا نماذج منها في معرض أشبيلية الدولي ملتقطة من مركبات فضائية، فشاهدنا عجبا.
وإن هذا التزامن يتأكد في تعليق السارد بعد ذكر مشاهد من حياة أبيه اليومية. فهو يري تفاصيلها ويسمع حواره مع غيره وهذا يحتاج إلي التقاط الصوت (une prise de son) ثم تنسيقه مع الصورة (une synchronisation) ثم يضيف "كنت أري هذا كله في آن واحد معا، ولم يكن يغيب عن بصري في ذات الوقت رحيل السحب وتكون الزلازل، الثلوج، ودوران الأرض حول محورها وبؤر الزلازل، وهبوط الأعاصير، وهذا أمر يطول شرحه ويقصر عنه أدق الوصف". وهذه كلها أمور في امكان تجهيزات المركبات الفضائية التقاطها، ولكن ليس في وسعها ولا في وسع البشر إدراك حركة الزمن ومع ذلك يؤكد السارد قدرته علي رؤية أماكن مختلفة عرفها في مراحل متعاقبة من حياته". وهنا أفيض علي بقدرة خصتني دون غيري ممن سبقوني في التجلي وهي قدرتي علي رؤية المكان في زمانين أو عدة أزمنة كل ذلك في نظرة واحدة" ويمكنه أيضا رؤية مكانين في وقت واحد: "غير أن حيرتي لم تدم إذ رأيت أبي وأمي معا كل في حجرته لكني أراهما في وقت واحد وألم بهما رغم تباعدهما عن بعضهما البعض" ص 65. ليس هناك غير التركيب السينمائي من يقدر علي مثل هذه الرؤية. وهو قادر أيضا علي الاختفاء التدريجي للصور عن طريق التحكم في الأضواء الكاشفة، لكن هذه الصورة التي قدمها السارد تعجز السينما عن عرض كامل عناصرها. فقد تحدث عن رؤية أبيه في زمن الحنين ثم أضاف"صحت به لكني كنت مبتعدا عنه كراحلة تنأي بسرعة بالغة عن منطلقها، راح يتضاءل حجمه حتي صار نقطة ثم معني (1. 121).
وهنا يقدر البيان وتعجز التكنولوجيا. فتحويل الشخص إلي نقطة متيسر لكن تحويله إلي معني مستحيل، عجيب" بل هناك أكثر من ذلك عجبا وهذا أيضا ليس في مستطاع التكنولوجيا الحديثة إدراكه وهو تثبيت لحظة شعور في نفسه ثم اطلاقها، فالكاميرا في امكانها تثبيت الصورة (une image fixe) لكن تثبيت الشعور أمر آخر.
يقول في موقف الحنين: "من عجائب موقف الحنين تبينت أنه بامكاني أن امسك وجدي أو شعوري، فإذا رأيت أو حننت إلي لحظة ما كان ممكنا لي أن أثبتها إلي حين ولو كنت أمر بحزن غامر ثم جاءني من لا أرغب في إظهاره له، أوقف حزني أو أساي أو فرحي فإذا خلوت إلي نفسي أرسلته من جديد واسترسلت فيه عاودت النظر" ( 2051).
فهل ارتقي من مرتبة المريد إلي مرتبة القطب فصار صاحب كرامات؟ الواقع أن الأمر لا يتعلق بكرامات بقدر ما يتصل بالمعجزة, معجزة التكنولوجيا بالنسبة إلي التصوير الفضائي، ومعجزة الإبداع بالنسبة إلي التصوير الأدبي. فالبيان أصل الإعجاز والإبداع خلق وابتكار يدك جميع الحدود الفاصلة بين الواقعي والعجائبي, وبين الماضي والحاضر، وبين الحلم واليقظة، وبين الواقع والخيال. وهذه البلاغة لا نعرف هل كان في امكان الحداثة ادراكها دون الاعتماد علي المخزون الثقافي بشقيه التراثي والحديث والعطاء الوافر في الآن نفسه.
