رئيس جامعة الدلتا التكنولوجية يتابع سير اختبارات الدور الثاني    عبد الصادق الشوربجي: زيادة بدل التدريب والتكنولوجيا تعكس تقدير الرئيس لدور الصحافة المصرية    معركة كشف الزيف    ضبط 300 ألف بيضة فاسدة تحتوي على دود وحشرات في الغربية    محمود عصمت: شراكة "أميا باور" نموذج يحتذى به في مشروعات الطاقة    محافظ الغربية ووزير الري يتفقدان مجرى نهر النيل فرع رشيد    المندوبة الأمريكية بمجلس الأمن: الحرب يمكن أن تنتهي إذا تركت حماس السلاح    حدود الدور الأمريكى فى حل أزمة غزة    كريستال بالاس يتوج بلقب الدرع الخيرية على حساب ليفربول    أيمن صلاح: منتخب ناشئي اليد يستهدف التتويج بالمونديال    حظر «تيك توك»    جهود دبلوماسية.. مصر تستعيد كنوزها من قلب أوروبا    مهرجان شرم الشيخ للمسرح يطلق استمارة المشاركة في مسابقات الدورة العاشرة    بسنت شوقي تجرب "حمام الثلج" لأول مرة: "مستحيل أعمله في مكان أحلى من الساحل"    «الصحة» تنظم زيارة لمستشار الرئيس الكولومبي لتفقد منشآت طبية    بدء اختبارات المرشحين للعمل بالأردن في مجالات اللحام وتصنيع وتركيب هياكل معدنية    بحوزته كمية كبيرة من البودرة.. سقوط «الخفاش» في قبضة مباحث بنها بالقليوبية    البورصة تتلقى طلب قيد شركتى جيوس للمقاولات واعمل بيزنس للتدريب    بروتوكول تعاون بين البنك الأهلي المصري وشركة "بيرنس كوميونتي"    تسجيل منتجي ومالكي العلامات التجارية حسب «الرقابة على الصادرات والواردات»    الداخلية تكشف ملابسات واقعة التعدي على صاحب محل بشبرا الخيمة    محافظ بورسعيد يستقبل الطفلة فرح ويعد بفتح حساب التضامن فى اسرع وقت    زلزال بقوة 3.7 ريختر يضرب عاصمة مدغشقر ويثير قلق السلطات    الجوازات والهجرة تواصل تقديم خدماتها للمترددين عليها    تفاصيل انتهاء المدة المحددة للتظلم على نتيجة الثانوية العامة 2025.. فيديو    حبس المتهم بإلقاء ماء نار على طليقته فى الوراق    قطع المياه فى مدينة نبروه بالدقهلية غدا لمدة 12 ساعة لإصلاح تسريب بالمنطقة    فلوريان فيرتز يتوّج بجائزة أفضل لاعب ألماني لعام 2025    "كيف وأين ولماذا مات؟!".. محمد صلاح يهز عرش الاتحاد الأوروبي بتساؤلات جريئة حول استشهاد بيليه فلسطين.. صحف العالم تحتفي بشجاعة "الفرعون" فى مواجهة يويفا.. و800 شهيد حصيلة جرائم الإبادة الإسرائيلية بحق الرياضيين    مصادر إسرائيلية: ترامب يضغط لمنع احتلال قطاع غزة والتوصل إلى صفقة    تفاصيل لقاء أشرف زكى مع شعبة الإخراج بنقابة المهن التمثيلية.. صور    فى انطلاق ملتقى "أهل مصر".. 8 ورش إبداعية استكمالا لمسيرة دعم وتمكين المرأة    الإمارات ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا    إصابة 6 أشخاص بينهم طفلة بإطلاق نار جماعى فى بالتيمور الأمريكية    التعليم العالى: براءة اختراع جديدة لمعهد تيودور بلهارس فى إنتاج بروتينات علاجية    الصحة: حملة "100 يوم صحة" قدّمت 38.3 مليون خدمة طبية مجانية خلال 25 يومًا    تحرير 125 مخالفة عدم الالتزام بغلق المحلات خلال 24 