محافظ قنا يتابع غلق لجان الانتخابات وانطلاق أعمال الفرز عبر مركز سيطرة الشبكة الوطنية    «المشاط»: النقل واللوجستيات من أكثر القطاعات مساهمة في النمو بدعم التطور الكبير في القطاع منذ 2014    فيديو يزيد الضغط على مسئولين أمريكيين بسبب قارب الكاريبي.. ما القصة؟    وزير الرياضة عن السبّاح يوسف: لا جهة تستطيع الجزم بسبب الوفاة إلا النيابة العامة.. وتعاملنا بكل جدية ومسئولية    أهلي طرابلس بقيادة حسام البدري يحصد لقب كأس ليبيا    أحمد محمود يحصد ذهبية بطولة أبطال الجمهورية في الووشو كونغ فو    تحريات الفيوم تكشف حقيقة بلاغ مزيف عن شراء أصوات.. وضبط الطالب مُروّج الشائعة    الإدارية العليا تغلق باب الطعون على نتيجة النواب بالمرحلة الثانية ب300 طعن في 48 ساعة    ننشر مشاريع الأفلام المشاركة بمنصة القاهرة للأفلام في مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير    مراسلة إكسترا نيوز: اشتعال المنافسة في الإسكندرية بين 16 مرشحا على 3 مقاعد    ما الحكمة من تناثر القصص القرآني داخل السور وعدم جمعها في موضع واحد؟.. خالد الجندي يوضح    الأقصر تشهد أضخم احتفالية لتكريم 1500 حافظ لكتاب الله بجنوب الصعيد    صحة مطروح: إحالة عاملين بإدارتي الضبعة والعلمين إلى التحقيق لتغيبهم عن العمل    الوطنية للانتخابات: تسليم الحصر العددي لمن يطلب من المرشحين أو الوكلاء وليس للمندوب    "المصل واللقاح" يكشف حقائق صادمة حول سوء استخدام المضادات الحيوية    بعد غد.. فصل التيار الكهربائي عن مناطق وقرى بالرياض في كفر الشيخ لمدة 5 ساعات    تحولات الدور التركى فى الساحل الإفريقى    البورصة تسجل قفزة في سوق الصفقات بقيادة شارم والخليج الإنجليزية    ننشر الجدول الزمنى للإجراءات الانتخابية بالدوائر الملغاة بانتخابات النواب    سوريا ضد قطر.. التعادل السلبي ينهى الشوط الأول بكأس العرب 2025    محافظ قنا ل إكسترا نيوز: غرفة عمليات لمتابعة الانتخابات على مدار الساعة    دار الإفتاء: البشعة ممارسة محرمة شرعا ومنافية لمقاصد الشريعة    فوز قطاع الطب الوقائى والصحة العامة بالمركز الأول بجائزة التميز الحكومي العربى    بانوراما مصغرة ل«المتحف المصري الكبير» بإحدى مدارس كفر الزيات    محافظ الدقهلية يقدم العزاء في وفاة الحاجة «سبيلة» بميت العامل بمركز أجا| صور    تغيير ملاعب مباريات الأهلي والزمالك في كأس عاصمة مصر    الأزهر للفتوى يوضح: اللجوء إلى البشعة لإثبات الاتهام أو نفيه ممارسة جاهلية    توقيع بروتوكول تعاون مشترك بين وزارة الخارجية ومحافظة كفرالشيخ لإتاحة خدمات التصديقات داخل المحافظة| صور    حفل جوائز التميز الصحفى الإثنين |تكريم «الأخبار» عن تغطية افتتاح المتحف الكبير    هنو يكرم خالد جلال «صانع النجوم»    دير شبيجل: ماكرون حذر زيلينسكي وميرتس من خيانة أمريكية    الكرملين: الهند شريك رئيسي لروسيا.. والعلاقات بين البلدين متعددة الأوجه    إجراءات التقديم لامتحان الشهادة الإعدادية 2026    بيان من نادي كهرباء الإسماعيلية بسبب الشائعات بين المرشحين على مواقع التواصل    ياسمين الخيام تكشف التفاصيل الكاملة لوصية والدها بشأن أعمال الخير    نيكول سابا تكشف كواليس أحدث أعمالها «تلج تلج »    وفاة معلم أثناء طابور الصباح في القاهرة    تحويلات مرورية في القاهرة.. تعرف عليها    نائب رئيس الوزراء: القيادة السياسية