إن حسم الموقف لا يكون إلا بعد النظر في نصوص أخري قطعت صلة الرحم بالتراث واقتصرت علي اقتباس الحداثة الغربية مع محاولة تجاوزها والتميز عنها.
ويمكن أن نركز في الأولي علي ثلاثة وجوه هي.
1) محاورة التراث الظاهر في تمازج الأجناس الأدبية وتداخل النصوص
2) تعدد الأصوات وتعدد الرأي مع الإشارة إلي إزدواجية التعبير.
3) الوعي بالزمن ودلالته، ونركز في الثانية علي أهمية التقنيات السينمائية مع الإشارة إلي توظيف لغة التصوف والعجائبي.
رواية "الزيني بركات" تقوم علي استعارة كبري من التاريخ المملوكي سنبين غايتها، وهي غير مقسمة إلي فصول بل إلي سبعة سرادقات مسبوقة بمقتطف من مذكرات رحالة بندقي ومتبوعة بمقتطف آخر له. وتنبني علي جملة من الخطابات المتنوعة يؤدي كل منها وظيفة. وهي فضلا عن أسلوب المقتطف التاريخي وأحيانا الاستنساخ من كتاب المؤرخ ابن اياس "بدائع الزهور" تتكون من نداءات صادرة عن السلطان المملوكي أو أحد أعوانه وموجهة إلي العامة ومراسيم تتضمن قرارات التعيين والعزل والخطبة والفتوي والرسالة والتقرير إلي جانب السرد والحوار وهو قليل جداً، ومعني ذلك أن هناك تداخلا بين الخطاب المسرود والخطاب المنقول والخطاب المعروض. فالمسرود هو خطاب الراوي وفيه سرد بواسطته تتقدم الأحداث وتتأزم. فهو إذن قص أفعال بينما المنقول يقوم علي حكي أقوال، أما العرض أو مسرحة الأحداث فهو محدود جدا نظرا لقلة التواصل بين الشخصيات. فالتواصل يتم عن طريق النصوص وليس عن طريق الحوار المباشر، ويجسم في رسالة ورد علي رسالة أو خطبة جمعة أو نداء يعلم أو فتوي تضبط موقفا لبعض الفقهاء أو تبادل تقارير ثم مرسوم سلطاني يحسم الأمر وينهي النقاش أو ما يمكن تسميته بحوار الصم. فلا أحد يكلم الآخر بل منهم من يأمر أو يعلم أو يحذر أو يدون وكلها خطابات لا تنتظر رداً، الرد يأتي عن طريق الفعل أو القرار أو الصمت بالنسبة إلي العامة خصوصا.
إذن فكل أنواع الخطاب تقوم بنفس الوظيفة أي دفع الحركة الدرامية والقليل منها يعطلها، وأغلبها يؤزمها أو يدفعها إلي الإنفراج الذي لا يكون دائما فرجا بعد شدة كما يقول القاضي التنوخي.
هذه الأنماط المختلفة ليست إبداعا صرفا بل هي تتعالق مع نصوص تراثية. ويمكن أن نميز لكيفية حضورها بين ثلاثة مستويات هي: التضمين والمعارضة والتحويل. فالتضمين يمثل المستوي المباشر أي ادماج نصوص أخري داخل النص الروائي حرفيا عن طريق الاستشهاد أو الاستنتاج أو الاقتباس، وهي عادة تقطع من سياقها وتوظف توظيفا آخر، وفي "الزيني بركات" نجدها في شكل نصوص حافة أو ما يسميه جرار جنات بالعتبات (seuils) خارج سياق النص، في التصدير مثلاً لكل أول آخر ولكل بداية نهاية قول مأثور يبدو أنه يلخص مسار الرواية لكننا عندما نقرأها نلاحظ العكس تماما. فالقمع يبدأ ولا ينتهي، والهزائم تفضي إلي الهزائم، والزيني بركات يتعاون مع العدو الخارجي ويحتفظ بمناصبه بعد انتصار العثمانيين علي المماليك ولا شيء ينتهي في الرواية. كذلك تصدير المرسوم القاضي بتعيينه محتسبا: آيتان تحثان علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلي التعاون علي البر والتقوي. سير الأحداث يثبت أن جل الأوامر كانت بالمنكر وأن جل النهي كان عن المعروف، وأن أغلب تعاون المخبرين وغيرهم كان علي الإثم والعدوان. ومن هنا تأتي السخرية ليس من النصوص المضمنة نفسها بل من مستعمليها وممن يتقنع بها لفرض سلطته المطلقة.