ساعة    النصر السعودي يتعاقد مع مارتينيز مدافع برشلونة    بيلد: النصر يتوصل لاتفاق مع كينجسلي كومان.. وعرض جديد لبايرن    كهرباء الإسماعيلية يتعاقد مع لاعب الزمالك السابق    السيسي يوافق على صرف البدل النقدي المقترح من الحكومة للصحفيين    موعد إجازة المولد النبوي 2025 وأبرز مظاهر الاحتفال في مصر    لست قادرا على الزواج ماذا افعل؟.. يسري جبر يجيب    حكم قضاء المرأة الصلاة التي بدأ نزول الحيض في أول وقتها.. المفتي السابق يوضح    ملتقى المرأة بالجامع الأزهر: تجربة المدينة المنورة في العهد النبوي نموذجا يحتذى به في جهود النهوض بالأمة    أمين الفتوى يوضح حكم الصلاة أو الصيام عن المتوفى غير الملتزم وطرق إيصال الثواب له    ميكروباص يصدم 9 أشخاص على طريق كورنيش الإسكندرية (صور)    محاولة تفجير فاشلة.. محاكمة المتهمين في قضية «خلية المطرية الإرهابية»    سلامة الغذاء: حملات رقابية ميدانية استهدفت 333 منشأة غذائية الأسبوع الماضي    وزير الري يتابع حالة المنظومة المائية بالمحافظات وموقف إيراد نهر النيل    جيش الاحتلال يعلن اعتقال 70 فلسطينيا في الضفة الغربية    فران جارسيا يربح رهان ألونسو ويثبت أقدامه في ريال مدريد    في هذا الموعد.. علي الحجار يحيي حفلًا غنائيًا في مهرجان القلعة للموسيقى والغناء    مقتل 6 جنود لبنانيين بانفجار ذخائر أثناء محاولة تفكيكها في جنوب لبنان    حظك اليوم الأحد 10 أغسطس 2025 وتوقعات الأبراج    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في عطلة الصاغة الأسبوعية الأحد 10 أغسطس 2025    «لا أريد آراء».. ريبيرو ينفعل بعد رسالة حول تراجع الأهلي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسن فتح الباب .. شاعر من جيل الرواد
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 10 - 2015

في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي ،كانت تتنازع الحياة الأدبية وجهات نظر عديدة ،وكانت القصة القصيرة هي الجنس الأدبي المنتشر، وكان الأدباء القاصون يبدعون في هذا الفن إبداعا مرموقا ،مثل يوسف ادريس ويوسف الشاروني ومصطفي محمود وبدر نشأت وصبري موسي ومحمود السعدني وادوار الخراط وغيرهم، ولم يكن فن الرواية قد أخذ طريقه إلي المجد مثلما يحدث الآن، بينما تراجعت خطي الشعر قليلا للخلف ،أو علي الأقل لم يكن الشعر ينافس علي أن يتصدر الحياة الأدبية ،رغم وجود محمود حسن اسماعيل بقصائده العامرة والمفعمة بكل ماهو جميل ،وكان دوما حاضرا ،ولكن علي استحياء في ظل صدارة انتشار فن القصة القصيرة.
ولم يكن انحسار انتشار الشعر عائدا إلي عدم قدرته علي التجدد ،ولا عجزه عن تقديم تجارب باسقة في ذلك الوقت ،ولا إلي عدم قدرة الواقع علي منح الشعراء مساحات واسعة من التفاعل ،ولكن هيمنة أصوات مثل عزيز أباظة وعباس محمود العقاد وصالح جودت وغيرهم ،كانت هي الأكثر نشراً ،ولكنها لم تكن الأكثر تعبيراً ، الأكثر فناً ،وكانت المعارك تدور علي قدم وساق بين المدرسة القديمة بكل تجلياتها ،والتيارات الجديدة بكل أشكال تعبيرها.