تضع الملف الصحي على رأس الأولويات الوطنية    «التجاري الدولي» يحصد جائزة بنك العام في مصر من مؤسسة The Banker    السفيرة الأمريكية بالقاهرة: نسعى لدعم وتوسيع الشراكة الاستراتيجية مع مصر    العمل" تُوفر 10 وظائف للشباب في" الصناعات البلاستيكية الدقيقة بالجيزة    الداخلية تضبط شخصا يوزع أموالا على الناخبين بطهطا    الاحتلال الإسرائيلي يعلن مقتل ياسر أبو شباب على يد مسلحين فى غزة    ثقافة الغربية تناقش كتابات نجيب محفوظ احتفالا بذكرى ميلاده    رئيس الوزراء يصدر 10 قرارات جديدة اليوم    أبو الغيط: جائزة التميز الحكومي رافعة أساسية للتطوير وتحسين جودة حياة المواطن العربي    الطقس غدا.. تغيرات مفاجئة وتحذير من شبورة كثيفة وأمطار ونشاط رياح وأتربة    لجان لفحص شكوى أهالي قرية بالشرقية من وجود تماسيح    في غياب الدوليين.. الأهلي يبدأ استعداداته لمواجهة إنبي بكأس العاصمة    «الأوقاف»: تعديل القيمة الايجارية لأملاك الوقف    ضبط شخص بحوزته عددا من بطاقات الرقم القومي للناخبين في قنا    خسائر بالملايين| الحماية المدنية تسيطر على حريق بمعرض أجهزة كهربائية بالوراق    موعد صلاة الظهر..... مواقيت الصلاه اليوم الخميس 4ديسمبر 2025 فى المنيا    الحقيقة الكاملة حول واقعة وفاة لاعب الزهور| واتحاد السباحة يعلن تحمل المسئولية    الصحة: مباحثات مصرية عراقية لتعزيز التعاون في مبادرة الألف يوم الذهبية وتطوير الرعاية الأولية    استقرار أسعار الذهب اليوم الخميس.. والجنيه يسجل 45440 جنيهًا    كأس إيطاليا – إنتر ونابولي وأتالانتا إلى ربع النهائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اكتمال كل دوائر المعني
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 10 - 2015

مع نجيب محفوظ الذي يتأمل المسيرة العسيرة التي خاضها الكاتب والروائي والصحفي الكبير جمال الغيطاني،لن يستطيع أن يحصي مفردات ثراء تلك التجربة الثقافية والأدبية والفكرية المذهلة، والتي بدأت منذ أكثر من نصف قرن،ربما وهو في العاشرة من عمره، عندما تعرّف الفتي الصغير علي الأكشاك والمكتبات العامة بعد مكتبة المدرسة ،وراح يقتني الكتب ويقرأها بنهم شديد، كانت القراءة عند الفتي اليافع ملاذا آمنا من كل الوقائع التي تدور في الحي الشعبي الذي كان يعيش فيه،وكذلك كانت الحالة الاقتصادية المتواضعة، دافعة للفتي ليستبدل عالمه بعوالم أخري عبر الكتب والمجلدات التي كانت تقع تحت يديه.
في يناير 1993 يكتب الغيطاني شهادة وافية عن حياته،ويسرد فيها وقائعها المدهشة،ويرصد ما استطاع أن يرصده في تلك الشهادة، وعن علاقته الأولي بالكتاب يقول :"يمكنني تحديد أول كتاب اقتنيته، لكنني لا أقدر علي تحديد أول كتاب قرأته، كان ذلك أول أيام العيد، بعد أن أدينا الصلاة في مسجد الحسين مررنا ببائع صحف يعرض مجلات وكتبا جديدة،كنت أمتلك خمسة قروش مقدار عيديتي، لمحت رواية البؤساء لفيكتور هيجو،كانت ترجمة بيروتية صادرة في سلسلة عنوانها (روايات اليوم)، اشتريتها بالقروش الخمسة ومضيت إلي البيت سعيدا، التهمت صفحاتها،ومازلت أذكر شعرا ورد علي لسان جان فالجان إثر سقوطه في أحداث ثورة باريس:
سقطت بوجهي إلي الثري
وداعا رفاقي إلي الملتقي
كان ذلك أول كتاب اقتنيته،وقد فقد مني فيما بعد، ولكن قراءاتي الأولي بدأت من مكتبة المدرسة، مدرسة عبد الرحمن كتخدا الابتدائية،ومدرسة الحسين الإعدادية .
