في ظل الإنهيار الذي نلاحظه علي أداء الأساتذة الأكاديميين في الجامعات المصرية،وتسلل كافة أشكال السوء في التعليم الجامعي، كذلك السرقات بمختلف أنواعها،سرقة الأبحاث، ثم سرقة الطلّاب، ثم الأفكار التي يرسلها بعض هؤلاء الأكاديميين ليلا ونهارا في قدس أقداس التعليم،أي مدرجات العلم،ولا مجال هنا لاستدعاء أو وصف ما يحدث في الجامعة، والإحباطات التي تتسلل إلي كافة فئات المجتمع،التي تنتظر إصلاحا تعليميا يأتي من الجامعة،وكل هذا "كوم"، والتكالب الذي ظهر علي أساتذة الجامعات،تكالب كثير من منهم بدأ يغازل السلطة بأشكال واضحة،حتي يكون واحدا منهم،ومحاولات التقرب من الوزراء،لكي يجد الواحد منهم مكانا له علي رأس إحدي المؤسسات،أو علي الأقل يسعي لكي يشغل منصبا قياديا فيها،وربما هذا المنصب يقوده في المستقبل إلي مقعد الوزير،وللأسف هذه الآفة،بدأت تنتشر بشكل مريب،ونحن لا نعدم وجود هؤلاء السادة الآن في تلك المناصب،بعد صراعات مريرة،وربما مهينة أيضا. في ظل كل ذلك،وما شابهه،يشعر المرء بمدي وجع الفقد لإحدي الأكاديميات الفضليات،أقصد الدكتورة ثناء أنس الوجود،أستاذة الأدب العربي بكلية الآداب،جامعة عين شمس،هذا الوجع الذي أصاب جمهرة من الباحثين والمثقفين والطلّاب وكل من التقوا مع هذه الناقدة العالمة والحالمة،والتي تركت أثرا إيجابيا مذهلا لدي قطاع واسع من المثقفين والمبدعين والكتّاب،هؤلاء الكتّاب الذين استمعوا إليها هنا أو هناك، وتحاوروا معها في وجهات نظرها الواضحة والثاقبة،وهي لم تكن متعصبة لما تذهب إليه من أفكار وآراء نقدية،بل كانت تناقش الجميع في تواضع العلماء،ومن الممكن أن تعدّل من وجهة نظرها ببساطة ودون عقد،لو رأت أنها تحتاج إلي تعديل. تخرجت د. ثناء من الجامعة عام 1977،وحصلت علي رسالة الدكتوراة عام 1983، ثم علي رسالة الدكتوراة عام 1986، واختارت أن تتخصص في الأدب الشعبي،وترأست رئاسة قسم اللغة العربية دورتين متتاليتين،وهذا أمر يحسب لها،إذ يشهد لها كل من عمل تحت إشرافها،أو ناقشته،كانت الجامعة محرابها الأول،ومقصدها الأهم،ولم تضبط متلبسة بالتحايل علي هذا،أو النفاق علي ذلك، لكي تحصل علي منحة أو بعثة أو علي منصب في أي مؤسسة،ولكنها كانت زاهدة في ضرب مثال محترم للأستاذ الجامعي،وربما يكون هذا الأمر عمل علي تعطيل نشر كل إنجازاتها النقدية في كتب،رغم ماصدر لها من كتب نقدية،مثل "تجليات الطبيعة والحيوان في الشعر الأموي "عام 1991،و"رمز الأفعي في التراث العربي" عام 1991،و"دراسات تحليلية في الشعر العربي"عام 2000،و"ورمز الماء في الأدب الجاهلي" عام 2000،و"رؤي العالم عند الجاهليين،قراءة في ثقافة العرب قبل الإسلام" عام 2000،هذا عدا البحوث والدراسات والمقالات التي كانت تنشرها في دوريات مصرية وعربية. وقبل أن تحصل علي رسالتي الماجستير والدكتوراة،عملت مع أستاذها الدكتور والناقد الراحل الكبير عز الدين اسماعيل في مجلة "فصول" النقدية،وكانت تشرف علي باب "رسائل جامعية"،عدا بعض ماكانت تكتبه للمجلة بين الحين والآخر،وكانت تعرض في كل عدد من المجلة،وكانت عروضها ومناقشاتها للرسائل الجامعية،يأتي في لغة سلسة وواضحة،وعميقة في الوقت ذاته،ففي أبريل عام 1981،وكانت تعرض الرسائل الجامعية بشكل موضوعي،لا يحتمل إطلاق صفات سلبية أو إيجابية،بقدر مايتمتع بالحيادية العالية، ففي هذا العرض،تعرضت ثناء لثلاث رسائل جامعية في جامعات مختلفة،وتلك الرسائل كانت عن المسرح،ومن خلال قراءة عرض ثناء، يكون القارئ قد حصل علي فكرة أولي عن الراسائل،تلك الفكرة التي تحرّض القارئ علي التعرّف علي فحوي الرسائل كاملة،وهي تقول في بداية عرضها :"تلتقي مجموعة الرسائل التي يطرحها هذا العدد في أنها تعالج جميعا موضوع المسرح المصري،سواء أكان هذا المسرح شعرا أم نثرا،وتلتقي كذلك في أنها قضية توظيف