وبقدر ماكانت المدرسة القديمة متمترسة عند حدود قديمة ومتهالكة ،كانت التيارات الجديدة تطرح رؤي وأشكالا مغايرة ومتفجرة بكل جديد، وكانت المدرسة القديمة تقف عند قلاع القصيدة الموزونة والمقفاة ،والتي تحركت قليلا ،ولكن في ذات إطار قصيدة مدرستي الديوان وأبوللو،ولم تستطع تلك القلاع أن تصمد أمام تيارات التجديد التي اجتاحت القصيدة العربية منذ قصائد "هل كان حبا" لبدر شاكر السياب ،وكذلك "الكوليرا" لنازك الملائكة ،و"بلوتلاند" للويس عوض ،و"رسالة من أب مصري إلي الرئيس الأمريكي" لعبد الرحمن الشرقاوي ،وغيرها من قصائد ،فضلا عن الرافد الشعبي الجديد لقصائد فؤاد حداد وصلاح جاهين.
كان صمود القلاع القديمة ، يقف خلف الهيمنة علي المنابر الرسمية ،وناصية الإعلام ،وكان العقاد يطلق صيحاته المفزعة لشعراء المدرسة الحديثة ،ولا يناقشهم فيما ذهبوا إليه من أشكال ومضامين متجددة في الشعر ،ولكنه كان يتهمهم بالشيوعية ،ويطالب بالقبض عليهم ،لأنهم يهددون البلاد ،وللأسف كان طه حسين يشايعه بشكل ما ،وكان يقف في وجه التيارات الجديدة ،ونحن بعد ستين عاما من تلك المعركة نستطيع تفهم ذلك ،ونقدر علي قراءة المقال الناري الذي كتبه طه حسين تحت عنوان "محنة الأدب"،علي الأقل ،فطه حسين لم يطالب بالقبض علي الشعراء مثلما طالب العقاد ،ولم يصل به الأمر لإصدار بيان بتحريم وتجريم الشعر الجديد كما فعلت لجنة الشعر في عام 1964،ولم يحاول إحالة الشعر الجديد إلي لجنة النثر كما فعل العقاد في المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب آنذاك.
إذن كانت قلاع المدرسة الجديدة تتهاوي ،وتتكسر أمام آلات العزف الشعرية الحالمة والآملة في مستقبل جديد ،آملة في شعر يعبّر عن روح جديدة ومتنوعة بدأت تدب علي الأرض العربية ،فبعد الرواد الأوائل مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولويس عوض ، راحت تتنفس أصوات جديدة مثل خليل حاوي وعبد الوهاب البياتي وعلي أحمد سعيد "أدونيس"،وتوفيق صايغ وسلمي خضراء الجيوسي وفدوي طوقان ومحمد الفيتوري ومحيي الدين فارس وجيلي عبد الرحمن في العالم العربي ،وفي مصر ظهرت أصوات عفية وقوية مثل صلاح الدين عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وفتحي سعيد وفوزي العنتيل وعبده بدوي وكيلاني حسن سند وعبد العليم القباني وعبد المنعم عواد يوسف ونجيب سرور وحسن فتح الباب وغيرهم.
وجدير بالذكر أن تيارين كانا فاعلين بشكل واضح في الحركة الشعرية الجديدة ،التيار الأول كان ينادي بالتعبير عن الواقع بكل صوره المنتصرة والمشرقة ،وكان هذا التيار زاعقا في بعض تجلياته إلي حد ما ،وكانت أبرز تمثيلاته في جماعة شعرية أطلقت علي نفسها "الشعراء الزاحفون" ومنهم عبد المنعم عواد يوسف وابراهيم شعراوي وزكي مراد وغيرهم ،وكان التيار الآخر يسعي إلي الإنصات إلي الذات ، وقراءة الصور المنعكسة علي تلك الذات ،ونسجها في قصائد عذبة ،وكان محمد مندور يطلق علي ذلك التيار الثاني "الشعر المهموس"،وكان يعتقد أن هذا الشعر هو الأكثر صدقا والأكثر فنية والأكثر تعبيرا عن النفس الانسانية.