من مكتبة المدرسة قرأ الغيطاني مجلدات مجلة "سندباد"التي كان يصدرها محمد سعيد العريان،وهي مجلة كانت مرموقة ومقروءة ومؤثرة،وكان شعارها "مجلة الأولاد" في جميع البلادن، وكان يخرجها ويصنع رسوماتها الفنان الكبير "حسين بيكار"، بما في تلك الرسوم من حمولات خيالية مدهشة للسندباد العظيم في ذهن الأولاد الصغار، كما قرأ الغيطاني كافة الكتب التي كانت تحملها رفوف المكتبة المدرسية.
وكانت خطي جمال الاولي في تعرّفه علي عالم الكتاب خارج أسوار المدرسة، عندما قادته خطاه إلي الشيخ تهامي،والذي جاء من أسوان ليدرس في الأزهر،ولكن ظروفا ما عاقته، ولم يكمل دراسته،واحترف بيع الكتب القديمة،وكان مقره الدائم فوق الرصيف الذي يجاور باب الأزهر الرئيسي،وكان يضع كتبه الكثيرة المتنوعة أمام المارة، ليكون الفتي الصغير أحد هؤلاء المارة.
من مكتبة الشيخ تهامي القابعة علي الرصيف، قرأ الغيطاني معظم الروايات المترجمة،وانبهر بشخصية أرسين لوبين، ذلك اللص الشريف الذي كان يسرق من الأغنياء ويعطي الفقراء، وأرسين لوبين كان كثيرا ما يداعب خيالات الأطفال، والفقراء منهم علي وجه الخصوص، ولكن الغيطاني صنع له وجها وملامح، لدرجة أنه حلم بإنشاء جماعة سرية تهتدي بما كان يصنعه أرسين لوبين.
وبعيدا عن الروايات المترجمة، عرّج الغيطاني علي الكتب العربية لجورجي زيدان، ثم ملحمة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة، وتغريبة بني هلال، وطبعا ألف ليلة وليلة، وتلك الأخيرة أصبحت شاغلة له علي مدي طويل من الزمن، وظل يبحث عن طبعاتها المختلفة، وعندما كان رئيس تحرير سلسلة "الذخائر"، نشر بعض تلك الطبعات، وقد سبّبت له مشاكل رقابية، وتعرضت لمنع رقابي سافر، مما دفع جمال الغيطاني للدفاع عنها بكل مايملك من معلومات وقدرة علي إيراد تلك المعلومات في سياق ثقافي مستنير، وبالطبع أوصلت هذه القراءات الفتي إلي كتب ومجلدات التاريخ للطبري والمقريزي وابن إلياس، وغيرهم، تلك الكتب التي ظلت ملهمة له طيلة حياته الإبداعية.
بدأ جمال الكتابة كما كتب وقال وصرّح في شهاداته المتنوعة، في أواخر عام 1959، وكان متأثرا بكل الكتابات التي قرأها، وكذلك الحكايات التي كان يحكيها الوالد له، وكانت قصته الأولي عنوانها "السكير"،وهذا عنوان كتبه ديستوفيسكي لإحدي رواياته، وسرعان ما تخلص جمال من الآثار التي لحقت بسردياته القصصية،وبدأ يكتشف شخصيته الفنية والقصيية، فنشر بعض قصصه الأولي في مجلة "بناء الوطن"، ثم في جريدة "المحرر اللبنانية"، وكانت القصة الأكثر بروزا،نشرها ضمن عدد خاص أعدته مجلة "القصة"،وكان عنوانها "أحراش المدينة"، وكان ذلك في يونيو 1965،وعلّق علي القصة الناقد الدكتور علي الراعي، وكان ذلك التعليق، هو أول نقد يكتب عن قصص جمال الغيطاني، وكان تعليق الراعي،لطيفا ومشجعا ومتنبئا لذلك الشاب بمستقبل واعد، لولا أنه ذكر بأن القصة متأثرة برواية "الطريق " لنجيب محفوظ، وهذا دفع الغيطاني ليردّ ردا حادا في العدد التالي، وكان الردّ في رأيي نوعا من الدفاع الذي رآه جمال ضروريا لكي ينفي عن نفسه، مااعتقد أنه اتهام جارف.