أما المستوي الثاني وهو المعارضة فالكاتب ينطلق فيه من أجناس نصية معروفة ويحاكيها فيستعمل لغتها وتراكيبها ولهجتها وفي "الزيني بركات" نجد عديد النصوص التي تذكر بأسلوب الخطبة والرسالة والفتوي والمرسوم.
المستوي الثالث أدق في استعمال النصوص الغائبة، فالتحويل لا يحتفظ بشيء من النص الغائب - أو يكاد - سوي معناه أو مضمونه وفي هذه الرواية يتعلق الأمر بتحويل خطاب تاريخي إلي خطاب روائي. وليس معني ذلك أننا إزاء رواية تاريخية مثل روايات جرجي زيدان. الأمر أعقد من ذلك. فهو تحويل خطاب إلي آخر. قد تستعمل الرواية المادة التاريخية نفسها لكن في تسلسل مختلف ورؤية مختلفة لا تكتفي بسرد الأحداث بطريقة محايدة بل تعيد تشكيلها وعرضها لفهم أسبابها وعواقبها. فيسقط الكاتب بعض الاحداث ويضيف أخري. فالخطاب التاريخي يخضع لتسلسل الأحداث التي وقعت بالفعل بقطع النظر عن أهميتها بينما الخطاب الروائي يخضع إلي منطق داخلي وينتقي ما له صلة بموضوع الرواية. الأول يسجل ويسرد والثاني ينقل ويحلل ويمسرح. الأول يهيمن فيه المؤرخ ولا تظهر فيه غير رؤيته بينما الثاني تتعدد فيه الأصوات والرؤي ويفرز التوتر لدي الملتقي وشيئا من التعتيم الناتج عن التعقيد وهو تعقيد غير مقصود بل حتمته الرؤية الفنية ووعي خاص بالزمن سنري دلالته. وهذا يذكر بصورة الطرس (palimpseste) التي استعارها جرار جنات لهذه الظاهرة. فالطرس هو الرق الذي محيت كتابته الأولي وخطت عليه كتابة ثانية مع بقاء شيء من الأولي.
2- تعدد الأصوات وتعدد الرؤي:
فالخطاب التاريخي إذن يتميز بأحدية الرؤية أي أحدية الصوت، هي رؤية المؤرخ وصوته، أما الخطاب الروائي فإنه يحول المادة التاريخية كما قلت ويعرضها من زوايا نظر مختلفة وبأصوات متعددة فتظهر بذلك مواقف متصارعة تعكس الأوضاع علي حقيقتها لا كما يراها الراوي العالم بكل شيء. وهذا الصراع قد تناول قضية من أهم القضايا التاريخية والفكرية وهي السلطة. لذلك يمكن أن نصنف الأصوات حسب موقفها من هذه السلطة. وهي تتراوح بين المساندة والمعارضة والحياد والصمت.
فهناك صوت القلعة، صاحبة النفوذ وهو يبلغ عن طريق عدة ألسنة وعدة أصناف من الخطاب. فبعضها يصنع القرار في الخفاء، وبعضها الآخر يتخذ القرار وثالث يحوله إلي فعل ورابع هو مجرد صدي يردد القرار ويبلغه.