ولكن عندما واجهت البلاد في 29 أكتوبر 1956 الهجوم الكاسح الاستعماري،أقصد العدوان الثلاثي الغادر من فرنسا وانجلترا واسرائيل، اندمجت كل الأصوات ،وراحت تعبّر عن تلك اللحظة بطرق مختلفة ، وكتب صلاح عبدالصبور نفسه قصيدته "شنق زهران" تحت وطأة هذا الظرف ،وكانت بورسعيد هي قبلة العالم كله ،وجاءت الصحف والمجلات كلها متحدثة عن تلك المدينة التي كانت باسلة ،ففي ديسمبر عام 1956 كتب يوسف السباعي في مجلة "الرسالة الجديدة" افتتاحيتها تحت عنوان "القيمة الحقيقية لوقفة بور سعيد" ، وكتب قائلا :"لم تعد بورسعيد اسم مدينة ..لقد أصبحت عنوانا لكل قصيدة ..وموضوعا لكل وجه ، لقد باتت وحي كل شاعر وإلهام كل فنان ..لقد غدت أنشودة كل لسان..وهتافا علي كل شفة".
وكتب محمد مندور نفسه صاحب نظرية "الشعر المهموس" مقالا يمجّد فيه المقاومة ،وكذلك كتب عبد الرحمن الشرقاوي مقالا عنوانه "وإذن ... فلن يقف القتال"، وشارك أدباء عرب في مؤازرة المصريين في معركتهم العادلة ،فكتب منير بعلبكي من لبنان مقالا شديد اللهجة عنوانه "لن يمروا"،وكتب كذلك سمير صنبر "تحية إلي بورسعيد"،وكان نصيب الشعر وافرا وصائحا ،فكتب عبد الرحمن الشرقاوي قصيدته "يابور سعيد" وكذلك عبد المنعم عواد يوسف وفتحي سعيد ،وكتب الكاتب الشاب محمد حافظ رجب قصة عنوانها "أرض الدماء"،وهي قصة مجهولة ،لم تتضمنها أي مجموعة قصصية من مجموعاته.
وللشاعر المصري السوداني الشاب محمد الفيتوري دراسة تحت عنوان "الكتّاب في المعركة" ، وكتب يقول :"المعركة الوحشية الرهيبة ،التي خاضتها الشعوب العربية ،منذ صبيحة 31 أكتوبر الماضي ،ضد العدوان الاستعماري الصهيوني ،لم تكن في حقيقتها ،بداية معاركنا التاريخية ضد محاولاته للسيطرة علي أراضينا ،والاسبداد بمقوماتنا الحياتية ،والاستعمار الجشع اللانهائي لثرواتنا الطبيعية ،وخاماتنا ،واستغلال أسواقنا وأيادينا العاملة ،والإنهاك المادي المستمر لقوانا البشرية ...هذه المعركة التي لانزال نعيش في نطاقها ..إنما بدأت منذ عام 1882،عندما استطاع الاستعمار تثبيت أقدامه الملوثة لأول مرة في أرضنا الحرة الشريفة".