وجدير بالذكر أن الدكتور علي الراعي نفسه، كتب نقدا لإحدي قصص الغيطاني فيما بعد،وهي قصة "أرض..أرض"، والتي نشرت في مجلة "صباح الخير" في يناير 1970، وأعاد نشرها جمال الغيطاني كمقدمة للمجموعة التي حملت العنوان نفسه، وبعد تحليل مستفيض للقصة، أنهي الراعي مقالته قائلا :"كان من أسباب فرحي بهذه القصة، ماتخلف لدي من إحساس عقب قراءتها بأن أيدي الشباب قد أخذت تصل إليها الرسالة الفنية أخيرا، وأن هذه الأيدي لم تكتف بتسليم الرسالة،بل مضت خطوات في سبيل التعبير الفني الناضج عن الثورية،ويمضي بها ليحقق المزيد من الإنجازات ..باختصار شديد،أنا سعيد".
كان جمال الغيطاني يعيش حالتين من الألم،ليصاحبهما نوع من المقاومة العنيدة، الحالة الأولي تتعلق بوضع الأسرة الفقيرة، وكان حلم الوالد الجنوبي،والذي جاء من محافظة سوهاج، لا يتجاوز حلمه إلا أن يستر الأولاد، وظل يحلم بعناد، وقد ورث الابن ذلك العناد بقوة، فبعد أن أنهي دراسته الإعدادية، التحق بمدرسة الصنائع "قسم النسيج"، وعمل في الجمعية الصناعية لمنتجات خان الخليلي، ومن خلال ذلك العمل تعرّف الغيطاني علي فئة من الحرفيين، لم يكن التعرّف عليهم واردا خارج هذا العمل، ومنهم عاش وعرف قصصا عديدة عن هذه الفئة، هؤلاء الحرفيون الذين ينتجون الصناعات اليدوية،والتي تحمل في صناعاتها التراث الشعبي لمنطقة خان الخليلي، وظل جمال يتقلب في أعمال النسيج المتوسطة، وكانت تلك الأعمال تلتهم منه أوقاتا كثيرة، فكان بعناده الكبير، وشغفه بالقراءة يظل طوال الليل يسهر علي القراءة، ليكوّن ثقافته بشكل عصامي.
أما الألم العام، فهو الظروف التي قبض عليه فيها في أكتوبر عام 1966،وخرج في مارس 1967، ومورس عليه أقسي أنواع التعذيب، كان يزامله في الاعتقال حشد من المثقفين،ضم هذا الحشد رفاقا من الشباب في ذلك الوقت، ولكن السبل المختلفةفيما بعد فرّقت ذلك الحشد،وربما صاروا يشبهون الأعداء، من هؤلاء صلاح عيسي وغالب هلسا وسيد خميس وسيد حجاب وصبري حافظ وابراهيم فتحي وغيرهم، وتحدث الغيطاني في مؤتمر عن أدب السجون عن تلك التجربة، وجاء في تلك الشهادة "في يوم من الأيام بدأ سحبنا اثنين اثنين علي المعتقل، وعندما جاء عليّ الدور تم ترحيلي أنا والدكتور صبري حافظ في عربية، وقد لمحت الخطاب الذي رحلنا به "ترحيل المجرمين الخطرين فلان وفلان تحت الحراسة المشددة"،فأصبحت طوال الوقت أقول "أنا خطير"،المهم طوال الطريق من طرة إلي القلعة كنت أودّع الأشياء،كنت أشاهد الشارع وكأني لن أراه مرة أخري".
كانت إذن تجربة الاعتقال في غاية السوء،ومن المعروف أن جريدة الأهرام كانت قد وجهّت دعوة إلي الفيلسوف جان بول سارتر إلي القاهرة، باقتراح من الكاتب لطفي الخولي، ولكن سارتر وافق علي الزيارة، ولكنه اشترط أن يأتي بعد الإفراج عن أي معتقلين سياسيين، وبالفعل تم الإفراج عن ذلك الشباب.