وهناك صوت المعارضة وهو صوت المثقف الحر الذي يميز بوعي الأوضاع وتحليل أسبابها وعواقبها وينظر إليها نظرة نقدية. فهو صوت رافض لكنه مرفوض أيضا، صوت من لا صوت له. لكنه يخنق في المهد، فحالما يتجاوز الصدر إلي اللسان فإنه يطمس ويواجه بالقمع والاعتقال ولا يتحول أبدا إلي فعل.
ثم هناك صوت العامة أو بالاحري صمتها، فهو لا يصنع القرار ولا يتخذه ولا يبدي رأيه فيه بل يطبقه في جميع الحالات ولو كان غير مقتنع به. وإذا نجم منها من يشكك في صوت السلطة أسكت بكل قسوة.
ثم هناك صوت "محايد" هو صوت الرحالة البندقي الذي يراقب تطور الأحداث ويصفها من زاوية نظره فتظهر علي حقيقتها أي علي بشاعتها. ولكن هذه العين الأجنبية ليست دوما متجردة فقد صرنا اليوم نعرف مدي تجرد وسائل الإعلام الأجنبية.
فهناك إذن صراع بين قوتين يمكن أن نعتبر الزيني بركات ممثلا للأولي وعمر الجهيني ممثلا للثانية، وهما اللذان يستقطبان الأحداث لذلك يمكن اعتبارهما مركزي التبئير في الرواية.
فالأول تحمل الرواية اسمه والعنوان بمثابة المبتدأ وكامل الرواية خبر. العنوان لغز والرواية حل لذلك اللغز، فهي تستهل باختفاء الزيني وتختم به وفي كامل النص يكشف النقاب عن وجهه: فنري في البداية وجها مشرقا يتظاهر بحب العامة والعمل لفائدة الصالح العام فيراقب الأسعار ويعاقب الغش. ثم ينكشف شيئا فشيئا وجه بشع يشتري المنصب بثلاثة آلاف دينار. ويكدس الثروة ويتعامل سراً مع دعاة العثمانيين فيجازونه بعد انتصارهم علي المماليك بإقراره في مناصبه المختلفة.
أما الثاني فهو طالب أزهري يساند تعيين الزيني بركات في البداية لما شاع عنه من تواضع وتقوي لكنه عندما يكتشف وجهه الحقيقي وتواطؤه مع الجهاز الأمني الذي يمثله زكرياء بن راضي ويمارس التعذيب لقمع خصوم السلطة يسحب ثقته فيه ويتحول إلي معارضته: لكن هذا الصوت سرعان ما أسكت رغم أنه صوت المثقف الواعي الذي لا يسعي إلي نفع شخصي عاجل بل يريد ما فيه خير وطنه وقد رآه علي حافة هاوية يقضي في السجن سنتين ثم يخرج منه إنسانا آخر مجردا من هويته، مسلوب الإرادة، يشك في جميع الناس ويتصورهم جميعا مخبرين، يقيد الخوف حركاته، فلا يقترب من حلقات النقاش في الأزهر، ويتحول إلي رقيب علي نفسه، ويمتنع حتي من التفكير. يصيح: ألا يوجد عقار يمنع الإنسان من التفكير في أمور بعينها؟ يطلق سراحه لكن بعد أن يتوصل جهاز القمع إلي مسخه وغسل دماغه ونسف القيم التي عاش عليها فيحكم عليه بالضياع والغربة والتهميش. بل حاول الجهاز ضمه إلي صف المخبرين لكنه امتنع. لذلك صاح صيحته المليئة بالتفجع بعد هزيمة مصر "آه أعطيوني، وحطموا حصوني" وقد أفرد لها الراوي كامل السرادق السابع والأخير.
وبذلك ظهر صوت أخرس جمع الأصوات السابقة هو صوت السلطة الجديدة، سلطة آل عثمان وقد اتضح أن نظام تجسسها يفوق نظام زكريا والمماليك الذي لم تظهر جدواه إلا مع أهل البلد أما إذا تعلق الأمر بأعداء البلاد فإنه ينكشف عجزه وزيفه.