في ذلك الوقت بالتحديد ،والذي سادت فيه أجواء المعركة ،ظهر الشاعر الوطني حسن فتح الباب ،وكان ينشر قصائده في الدوريات الرسمية والمستقلة ،وفي أوائل عام 1957 نشر ديوانه الأول "من وحي بور سعيد" ،وآثر أن يكتب اسمه "يوزباشي حسن فتح الباب"، وكتب الكاتب والناقد اليساري محمود أمين العالم مقدمة نقدية ضافية للديوان ،وهكذا كان محمود العالم هو أول من قدم حسن فتح الباب للحياة الأدبية ،كما قدم من قبل الشعراء محمد الفيتوري وكيلاني حسن سند وجيلي عبد الرحمن ومحيي الدين فارس ،وجاء في مقدمته "إن شاعرنا إذن يؤمن أولا بالتاريخ ،يؤمن بحركته الصاعدة ،يؤمن بالتطور والتقدم ،وهو يؤمن ثانيا بالتطور إنما يتحقق بالصراع بين قوي التقدم وقوي التأخر ،وهو يؤمن ثالثا بأن الوعي الموضوعي سلاح ضروري لهذا الصراع ،وهو يؤمن رابعا بأن الحكمة مصدرها الجموع ،مصدرها الشعب ،وأن التقدم مرهون بنضال الجموع وبوعيها ، علي أن المستقبل في النهاية لها..بهذه المفاهيم واجه الشاعر قضية بورسعيد ،واحتضن أحداثها البطولية وغني بمعانيها الإنسانية والوطنية".
ولم يكتف الشاعر حسن فتح الباب بمقدمة نقدية واحدة ،بل جاءت مقدمة أخري في الديوان نفسه ،للكاتب والشاعر والروائي اليساري محمد مفيد الشوباشي ،وكان تقديم الديوان من زاوية ناقدين يساريين ،للشاعر الضابط ،ملاحظة لافتة للنظر ،ولكننا عندما ندرك أن المعركة الوطنية كانت تستقطب كافة الأقلام الوطنية ،فسوف تزول دهشتنا.
وربما يكون تركيزنا علي هذا الديوان الأول ،نوعا من لفت النظر للمسيرة الوطنية التي سار فيها شاعرنا الوطني حسن فتح الباب لستة عقود متتالية ،وكان سبّاقا دائما للتعبير شعرا ونثرا وحضورا في كل المناسبات الوطنية ،وكان شعره دوما تعبيرا عن تلك المناسبات ، وكان يؤثر تخليد تلك المراحل وأحداثها وشخصياتها وكافة المفردات التي كانت العناصر الرئيسية ،والمكونة للظاهرة الوطنية، لذلك كانت أولي قصائده في ذلك الديوان عن طفل بدت عليه بوادر الثورة ، وفي ذلك يقول شاعرنا :
(وساءلني في ابتهال الصغير
وقد أرعد الأفق من حوله
وغام الضياء
كأن السموات قد أطبقت
علي روحه الغضة الساجية
وريحا من الغيب ليست تري
تبدد أحلامها
وتلفظها بالضياع
وكانت تلون أيامه
وكان يغرد فوق الدروب
وفي كل ركن له ملعب
وجاء النذير)
وهكذا يسترسل فتح الباب في مفتتح الديوان، وفي قصيدته "صوت المعركة" ،لتهيئة قارئه لكي يدخل في الأجواء التي عاشها الشاعر ، وعبّر عنها في قصائده ،فكان بعد هذه القصيدة الافتتاحية الطويلة ،والتي صال وجال تحريضا وتأملا وسردا لوقائع التاريخ النضالية الدامية ،أن يكتب عن قائد المعركة ،والبطل الشعبي المظفر كما كتب في العنوان الرئيس جمال عبد الناصر ،وفي قصيدته "البعث"، وكتب يقول :
(رفاقي الأحرار ياشعب الخلود
علي ضفاف النيل
معبوده القديم
من عهد أوزيريس
يبارك الحياة بالنضال والجهاد
وينشد السلام
ويصنع التاريخ بالسواعد الشداد
وينبت الأبطال
لتهتدي بنورها الأجيال
وتشرق السماء في الوديان
بالحب والإخاء للخلان
والمجد للأوطان)
وهنا لا بد من لفت النظر إلي أن الشاعر آثر أن يوجه القصيدة للرفاق الأحرار ،ويكتب في القصيدة عن الجموع التي تصنع الظواهر الوطنية بشكل واضح وجلي ،وهذا لا ينفي بالطبع إجلاله لشخص جمال عبد الناصر ،لكنه راح لينظر له من خلال كافة الرموز التي استدعاها في القصيدة ،مثل أوزويريس وأحمس والنيل ، وبهذه المناسبة فهو ظل مخلصا لجمال عبد الناصر ولمرحلته ،ولم ينضم إلي الحملة الرديئة والمنافقة التي راحت تهاجم عبد الناصر وعهده.