التراث في المسرح،ذلك أن هناك رسالتين تتخذان من مسألة توظيف التراث في المسرح عنوانا صريحا لهما،أما الرسالة الثالثة فقد اتخذت من أحد رواد المسرح الشعري موضوعا لدراسة نقدية "،هكذا تضع أنس الوجود مايشبه التمهيد للرسائل التي تعرضها،ولا تكتفي بالعرض،ولكنها تضع عدة ملاحظات موضوعية وعلمية علي المنهج والأسلوب والمراجع التي تعود إليها الرسائل،ويدلّ هذا العرض علي المجهود الذي كانت تبذله ثناء في الإلمام العميق بتلك الرسائل. وفي العدد الخاص الذي أصدرته مجلة "فصول" بعد رحيل الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور،كتبت ثناء عرضا شيقا لإحدي الرسائل التي تناولت مسرح صلاح عبد الصبور،وكان عنوان الرسالة "مسرحية الشعر الحديث في مصر"،عن بداياتها وتطورها حتي تصل إلي أبهي وأعمق مظاهر التطور علي يد صلاح عبد الصبور،وكان صاحب الرسالة هو الباحث أسامة ابراهيم أبوطالب "أسامة أبوطالب"، وقبل أن تعرض ثناء للرسالة، قدّمت عرضها بكلمة عن مسرح عبد الصبور قائلة :"تحمل أرض صلاح عبد الصبور المسرحية أكثر من نبتة،إذ هي تحظي بتنوع واضح، وإن كان هذا لا يسقط السمات المشتركة،والملامح العامة للعالم الفني لديه،إن كل تجربة جديدة تحمل شكلا من أشكال الاختلاف عن سابقاتها،وهو اختلاف تلعب الرغبة في الابتكار وطرق عوالم فنية جديدة الدور الأساسي في استكشافه وإعطائه صفة الجدة"، وتستطرد أنس الوجود في تقديم العرض،ثم تعمل علي فحص الرسالة بأسلوبها الرشيق والممتع. وبعيدا عن العمل الجامعي،والذي ضربت فيه ثناء مثالا نموذجيا للاستاذ الجامعي،وبعيدا عن الأبحاث والدراسات المرتبطة بشكل أو بآخر بالجامعة،فإنها كانت تشارك في معظم المنتديات الحيّة والفاعلة،ولم تكن تبخل بجهودها علي الكتاب والمبدعين بأي صورة من الصور،وكان من المعروف أنها كانت تذهب إلي كل هذه المناقشات الأدبية بمحبة خالصة،دون انتظار أي مقابل،ولم تكن تنتقي الأماكن البرّاقة أو الرسمية،ولكنها كانت تذهب إلي الأتيليه وحزب التجمع وورشة الزيتون،ولا تمتنع عن مناقشة شاعر شاب في أول إصدار له، ولا تمتنع عن مناقشة كاتب مجهول بالنسبة لها،إذ كان النص هو الفيصل بالنسبة لها،وكانت تقول كل ماعندها بوضوح وبدبلوماسية معهودة فيها،حتي لوكانت لها ملاحظات سلبية خاصة بالنص الذي تناقشه،وكان الجميع يتقبل كل ماتقوله من ملاحظات سلبية حول النصوص،ولا شئ سوي ضميرها،ومنهجها العلمي المحترم. وكنا ندعوها دوما في ورشة الزيتون لمناقشة دواوين الشعر والروايات والمجموعات القصصية،لقد ناقشت كثيرا من الشعراء مثل محمود الشاذلي وحسن توفيق وميسون صقروفتحي عبد السميع ورانا نزّال،وكذلك ناقشت روائيين مثل عزة رشاد ومحمد ابراهيم طه ومنصورة عز الدين وعمار علي حسن ومحمود الورداني وآخرين،وقدّمت مداخلات نوعية بامتياز. كما كانت تشارك في المؤتمرات العامة،وقدّمت عددا من الأبحاث المتميزة قي تلك المؤتمرات،!أذكر منها بحثها المتميز الذي قدمته في مؤتمر عن أدب السجون،وذلك في مركز البحوث العربية والافريقية عام 2009، وكان عنوان البحث "عطر الزنازين..قراءة في نماذج مختارة من كتابات المثقفات المصريات الروائية خلف السجون "،وأهدت هذا البحث إلي "كل مثقفة مصرية اقتحمت في جسارة مساحات المسكوت عنه،والمقموع،وواجهت التابو،رافضة الاستلاب والتهميش،فتضوعت القضبان يوما ما بأريج أنفاسها وقطرات عرقها الثائر". أما البحث نفسه،فكان دراسة رصينة لأدب السجن،الذي أبدعت فيه كاتبات مصريات عبر أزمنة وتجارب مختلفة. ثناء أنس الوجودة ناقدة وأكاديمية رفيعة المستوي،ومن طراز خاص،أتمني أن تري كتاباتها المتناثرة مجالها في النشر.. وداعا صديقتي العزيزة،ولا أجد سوي كلمات أمل دنقل في وداعك،والتي يقول فيها: (كل الأحبة يرتحلون وترحل،شيئا فشيئا عن العين ألفة هذا الوطن).