3) وعي الزمن: الترهين
الأمر الثالث الذي يميز الخطاب الروائي الجديد عن الخطاب التاريخي هو وعي الزمن في نطاق ما يمكن تسميته بالتحيين أو الترهين أي استعارة التاريخ للتعبير عن الواقع الراهن المفضي إلي جدلية النص والواقع، وننطلق من التمييز بين أربعة أزمنة لنركز علي أحدها فقط.
فهناك زمن القصة أو الخبر وهو يروي الأحداث في تسلسلها التاريخي ونجده في "بدائع الزهور" لابن اياس وزمن الخطاب ويتمثل في كيفية التصرف في ذلك التسلسل، وزمن الكتابة وقد ضبط بين سنتي 1970 و1971 وهو يفيدنا لمعرفة وجهة الترهين، وأخيرا زمن القراءة وهو غير محدود، ينطلق من تاريخ نشر الرواية سنة 1974 ويتواصل إلي ما لا نهاية له. وقد يكتسب النص دلالات أخري بتقدم العصور.
ما يهمنا إذن هو زمن الخطاب وقد بدأ بنوع من الاستباق ولد لغزا نجد حله في بقية الرواية. هذا الاستباق مؤرخ سنة 922ه، وكان يخيم علي القاهرة جو من التوتر والانتظار، انتظار خبر هام. ثم ينطلق الراوي من سنة 912ه التي تمثل بداية صعود الزيني بركات ويصل بالأحداث إلي سنة 922ه، وبذلك تنغلق الدائرة وتعود إلي نقطة البداية، وهذا الزمن الدائري يمثل اكتمال التجربة لكنها سرعان ما تنفتح من جديد إذ يتواصل سرد الأحداث سنة 923ه، ويكتسب بذلك دلالة جديدة فهو انفتاح علي المستقبل علي الراهن. فأهم ما يميز العصر المملوكي في الرواية والتاريخ أمور ثلاثة: القمع والخوف والانتهازية وكلها أفضت إلي هزيمة مصر أمام العثمانيين، وهذه أمور مشتركة مع فترة الستينيات في مصر أدت إلي نتيجة واحدة هي هزيمتها سنة 67، وهي هزيمة كبري زعزعت الكيان العربي وفتحت العيون علي عديد القضايا، وربما تسببت في أزمة عميقة دفعت المفكرين العرب إلي تحليل أسبابها، وتبين أن نفس الأسباب حتمت هزيمة 922ه وهزيمة 67، وبذلك ظهر نوع من التناظر بين العصرين يتجاوز التماثل إلي الانفتاح.
يقول الغيطاني: وفي هذه المرحلة قرأت تاريخ مصر كله، وتوقفت طويلا عند العصر المملوكي، فقد وجدت أنه قريب الشبه جدا بالفترة التي كنا نعيشها وقتها في أواخر الستينيات. توقفت عند العصر المملوكي وبدأت أعالج مشكلة القهر والتعذيب في رواية "الزيني بركات" علي أساس أنها مشكلة مطلقة. فيقول أيضا وفي "الزيني بركات" التقي القهر المملوكي بقهر الستينيات (فصول 182 ص 213).
وبذلك فان انفتاح الزمن الدائري هو انفتاح علي العصر الراهن مع شيء من التصاعد. فيتحول إلي زمن دائري منفتح تصاعدي أي زمن حلزوني يعيد فيه التاريخ نفس الهزائم الناتجة عن أسباب متماثلة، يقول سعيد يقطين الذي استفدنا كثيرا من كتابيه تحليل الخطاب الروائي وانفتاح الخطاب الروائي ، وليست الهزيمة الآن إسقاطا أو مشابهة لهزيمة الأمس لأن نتائجها أكثر فظاعة (انفتاح الخطاب الروائي ، ص 67) ان انفتاح الدائرة يظهر لنا أن الزمن يتطور إلي الأمام، في تطوره يزداد حدة عما كان عليه فالزيني بركات اعتي من أبي الجود كما يصرح بذلك زكريا والزيني بركات اعتي منه في دولة المماليك، وهكذا (انفتاح ص 67) ويمكن أن نضيف أن هزيمة 1948 اثقل من هزيمة 922 ه وهزيمة 967 ه أثقل من هزيمة 1948 وهزيمة 1973 اثقل من هزيمة 1967 بما أنها أدت إلي التطبيع مع العدو إلي غير ذلك.