وهذا الإخلاص لأن فتح الباب لم يتعامل مع الظاهرة الوطنية من خلال الأبطال فقط ،بل كان يعمل علي تمجيدها شعرا ونثرا من خلال الإنجازات الوطنية الفعلية ،لذلك كتب قصيدة "قصة القناة"،وقال فيها:
(في كتابي يا أبي الزاخر مابين السطور
برسوم خطّها التاريخ عن أرض الجدود
ووعتها الصفحات
قصة مازال في النفس صداها والشجون
ورفاقي لم يزالوا يذكرون
....
قال أستاذ لنا نحن الصغار
وبعينيه شعاع وظلال
كنجوم خفقت بين الغمام
وهو يروي الدرس في صوت كئيب
كالذي يعتاده هم قديم
أو مفيق من رؤي وهم عقيم
وبيمناه مشير
نحو سهم مارق بين الرمال
كتبوا فوق حوافيه "القنال").
إذن فالشاعر يضع الظاهرة الوطنية بكل تجلياتها ،من حيث الأشخاص الأبطال ،والأحداث والأماكن ،وكان التاريخ في كل ذلك حاضرا وماثلا للعيان ،ومتجسدا في الحاضر ،فلا ظاهرة وطنية دون جذور في التاريخ ،ولا ظاهرة إبداعية إلا وكانت لها صور وبذور قديمة ، وهنا يستكمل حسن فتح الباب أدوار الشعراء الذين كتبوا إبداعا في الظواهر الوطنية،وحتي عندما أصدر ديوانه "فارس الأمل" عام 1965 لم يكن استغراقا في شخصية الزعيم ،بقدر ماكان استشرافا للمستقبل ،وتلاه عام 1967 بديوان "مدينة الدخان والدمي"، وهو ديوان مشحون بالأسي والحزن والشعور بالدمار ،وبعده جاء ديوان "عيون منار" عام 1971، وكأنه لفتة طيبة شخصية تيمنا بابنته "منار"، وكان ديوانه "حبنا أقوي من الموت" عام 1975،تمجيدا لانتصار أكتوبر عام 1973،وقد فاز هذا الديوان بجائزة الدولة التشجيعية من مصر ،وكذلك بجائزة القدس من اتحاد الكتاب العرب عام 2002.