وخرج الغيطاني ابن الاثنين والعشرين عاما،وهو يحمل علي كاهله، تجارب ثقيلة جدا، وبدأ يبحث عن شكل فني ليعبّر به عن تلك التجارب الخاصة والعامة، حيث إن التجارب القاسية دوما،ماتكون ملهمة للكتّاب والأدباء والمبدعين، فكتب قصصه التي ضمتها مجموعته الأولي "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، والتي صدرت عن سلسلة كتاب "الطليعة"، وقد شاركه في إصدار تلكعالم هذا الشباب ..عالم لا يدرك أبعاده الثورية إلا هم وحدهم،عالم يأخذ من منجزات الماضي السلسلة الكاتبان محمد يوسف القعيد، وسمير محمد ندا، ولاقت المجموعة كثيرا من الاحتفاء الإيجابي الواسع، فكتب النقاد محمود أمين العالم وابراهيم فتحي وعبد الرحمن أبوعوف ومحمد عودة وغيرهم،وكانت قصة " هداية أهل الوري لبعض مما جري في المقشرة"،وكان جمال في كل قصص تلك المجموعة، يحاول البحث عن تقنيات جديدة فنية، وعن طرق أخري بعيدة نسبيا عن التيمة الموباسانية، التي تجعل للقصة بداية ونهاية ولحظة تنوير، وغير ذلك من أشكال وبنيات،فكان التاريخ هو التكأة التي اعتمد عليها جمال في أمثولته الفنية عموما، فزعم الراوي بوجود مخطوطة قديمة في خزانة الكتب بأحد الجوامع القديمة بالجمالية، وزاد الراوي إدهاشا للقارئ بأن تلك المخطوطة مثيرة للغرابة، فهي لا تمت للفقه أو الشرع بأي صلة، ولكنها تتحدث عن ذكريات آمر السجن الذي عرف في عصور المماليك الغابرة باسم المقشرة.
وهكذا نجح جمال في اكتشاف تيمة فنية جديدة، يستطيع من خلالها أن يدفع قارئه لاكتشاف التاريخ المدهش، وكذلك ليسرد حديثا عن السجن، ربما يشبه الحديث عن سجن معاصر هو قد عاشه من قبل، وقد نشرت القصة في عدد ابريل عام 1969من مجلة جاليري 68،
وعلّق عليها الناقد الكبير ابراهيم فتحي وغالب هلسا في العدد نفسه، ولكن صدور المجموعة القصصية، جعل من جمال الغيطاني أحد صنّاع السرد العظام في جيل الستينيات.
وكما جاءت قصة أهل الوري، وقصة أوراق شاب عاش منذ ألف عام، معبرتين عن عين التاريخ التي تدرس الواقع المعاصر،جاءت قصة "أيام الرعب"، وهي تقريبا سيرة لما حدث للكاتب نفسه، فالمعلومات التي يوردها الكاتب عن بطله "محروس فياض سلامة" تنطبق علي جمال الغيطاني نفسه، إذ أن ذلك البطل من مواليد 9 مايو 1945، ويدين بدين الإسلام، ويعمل رساما بالمؤسسة العامة، ومحلا الإقامة "الجمالية، كفر الطماعين"، وكل هذه المعلومات تخص الغيطاني نفسه،وفي هذه القصة نجد الاهتمام الأول للغيطاني بفكرة المكان بشكل أوسع نسبيا مما سبق،وكذلك سرد مايحدث في حارة كفر الطماعين،هذه الحارة التي أصبحت فيما بعد "حارة الزعفراني"، والاهتمام بالحارات أساسا موضوع محفوظي محض،ولكن حارة الغيطاني تختلف عن حارة نجيب محفوظ، فالغيطاني مشغول بالتفاصيل الاجتماعية للأفراد في الحارة،كمكون رئيسي للمجتمع المصري، ولا تحفل شخصيات الغيطاني مثلما يحدث عن شخصيات محفوظ،حيث يحاول محفوظ التأريخ للتطور المجتمعي من خلال تاريخ الحارات.
وكما أسلفنا، كانت مجموعة "أوراق شاب" للغيطاني، هي جواز المرور الأهم الذي فتح للغيطاني سطوعا عاليا في سماء الأدب والسرد.
