انخفاض أسعار النفط بعد الارتفاع المفاجئ في المخزونات الأمريكية    سعر الذهب اليوم الخميس يصل لأعلى مستوياته وعيار 21 الآن بالمصنعية    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم 22 مايو بسوق العبور للجملة    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الخميس 22 مايو 2025    إسرائيل تعترض صاروخا قادما من اليمن    زعيم كوريا الشمالية غاضبا بعد فشل تشغيل سفينة حربية: إهمال لا يمكن أن يغتفر    زلزال قوي يضرب القاهرة والجيزة وبعض محافظات مصر    حكم من يحج وتارك للصلاة.. دار الإفتاء توضح    لماذا زادت الكوارث والزلازل خلال الفترة الحالية؟.. أمين الفتوى يوضح    نصيحة من محمد فضل للزمالك: لا تفرّطوا في هذا اللاعب    يصيب الإنسان ب«لدغة» وليس له لقاح.. تفاصيل اكتشاف فيروس غرب النيل في دولة أوروبية    مجلس الشيوخ الأمريكي يعتزم التحقيق في هوية الشخص الذي أدار البلاد بدلا من بايدن    نماذج امتحانات أولى ثانوي 2025 بالنظام الجديد.. رابط مباشر    رابط الحصول على أرقام جلوس الثانوية الأزهرية 2025.. موعد وجدول الامتحانات رسميًا    القيمة المضافة.. الصناعات الزراعية أنموذجا    قبل ساعات من محاكمته.. إصابة إمام عاشور بوعكة صحية ونقله للمستشفى    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 22-5-2025    إمام عاشور من داخل أحد المستشفيات: الحمد لله على كل شىء (صورة)    الفيلم الوثائقي الأردني "أسفلت" يفوز بجائزة في مهرجان كان السينمائي 2025    5 شهداء جراء استهداف الاحتلال منزلا في حي الصفطاوي شمالي غزة    بعد استهداف الوفد الدبلوماسي، كندا تستدعي السفير الإسرائيلي وتطالب بالمحاسبة    «استمرار الأول في الحفر حتى خبط خط الغاز».. النيابة تكشف مسؤولية المتهم الثاني في حادث الواحات    ضبط 7 عمال أثناء التنقيب عن الآثار بمنزل في سوهاج    هذا أنا مذكرات صلاح دياب: حكاية جورنال اسمه «المصرى اليوم» (الحلقة الثالثة)    سامر المصري: غياب الدراما التاريخية أثَّر على أفكار الأجيال الجديدة    كريم محمود عبدالعزيز: «قعدت يوم واحد مع أبويا وأحمد زكي.. ومش قادر أنسى اللحظة دي»    أرباح إيسترن كومبانى تنمو 36% خلال 9 أشهر.. بدعم 27 مليار جنيه إيرادات    أموريم: كنا أفضل من توتنهام.. وسأرحل إذا أراد مانشستر يونايتد إقالتي    المستشار عبد الرزاق شعيب يفتتح صرحا جديدا لقضايا الدولة بمدينة بورسعيد    وزارة المالية تعلن عن وظائف جديدة (تعرف عليها)    محافظ الدقهلية: 1522 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية ابو ماضي مركز بلقاس    إجراء طبي يحدث لأول مرة.. مستشفى إدكو بالبحيرة ينجح في استئصال رحم بالمنظار الجراحي    توقعات حالة الطقس اليوم الخميس    بأجر كامل.. تفاصيل إجازة امتحانات العاملين في قانون العمل الجديد    السفارة التركية بالقاهرة تحتفل بأسبوع المطبخ التركي    الهلال يتمم المقاعد.. الأندية السعودية المتأهلة إلى دوري أبطال آسيا للنخبة    مسلم ينشر صورًا جديدة من حفل زفافه على يارا تامر    بعد انخفاضه لأدنى مستوياته.. سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم الخميس 22 مايو 2025    السعودية تدين وتستنكر تعرض وفد دبلوماسي لإطلاق نار إسرائيلي في مخيم جنين    رئيس جنوب أفريقيا: نرحب بالاستثمارات الأمريكية ونتوقع زيارة من ترامب    مراسم تتويج توتنهام بلقب الدوري الأوروبي للمرة الثالثة فى تاريخه.. فيديو وصور    كندا تطالب إسرائيل بتحقيق معمّق في واقعة إطلاق النار على دبلوماسيين بالضفة الغربية    اليوم.. انطلاق امتحانات نهاية العام لصفوف النقل بالمحافظات    الهلال ينجو من خسارة جديدة في الدوري السعودي    كيف تغلبت ياسمين صبري على التصميم الجريء لفستانها في مهرجان كان؟ (صور)    حاكم الشارقة يتسلم تكريما خاصا من اليونسكو لإنجاز المعجم التاريخى للغة العربية    28 يونيو.. ماجدة الرومي تحيي حفلا غنائيا في مهرجان موازين بالمغرب    اليوم.. العرض المسرحي "العملية 007" على مسرح قصر ثقافة بورسعيد    "من أجل المنتخبات".. ورش عمل لتطوير مسابقات الناشئين 24 و25 مايو    محافظ الغربية يُشيد بابنة المحافظة «حبيبة» ويهنئها لمشاركتها في احتفالية «أسرتي.. قوتي».. صور    كيف كان مسجد أهل الكهف وهل المساجد موجودة قبل الإسلام؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    بعد مطاردة بوليسية.. ضبط سيارة تهرب 8 آلاف لتر بنزين قبل بيعها في السوق السوداء بدمياط    وزير الزراعة يحسم الجدل حول انتشار وباء الدواجن في مصر    لحظة وصول بعثة بيراميدز إلى جوهانسبرج استعدادا لمواجهة صن داونز (صور)    في الجول يكشف آخر تطورات إصابة ناصر ماهر    وزير الصحة يستجيب لاستغاثة أب يعاني طفله من عيوب خلقية في القلب    رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق: أيام الحج فرصة عظيمة لتجديد أرواح المسلمين.. فيديو    موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اكتمال كل دوائر المعني
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 10 - 2015

مع نجيب محفوظ الذي يتأمل المسيرة العسيرة التي خاضها الكاتب والروائي والصحفي الكبير جمال الغيطاني،لن يستطيع أن يحصي مفردات ثراء تلك التجربة الثقافية والأدبية والفكرية المذهلة، والتي بدأت منذ أكثر من نصف قرن،ربما وهو في العاشرة من عمره، عندما تعرّف الفتي الصغير علي الأكشاك والمكتبات العامة بعد مكتبة المدرسة ،وراح يقتني الكتب ويقرأها بنهم شديد، كانت القراءة عند الفتي اليافع ملاذا آمنا من كل الوقائع التي تدور في الحي الشعبي الذي كان يعيش فيه،وكذلك كانت الحالة الاقتصادية المتواضعة، دافعة للفتي ليستبدل عالمه بعوالم أخري عبر الكتب والمجلدات التي كانت تقع تحت يديه.
في يناير 1993 يكتب الغيطاني شهادة وافية عن حياته،ويسرد فيها وقائعها المدهشة،ويرصد ما استطاع أن يرصده في تلك الشهادة، وعن علاقته الأولي بالكتاب يقول :"يمكنني تحديد أول كتاب اقتنيته، لكنني لا أقدر علي تحديد أول كتاب قرأته، كان ذلك أول أيام العيد، بعد أن أدينا الصلاة في مسجد الحسين مررنا ببائع صحف يعرض مجلات وكتبا جديدة،كنت أمتلك خمسة قروش مقدار عيديتي، لمحت رواية البؤساء لفيكتور هيجو،كانت ترجمة بيروتية صادرة في سلسلة عنوانها (روايات اليوم)، اشتريتها بالقروش الخمسة ومضيت إلي البيت سعيدا، التهمت صفحاتها،ومازلت أذكر شعرا ورد علي لسان جان فالجان إثر سقوطه في أحداث ثورة باريس:
سقطت بوجهي إلي الثري
وداعا رفاقي إلي الملتقي
كان ذلك أول كتاب اقتنيته،وقد فقد مني فيما بعد، ولكن قراءاتي الأولي بدأت من مكتبة المدرسة، مدرسة عبد الرحمن كتخدا الابتدائية،ومدرسة الحسين الإعدادية .