وبذلك نتبين العلاقة الجدلية بين النص والمجتمع فمرجعيات النص - أي نص - لا تقتصر علي اللغة والشعر بل تتجاوزهما إلي الواقع لكن دون أن يكون النص انعكاسا له. رأينا أن الواقع الراهن حاضر في ذهن الراوي لكن بصفته بنية عامة فقط أو أحد طرفي الاستعارة الكبري فلا يمكن الانطلاق من هذا الواقع لفهم النص بل لابد من فهم الواقع انطلاقا من النص. لذلك جعل بيار زوما (Pierre Zuma) دراسة له بعنوان "من البنية النصية إلي البنية الاجتماعية". ويقول سعيد يقطين "وهكذا ان انفتاح زمن النص الداخلي علي القراءات المنفتحة "الممكنة" خير مؤشر علي كون بناء النص المحلل يأتي بصورة جديدة تحمل كتابة جديدة ووعيا ودلالة جديدة للزمن عكس ما نري في المتن الروائي التقليدي" (انفتاح ص 87).
العجائبي والتقنيات السينمائية
ومن عجب بلاغة الرواية الحديثة جمعها بين استخدام التقنيات السينمائية الحديثة وتوظيف لغة التصوف وما توحي به من صور هي إلي العجائبي أقرب منها إلي كرامات الأقطاب. أقرأ هذه الفقرة من "كتاب التجليات" لجمال الغيطاني ومن فصل بعنوان "تجل عابر".. هذا تجل عابر بمثابة نقطة بين مرحلتين ولحظة تلتقط فيها الأنفاس بين عذابين، بدأت أطفو إلي أعلي عليين، ولم يساورني الخوف أن أرد إلي أسفل سافلين ثبت أمري عند نقطة مرتفعة حدقت بالبصر الحديد، رأيت عالمنا الأرضي كله، مستديرا جميلا مبهرا، رأيت داخل شكله الآكري الأشكال كافة من طول وعرض واستقامة وعوج وتربيع وتثليث، رأيت القارات كلها في تفصيلها وفي جملتها رأيت البحار وما تحوي، والجبال وما تحمل، والشهب ومقاصدها، والغمام. رأيت المدن وحركتها، والقري، والمدقات والشوارع والمنحنيات كلها، ثم طاوعني بصري فأصبحت أري ما أشاء، ما أتمناه، أرغبه، دون أن يغيب عني الكل كأني أري الدنيا كلها وفي نفس اللحظة (......) حام بصري وحط كفرخ حمام متعب علي المواضع التي عرفتها طفلا وصبيا وشابا ثم رجلا مكتملا، وهنا أفيض علي بقدرة خصتني دون غيري ممن سبقوني في التجلي وهي قدرتي علي رؤية المكان في زمانين أو عدة أزمنة كل ذلك في نظرة واحدة. وأول من رأيت أبي ها هو يسعي في صباح باكر والندي يقطرها هو يعيش في ظهيرة مزدحمة (....) كتاب التجليات 1 (213 - 220).
أمر بسرعة علي الشحنة القرآنية التي يحيل إليها التناص في هذه الفقرة. فمنذ البداية تقفز إلي الذاكرة آيات عديدة. فهو عندما يقول "بدأت أطفو إلي عليين" فانه يشير إلي الآية 18 من سورة المطففين "كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين" وعندما يقول:
"لم يساورني الخوف أن أرد إلي أسفل سافلين"، فإنه يشير إلي الآية الخامسة من سورة التين : "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين" وعندما يقول:
"حدقت بالبصر الحديد" فإنه يشير إلي الآية الثانية والعشرين من سورة ق : "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" وعندما ينتهي هذا المعراج يقول في آخر التجلي فخررت من حالق صعقا يشير إلي الآية 143 من سورة الأعراف "فلما تجلي ربه للجبل جعله دكا وخر موسي صعقا".