كل الدواوين التي نوهنا عنها سابقا ،كانت تصدر من القاهرة ،ولكن بعد مغادرة الشاعر مدينته القاهرة ،إلي الجزائر بعد حصوله علي الدكتوراة في القانون ،لكي يدرّس في جامعة "وهران" ،راحت دواوينه تصدر من عواصم عربية مختلفة ،فصدر ديوانه السادس "أمواجا ينتشرون" عن سلسلة ديوان الشعر العربي الحديث ببغداد ، ثم صدر ديوانه السابع "معزوفات الحارس السجين" عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ،ومن دمشق كذلك صدر ديوانه الثامن "رؤيا من فلسطين" ،ومن تونس صدر ديوانه التاسع "وردة كنت في النيل خبأتها"، وهكذا تتوالي الدواوين والدراسات وكتب الرحلات والسيرة الذاتية ،الدراسات الإسلامية ،وله كتاب جميل في السيرة الذاتية عنوانه "أسمّي الوجوه بأسمائها"، وفي هذا الكتاب يسرد فتح الباب سيرته الذاتية شعرا ،وقد عاد إلي ذلك اللون من الكتابة في ديوانه "سيرة ذاتية في قالب شعري ..حارة المجدلي"، تلك الحارة الشبراوية ،والتي حملت أول صرخة صدرت عن الشاعر ،ويقول الشاعر عن تلك الحارة في مقدمة الديوان "إن هذه الحارة هي مدرسة حياتي الأولي ،فيها نشأت وترعرعت بين أهلها علي اختلاف مهنهم ونزعاتهم ومصائرهم ،فمن بائع لبن ناصع الثوب والروح ،إلي عرّاف مشعوذ ،ومن المسحراتي الذي يتجول في الحارات والأزقة خلال شهر رمضان ،إلي جندي يستشهد دفاعا عن فلسطين ،ومن محام شهير إلي لص وتاجر مخدرات ،ومن ندابة (كودية زار) ،إلي صبية جميلة تعيش علي مفاتن جسدها ،وإلي أرملة في ريعان العمر في رقة الينوبوع وقوة الصخر"، ويظل يطرح فتح الباب مفردات الحارة التي كونته ، وألهمته الصور الشعبية والوطنية الأولي في قصائده.
وإذا كان الشاعر قد تحدث في المقدمة عن حارته نثرا ،فهو يحاول تخليد كافة عناصرها شعرا ، فيكتب عن شخصياتها البسيطة ، مثل وداد التي قال فيها /
(لم أدخر ذكري ليوم المعاد
غير بقايا من غرام شجي
بالوردة الممشوقة السمراء
في ليلة العرس وقلبي رماد
علي الذي كان الذي لم يكن)
("وداد"، يا أول عشق الصبي
وآخر الغمائم البيضاء
غابت سمائي والصبا ما اتأد
لنظرة ألقي بها في خفاء
لملتقانا في ضحي يالقمراء)
وكتب عن أحمد يوسف علي أفندي ،وعن الرفاعي الذي يستخرج الثعابين من جحورها ،وعن حسن علوان وعباس حسن وعبد الرحمن صدقي الشاعر الكبير ،وبالإضافة إلي الشخصيات الكثيرة التي كانت تضج بهم الذاكرة ، وتتحول إلي تفاعيل وبحور ، كتب الشاعر في سيرته الشعرية الموزونة ،عن فوانيس رمضان وباعة الترام ،وعندما دخل السينما لأول مرة ،وعن حبيبته الثانية "عواطف" ، وعندما خرج من حارته ،كتب شعرا عن من التقاهم من الأعلام في مقتبل حياته ، فكتب عن طه حسين وأحمد أمين وعلي الجندي وشاعر الأطلال ابراهيم ناجي ،ولذلك يعتبر هذا الديوان المفتاح الأول لفكّ مغاليق الشاعر العديدة.
ورغم أن الشاعر كتب في النقد والسيرة الذاتية والدراسات القانونية والأدبية ،والسير الغيرية عن قامات أدبية وفكرية ،مثل كتابه المهم عن الكاتب الظاهرة "محمد مفيد الشوباشي"، إلا أن الشاعر عاش بعيدا عن الأضواء منذ سنوات بعيدة ،وكان يكتفي بنشر نصوصه ومقالاته ودراساته في مجلات خارج وداخل الوطن ، وكان في فترة ما من حياته يحضر ندوة الناقد الراحل عبد القادر القط في كازينو غرناطة ، تلك الندوة التي كان يداوم علي حضورها كل يوم جمعة د مصطفي ناصف ود لطفي عبد البديع ود أحمد كمال زكي والشاعر عبد المنعم عواد يوسف ، رحمهم الله جميعا ، ورحم الله شاعرنا الوطني حسن فتح الباب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.