من مكتبة المدرسة قرأ الغيطاني مجلدات مجلة "سندباد"التي كان يصدرها محمد سعيد العريان،وهي مجلة كانت مرموقة ومقروءة ومؤثرة،وكان شعارها "مجلة الأولاد" في جميع البلادن، وكان يخرجها ويصنع رسوماتها الفنان الكبير "حسين بيكار"، بما في تلك الرسوم من حمولات خيالية مدهشة للسندباد العظيم في ذهن الأولاد الصغار، كما قرأ الغيطاني كافة الكتب التي كانت تحملها رفوف المكتبة المدرسية.
وكانت خطي جمال الاولي في تعرّفه علي عالم الكتاب خارج أسوار المدرسة، عندما قادته خطاه إلي الشيخ تهامي،والذي جاء من أسوان ليدرس في الأزهر،ولكن ظروفا ما عاقته، ولم يكمل دراسته،واحترف بيع الكتب القديمة،وكان مقره الدائم فوق الرصيف الذي يجاور باب الأزهر الرئيسي،وكان يضع كتبه الكثيرة المتنوعة أمام المارة، ليكون الفتي الصغير أحد هؤلاء المارة.
من مكتبة الشيخ تهامي القابعة علي الرصيف، قرأ الغيطاني معظم الروايات المترجمة،وانبهر بشخصية أرسين لوبين، ذلك اللص الشريف الذي كان يسرق من الأغنياء ويعطي الفقراء، وأرسين لوبين كان كثيرا ما يداعب خيالات الأطفال، والفقراء منهم علي وجه الخصوص، ولكن الغيطاني صنع له وجها وملامح، لدرجة أنه حلم بإنشاء جماعة سرية تهتدي بما كان يصنعه أرسين لوبين.
وبعيدا عن الروايات المترجمة، عرّج الغيطاني علي الكتب العربية لجورجي زيدان، ثم ملحمة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة، وتغريبة بني هلال، وطبعا ألف ليلة وليلة، وتلك الأخيرة أصبحت شاغلة له علي مدي طويل من الزمن، وظل يبحث عن طبعاتها المختلفة، وعندما كان رئيس تحرير سلسلة "الذخائر"، نشر بعض تلك الطبعات، وقد سبّبت له مشاكل رقابية، وتعرضت لمنع رقابي سافر، مما دفع جمال الغيطاني للدفاع عنها بكل مايملك من معلومات وقدرة علي إيراد تلك المعلومات في سياق ثقافي مستنير، وبالطبع أوصلت هذه القراءات الفتي إلي كتب ومجلدات التاريخ للطبري والمقريزي وابن إلياس، وغيرهم، تلك الكتب التي ظلت ملهمة له طيلة حياته الإبداعية.
بدأ جمال الكتابة كما كتب وقال وصرّح في شهاداته المتنوعة، في أواخر عام 1959، وكان متأثرا بكل الكتابات التي قرأها، وكذلك الحكايات التي كان يحكيها الوالد له، وكانت قصته الأولي عنوانها "السكير"،وهذا عنوان كتبه ديستوفيسكي لإحدي رواياته، وسرعان ما تخلص جمال من الآثار التي لحقت بسردياته القصصية،وبدأ يكتشف شخصيته الفنية والقصيية، فنشر بعض قصصه الأولي في مجلة "بناء الوطن"، ثم في جريدة "المحرر اللبنانية"، وكانت القصة الأكثر بروزا،نشرها ضمن عدد خاص أعدته مجلة "القصة"،وكان عنوانها "أحراش المدينة"، وكان ذلك في يونيو 1965،وعلّق علي القصة الناقد الدكتور علي الراعي، وكان ذلك التعليق، هو أول نقد يكتب عن قصص جمال الغيطاني، وكان تعليق الراعي،لطيفا ومشجعا ومتنبئا لذلك الشاب بمستقبل واعد، لولا أنه ذكر بأن القصة متأثرة برواية "الطريق " لنجيب محفوظ، وهذا دفع الغيطاني ليردّ ردا حادا في العدد التالي، وكان الردّ في رأيي نوعا من الدفاع الذي رآه جمال ضروريا لكي ينفي عن نفسه، مااعتقد أنه اتهام جارف.