- لا أتوقف كذلك عند استعمال ضمير المتكلم المفرد ودلالته علي جانب من سيرة الأنا السارد الذاتية.
- لا أتوقف عند بعض مصطلحات الصوفية كالتجلي والرؤية وغيرهما.
- وأركز علي التقنيات السينمائية المستعملة في هذا الفصل وغيره من الفصول التي تصور معراج السارد إلي عالم التجلي.
فأول عمل يقوم به الإخراج السينمائي قبل البدء في تصوير المشهد هو اختيار موقع الكاميرا حتي يتسني التصوير من زوايا مختلفة. وقد أثبت السارد رؤيته هنا في نقطة مرتفعة حتي يتمكن من الإشراف علي كامل المشهد في عمومه وتفاصيله "ثبت أمري عند نقطة مرتفعة" ثم تشعل الأضواء الكاشفة يقول "حدقت بالبصر الحديد" فكل كلمات هذه الجملة أي الفعل والاسم والنعت تدل علي التركيز والتكثيف والاستعداد للكشف. ثم ينتقل إلي تصوير المشهد العام (une plongee) "رأيت عالمنا الأرضي كله مستديرا، جميلا، مبهرا" وهذه صورة فضائية لا تقدر علي التقاطها كاميرا عادية ولو أثبتت في مكان مرتفع، والصور التي تلتقط من الطائرة هي مجرد صور جوية لا يتجاوز ارتفاعها طبقة الجو التي تحيط بالكرة الأرضية، فيجب أن تثبت اذن داخل مركبة فضائية أو قمر اصطناعي ليتسني التقاط صورة كوكب الأرض في كليتها إذن خارج مجال جاذبية الأرض. ولذلك قال في البداية "بدأت أطفو" وهذا الفعل يوحي بحركة رواد الفضاء في تنقلهم من مكان إلي آخر، وهذه التجهيزات الحديثة في إمكانها التقاط المشهد العام والتركيز علي أدق الجزئيات: "رأيت داخل شكله الأكري الأشكال كافة من طول وعرض...." ثم ينحصر المشهد فيري المدينة، ويري اباه فيها، ويدقق أكثر أكثر ويضخمه باستعمال تقنية le gros plan فيري "الشعيرات النامية علي يده وعند مفاصل أصبعه كذلك التصاوير علي الورقة المالية" وفي امكان هذه الآلة أن تتنقل بين مشاهد عديدة "حام بصري وحط كفرخ حمام متعب" وهذه التجهيزات تمكن من تعديل الرؤية لتدقيق مشهد بعينه "ثم طاوعني بصري فأصبحت أري ما أشاء، ما أتمناه، أرغبه، دون أن يغيب عني الكل" وتصوير مشهد كهذا جامع بين صورتين فأكثر يحتاج إخراجه إلي عدة آلات تلتقط الصور ثم يقع تركيبها (montage) والتركيب السينمائي اليوم يمكن من الحصول علي صور عجيبة تتزامن فيها الحركات وتتلاصق المشاهد (une superposition dimages) أو تتوالي بسرعة "طفلا فشابا فرجلا متكاملا" وتوجد اليوم تقنيات حديثة تمكن من كل هذا وهي زيادة علي قاعة السينما الدائرية" (Salle circulaire) السينما ذات الأبعاد الثلاثة (cinema a trois dimension ) وهو طور أحدث من السينما سكوب وقد شاهدنا نماذج منها في معرض أشبيلية الدولي ملتقطة من مركبات فضائية، فشاهدنا عجبا.