وهناك بعد يدركه كل من اقترب من الغيطاني،ومن عالمه، ومن كتاباته، فهو دائم الاحتفال بكافة الظواهر التي تركت أثرا فيه، كذلك الشخصيات التي لعبت دورا معه، وبرز ذلك البعد في تلك المجموعة، إذ أنه أهدي تلك المجموعة إلي "صديقي الفنان عبد الفتاح الجمل، الذي أعطي الفرصة لجيلنا"، وهو بذلك يضع تقديرا لذلك الجندي المعلوم في ذلك الوقت، خلف كل أبناء جيل الستينيات، والذي فتح بوّابة جريدة " المساء" ليحتضن كل الكتّاب الذين شكلوا ظاهرة جيل الستينيات .
كما أن الغيطاني احتفي بشيخه وأستاذه نجيب محفوظ، وجالسه كثيرا في كل الأماكن التي كان يتنقل فيها، ثم أجري معه حوارا بحجم كتاب، هو كتاب "نجيب محفوظ يتذكر"، وهو من أجمل ماكتب بصدد الحوارات المحفوظية الكثيرة، ثم ضم إليه ما أسماه بالمجالس المحفوظية، لتعد تلك الحوارات والمجالس والكتابات، أحد المراجع المهمة في التعرف علي نجيب محفوظ، وكذلك الغيطاني نفسه، حيث أنه يحكي كيف التقي بنجيب محفوظ، وعلي شاكلة هذا الكتاب جاء كتابه عن مصطفي أمين ثم توفيق الحكيم، ولم ينس الغيطاني أحدا من الذين رآهم وتأثر بهم،وله شهادة بديعة عن يحيي حقي يكتب عنه قائلا :"هذا الفنان الرقيق، المتوهج الحي، الانساني، ولحسنأ حظي أنني عرفته منذ بداياتي الأولي، ربما كان ذلك في الخامسة عشرة من عمري، أرسلت إليه قصصا ورسائل إلي 27 عبد الخالق ثروت، عنوان مكتبه عندما كان يرأس تحرير مجلة "المجلة، وتلقيت عليها كلها ردودا،مازلت أحتفظ ببعضها كوثائق نادرة".
كان جمال يكتب شهاداته دون أن يخشي لومة لائم، حتي أنه كتب مقالا جريئا عنوانه "عم شعراوي"، هذا المقال كتبه ونشره بعد رحيل شعراوي جمعة وزير الداخلية أثناء العهد الناصري، وقد كان شعراوي جمعة علي علاقة طيبة بالمثقفين، وعلي رأسهم محمود أمين العالم، وبالتأكيد كان كثير من المثقفين علي خلاف مع تلك العلاقة، ولكن جمال الغيطاني كتب شهادته التي يعطي الرجل بعض حقه بعد رحيله، هذا الحق الذي أهدر في حياته.
وجمال الذي كتب تلك الشهادة، هو الذي كان عضوا في هيئة تحرير مجلة"أدب ونقد" منذ عددها الأول في يناير عام 1984،وكان اسمه يجاور دعبد العظيم أنيس
ود. لطيفة الزيات والفنان بهجت عثمان، وكانت المجلة ومازالت تصدر عن حزب التجمع اليساري، والذي كان آنذاك من أشد المعارضين لسياسة الدولة، ولم يخش جمال انضمامه لمستشاري التحرير الخطرين، بل كتب في العدد الثاني في فبراير 1984 مقالا شديد اللهجة في انتقاد السياسة الثقافية الرسمية، وكان عنوان مقاله "الواقع الأدبي بين الحقيقة والزيف"، ووجه نقدا شديدا إلي تلك الدولة التي تقتل الإبداع والمبدعين.
وعندما تولي الغيطاني مسئولية رئيس التحرير في صحيفة "أخبار الادب"، لعب دورا في غاية الأهمية لاحتضان مواهب صاعدة، أصبحوا نجوما ساطعة الآن في عالم الأدب والثقافة .
هذا غيض من فيض، فالحديث عن الكاتب الكبير جمال الغيطاني، يحتاج بالفعل إلي مساحات أوسع لمسيرته الطويلة والعميقة، حتي نستطيع أن نوفي حقه في الدرس والنقد والقراءة علي مهل، وليس أقل من مؤتمر كبير تعقده وزارة الثقافة في أقرب يوقت لكي ندرك ويدرك الآخرون قيمة ذلك الطود الذي هوي، وكان مازال يعطي حتي قبل غيبوبته الأبدية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.