وجدير بالذكر أن الدكتور علي الراعي نفسه، كتب نقدا لإحدي قصص الغيطاني فيما بعد،وهي قصة "أرض..أرض"، والتي نشرت في مجلة "صباح الخير" في يناير 1970، وأعاد نشرها جمال الغيطاني كمقدمة للمجموعة التي حملت العنوان نفسه، وبعد تحليل مستفيض للقصة، أنهي الراعي مقالته قائلا :"كان من أسباب فرحي بهذه القصة، ماتخلف لدي من إحساس عقب قراءتها بأن أيدي الشباب قد أخذت تصل إليها الرسالة الفنية أخيرا، وأن هذه الأيدي لم تكتف بتسليم الرسالة،بل مضت خطوات في سبيل التعبير الفني الناضج عن الثورية،ويمضي بها ليحقق المزيد من الإنجازات ..باختصار شديد،أنا سعيد".
كان جمال الغيطاني يعيش حالتين من الألم،ليصاحبهما نوع من المقاومة العنيدة، الحالة الأولي تتعلق بوضع الأسرة الفقيرة، وكان حلم الوالد الجنوبي،والذي جاء من محافظة سوهاج، لا يتجاوز حلمه إلا أن يستر الأولاد، وظل يحلم بعناد، وقد ورث الابن ذلك العناد بقوة، فبعد أن أنهي دراسته الإعدادية، التحق بمدرسة الصنائع "قسم النسيج"، وعمل في الجمعية الصناعية لمنتجات خان الخليلي، ومن خلال ذلك العمل تعرّف الغيطاني علي فئة من الحرفيين، لم يكن التعرّف عليهم واردا خارج هذا العمل، ومنهم عاش وعرف قصصا عديدة عن هذه الفئة، هؤلاء الحرفيون الذين ينتجون الصناعات اليدوية،والتي تحمل في صناعاتها التراث الشعبي لمنطقة خان الخليلي، وظل جمال يتقلب في أعمال النسيج المتوسطة، وكانت تلك الأعمال تلتهم منه أوقاتا كثيرة، فكان بعناده الكبير، وشغفه بالقراءة يظل طوال الليل يسهر علي القراءة، ليكوّن ثقافته بشكل عصامي.
أما الألم العام، فهو الظروف التي قبض عليه فيها في أكتوبر عام 1966،وخرج في مارس 1967، ومورس عليه أقسي أنواع التعذيب، كان يزامله في الاعتقال حشد من المثقفين،ضم هذا الحشد رفاقا من الشباب في ذلك الوقت، ولكن السبل المختلفةفيما بعد فرّقت ذلك الحشد،وربما صاروا يشبهون الأعداء، من هؤلاء صلاح عيسي وغالب هلسا وسيد خميس وسيد حجاب وصبري حافظ وابراهيم فتحي وغيرهم، وتحدث الغيطاني في مؤتمر عن أدب السجون عن تلك التجربة، وجاء في تلك الشهادة "في يوم من الأيام بدأ سحبنا اثنين اثنين علي المعتقل، وعندما جاء عليّ الدور تم ترحيلي أنا والدكتور صبري حافظ في عربية، وقد لمحت الخطاب الذي رحلنا به "ترحيل المجرمين الخطرين فلان وفلان تحت الحراسة المشددة"،فأصبحت طوال الوقت أقول "أنا خطير"،المهم طوال الطريق من طرة إلي القلعة كنت أودّع الأشياء،كنت أشاهد الشارع وكأني لن أراه مرة أخري".
كانت إذن تجربة الاعتقال في غاية السوء،ومن المعروف أن جريدة الأهرام كانت قد وجهّت دعوة إلي الفيلسوف جان بول سارتر إلي القاهرة، باقتراح من الكاتب لطفي الخولي، ولكن سارتر وافق علي الزيارة، ولكنه اشترط أن يأتي بعد الإفراج عن أي معتقلين سياسيين، وبالفعل تم الإفراج عن ذلك الشباب.