وإن هذا التزامن يتأكد في تعليق السارد بعد ذكر مشاهد من حياة أبيه اليومية. فهو يري تفاصيلها ويسمع حواره مع غيره وهذا يحتاج إلي التقاط الصوت (une prise de son) ثم تنسيقه مع الصورة (une synchronisation) ثم يضيف "كنت أري هذا كله في آن واحد معا، ولم يكن يغيب عن بصري في ذات الوقت رحيل السحب وتكون الزلازل، الثلوج، ودوران الأرض حول محورها وبؤر الزلازل، وهبوط الأعاصير، وهذا أمر يطول شرحه ويقصر عنه أدق الوصف". وهذه كلها أمور في امكان تجهيزات المركبات الفضائية التقاطها، ولكن ليس في وسعها ولا في وسع البشر إدراك حركة الزمن ومع ذلك يؤكد السارد قدرته علي رؤية أماكن مختلفة عرفها في مراحل متعاقبة من حياته". وهنا أفيض علي بقدرة خصتني دون غيري ممن سبقوني في التجلي وهي قدرتي علي رؤية المكان في زمانين أو عدة أزمنة كل ذلك في نظرة واحدة" ويمكنه أيضا رؤية مكانين في وقت واحد: "غير أن حيرتي لم تدم إذ رأيت أبي وأمي معا كل في حجرته لكني أراهما في وقت واحد وألم بهما رغم تباعدهما عن بعضهما البعض" ص 65. ليس هناك غير التركيب السينمائي من يقدر علي مثل هذه الرؤية. وهو قادر أيضا علي الاختفاء التدريجي للصور عن طريق التحكم في الأضواء الكاشفة، لكن هذه الصورة التي قدمها السارد تعجز السينما عن عرض كامل عناصرها. فقد تحدث عن رؤية أبيه في زمن الحنين ثم أضاف"صحت به لكني كنت مبتعدا عنه كراحلة تنأي بسرعة بالغة عن منطلقها، راح يتضاءل حجمه حتي صار نقطة ثم معني (1. 121).
وهنا يقدر البيان وتعجز التكنولوجيا. فتحويل الشخص إلي نقطة متيسر لكن تحويله إلي معني مستحيل، عجيب" بل هناك أكثر من ذلك عجبا وهذا أيضا ليس في مستطاع التكنولوجيا الحديثة إدراكه وهو تثبيت لحظة شعور في نفسه ثم اطلاقها، فالكاميرا في امكانها تثبيت الصورة (une image fixe) لكن تثبيت الشعور أمر آخر.
يقول في موقف الحنين: "من عجائب موقف الحنين تبينت أنه بامكاني أن امسك وجدي أو شعوري، فإذا رأيت أو حننت إلي لحظة ما كان ممكنا لي أن أثبتها إلي حين ولو كنت أمر بحزن غامر ثم جاءني من لا أرغب في إظهاره له، أوقف حزني أو أساي أو فرحي فإذا خلوت إلي نفسي أرسلته من جديد واسترسلت فيه عاودت النظر" ( 2051).
فهل ارتقي من مرتبة المريد إلي مرتبة القطب فصار صاحب كرامات؟ الواقع أن الأمر لا يتعلق بكرامات بقدر ما يتصل بالمعجزة, معجزة التكنولوجيا بالنسبة إلي التصوير الفضائي، ومعجزة الإبداع بالنسبة إلي التصوير الأدبي. فالبيان أصل الإعجاز والإبداع خلق وابتكار يدك جميع الحدود الفاصلة بين الواقعي والعجائبي, وبين الماضي والحاضر، وبين الحلم واليقظة، وبين الواقع والخيال. وهذه البلاغة لا نعرف هل كان في امكان الحداثة ادراكها دون الاعتماد علي المخزون الثقافي بشقيه التراثي والحديث والعطاء الوافر في الآن نفسه.
إن حسم الموقف لا يكون إلا بعد النظر في نصوص أخري قطعت صلة الرحم بالتراث واقتصرت علي اقتباس الحداثة الغربية مع محاولة تجاوزها والتميز عنها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.