وخرج الغيطاني ابن الاثنين والعشرين عاما،وهو يحمل علي كاهله، تجارب ثقيلة جدا، وبدأ يبحث عن شكل فني ليعبّر به عن تلك التجارب الخاصة والعامة، حيث إن التجارب القاسية دوما،ماتكون ملهمة للكتّاب والأدباء والمبدعين، فكتب قصصه التي ضمتها مجموعته الأولي "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، والتي صدرت عن سلسلة كتاب "الطليعة"، وقد شاركه في إصدار تلكعالم هذا الشباب ..عالم لا يدرك أبعاده الثورية إلا هم وحدهم،عالم يأخذ من منجزات الماضي السلسلة الكاتبان محمد يوسف القعيد، وسمير محمد ندا، ولاقت المجموعة كثيرا من الاحتفاء الإيجابي الواسع، فكتب النقاد محمود أمين العالم وابراهيم فتحي وعبد الرحمن أبوعوف ومحمد عودة وغيرهم،وكانت قصة " هداية أهل الوري لبعض مما جري في المقشرة"،وكان جمال في كل قصص تلك المجموعة، يحاول البحث عن تقنيات جديدة فنية، وعن طرق أخري بعيدة نسبيا عن التيمة الموباسانية، التي تجعل للقصة بداية ونهاية ولحظة تنوير، وغير ذلك من أشكال وبنيات،فكان التاريخ هو التكأة التي اعتمد عليها جمال في أمثولته الفنية عموما، فزعم الراوي بوجود مخطوطة قديمة في خزانة الكتب بأحد الجوامع القديمة بالجمالية، وزاد الراوي إدهاشا للقارئ بأن تلك المخطوطة مثيرة للغرابة، فهي لا تمت للفقه أو الشرع بأي صلة، ولكنها تتحدث عن ذكريات آمر السجن الذي عرف في عصور المماليك الغابرة باسم المقشرة.
وهكذا نجح جمال في اكتشاف تيمة فنية جديدة، يستطيع من خلالها أن يدفع قارئه لاكتشاف التاريخ المدهش، وكذلك ليسرد حديثا عن السجن، ربما يشبه الحديث عن سجن معاصر هو قد عاشه من قبل، وقد نشرت القصة في عدد ابريل عام 1969من مجلة جاليري 68،
وعلّق عليها الناقد الكبير ابراهيم فتحي وغالب هلسا في العدد نفسه، ولكن صدور المجموعة القصصية، جعل من جمال الغيطاني أحد صنّاع السرد العظام في جيل الستينيات.
وكما جاءت قصة أهل الوري، وقصة أوراق شاب عاش منذ ألف عام، معبرتين عن عين التاريخ التي تدرس الواقع المعاصر،جاءت قصة "أيام الرعب"، وهي تقريبا سيرة لما حدث للكاتب نفسه، فالمعلومات التي يوردها الكاتب عن بطله "محروس فياض سلامة" تنطبق علي جمال الغيطاني نفسه، إذ أن ذلك البطل من مواليد 9 مايو 1945، ويدين بدين الإسلام، ويعمل رساما بالمؤسسة العامة، ومحلا الإقامة "الجمالية، كفر الطماعين"، وكل هذه المعلومات تخص الغيطاني نفسه،وفي هذه القصة نجد الاهتمام الأول للغيطاني بفكرة المكان بشكل أوسع نسبيا مما سبق،وكذلك سرد مايحدث في حارة كفر الطماعين،هذه الحارة التي أصبحت فيما بعد "حارة الزعفراني"، والاهتمام بالحارات أساسا موضوع محفوظي محض،ولكن حارة الغيطاني تختلف عن حارة نجيب محفوظ، فالغيطاني مشغول بالتفاصيل الاجتماعية للأفراد في الحارة،كمكون رئيسي للمجتمع المصري، ولا تحفل شخصيات الغيطاني مثلما يحدث عن شخصيات محفوظ،حيث يحاول محفوظ التأريخ للتطور المجتمعي من خلال تاريخ الحارات.
وكما أسلفنا، كانت مجموعة "أوراق شاب" للغيطاني، هي جواز المرور الأهم الذي فتح للغيطاني سطوعا عاليا في سماء الأدب والسرد.
وهناك بعد يدركه كل من اقترب من الغيطاني،ومن عالمه، ومن كتاباته، فهو دائم الاحتفال بكافة الظواهر التي تركت أثرا فيه، كذلك الشخصيات التي لعبت دورا معه، وبرز ذلك البعد في تلك المجموعة، إذ أنه أهدي تلك المجموعة إلي "صديقي الفنان عبد الفتاح الجمل، الذي أعطي الفرصة لجيلنا"، وهو بذلك يضع تقديرا لذلك الجندي المعلوم في ذلك الوقت، خلف كل أبناء جيل الستينيات، والذي فتح بوّابة جريدة " المساء" ليحتضن كل الكتّاب الذين شكلوا ظاهرة جيل الستينيات .
كما أن الغيطاني احتفي بشيخه وأستاذه نجيب محفوظ، وجالسه كثيرا في كل الأماكن التي كان يتنقل فيها، ثم أجري معه حوارا بحجم كتاب، هو كتاب "نجيب محفوظ يتذكر"، وهو من أجمل ماكتب بصدد الحوارات المحفوظية الكثيرة، ثم ضم إليه ما أسماه بالمجالس المحفوظية، لتعد تلك الحوارات والمجالس والكتابات، أحد المراجع المهمة في التعرف علي نجيب محفوظ، وكذلك الغيطاني نفسه، حيث أنه يحكي كيف التقي بنجيب محفوظ، وعلي شاكلة هذا الكتاب جاء كتابه عن مصطفي أمين ثم توفيق الحكيم، ولم ينس الغيطاني أحدا من الذين رآهم وتأثر بهم،وله شهادة بديعة عن يحيي حقي يكتب عنه قائلا :"هذا الفنان الرقيق، المتوهج الحي، الانساني، ولحسنأ حظي أنني عرفته منذ بداياتي الأولي، ربما كان ذلك في الخامسة عشرة من عمري، أرسلت إليه قصصا ورسائل إلي 27 عبد الخالق ثروت، عنوان مكتبه عندما كان يرأس تحرير مجلة "المجلة، وتلقيت عليها كلها ردودا،مازلت أحتفظ ببعضها كوثائق نادرة".
كان جمال يكتب شهاداته دون أن يخشي لومة لائم، حتي أنه كتب مقالا جريئا عنوانه "عم شعراوي"، هذا المقال كتبه ونشره بعد رحيل شعراوي جمعة وزير الداخلية أثناء العهد الناصري، وقد كان شعراوي جمعة علي علاقة طيبة بالمثقفين، وعلي رأسهم محمود أمين العالم، وبالتأكيد كان كثير من المثقفين علي خلاف مع تلك العلاقة، ولكن جمال الغيطاني كتب شهادته التي يعطي الرجل بعض حقه بعد رحيله، هذا الحق الذي أهدر في حياته.
وجمال الذي كتب تلك الشهادة، هو الذي كان عضوا في هيئة تحرير مجلة"أدب ونقد" منذ عددها الأول في يناير عام 1984،وكان اسمه يجاور دعبد العظيم أنيس
ود. لطيفة الزيات والفنان بهجت عثمان، وكانت المجلة ومازالت تصدر عن حزب التجمع اليساري، والذي كان آنذاك من أشد المعارضين لسياسة الدولة، ولم يخش جمال انضمامه لمستشاري التحرير الخطرين، بل كتب في العدد الثاني في فبراير 1984 مقالا شديد اللهجة في انتقاد السياسة الثقافية الرسمية، وكان عنوان مقاله "الواقع الأدبي بين الحقيقة والزيف"، ووجه نقدا شديدا إلي تلك الدولة التي تقتل الإبداع والمبدعين.
وعندما تولي الغيطاني مسئولية رئيس التحرير في صحيفة "أخبار الادب"، لعب دورا في غاية الأهمية لاحتضان مواهب صاعدة، أصبحوا نجوما ساطعة الآن في عالم الأدب والثقافة .
هذا غيض من فيض، فالحديث عن الكاتب الكبير جمال الغيطاني، يحتاج بالفعل إلي مساحات أوسع لمسيرته الطويلة والعميقة، حتي نستطيع أن نوفي حقه في الدرس والنقد والقراءة علي مهل، وليس أقل من مؤتمر كبير تعقده وزارة الثقافة في أقرب يوقت لكي ندرك ويدرك الآخرون قيمة ذلك الطود الذي هوي، وكان مازال يعطي حتي قبل غيبوبته الأبدية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.