بين القانون والعرف والواجب من ناحية، وحدود الإبداع الفكري والدرامي من ناحية أخري؛ فجوة كبيرة خلفت الكثير من الصراعات التي تعج بها الساحة الفنية والأدبية والقضائية هذه الأيام، طرفان كل منهما يدعي أنه صاحب حق، فهناك أهل الأدب والفن الذين يعتبرون أن كل صاحب أثر في المجتمع سواء كان سياسيا أو فنيا وغيره هو ملكية عامة يحق لهم تناولها أدبيا أو دراميا، بينما أسرة أو عائلة أي من هؤلاء لا يعترفون بتلك الفكرة ويعتبرون أنفسهم أصحاب الحق الأصيل كورثة، وبين هذا وذاك تبدو وجهتا النظر وجيهتين، ولكن هل كل شخصية عامة يمكن تناولها دراميا؟ وما معايير ذلك؟ والحدود التي يجب ألا يتخطاها القائمون علي هذه الأعمال الأدبية والدرامية حتي تصل جميع الأطراف إلي نقطة تلاق واتفاق. نشرت مؤخرا جريدة الشرق الأوسط سلسلة من المقالات تحت عنوان "مذكرات وسيرة فاتن حمامة"، اعترضت عليها أسرة الفنانة الراحلة ونفت صحة تلك الكتابات، وهو ما رجحه الناقد طارق الشناوي مشددا علي ضرورة ذكر مصدر هذه المذكرات والأدلة علي صحتها، قائلا: "واضح من السياق التاريخي أنها في الخمسينيات، لأن كاتبها توقف عند زواجها من عمر الشريف، لذلك كان عليه أن يحضر ما يثبت أقواله سواء مقالات قديمة أو تسجيلات، وهذا لم يحدث". وعن عملية النشر بشكل عام لما يخص الفنان أو الشخصية العامة، يوضح: "أنا أحترم حق الناس في النشر أو عدمه، فإذا ترك كاتب كبير مذكرات لكي تنشر يجب أن يتم ذلك، لكن آخر كتب شيئا خاصا لنفسه أظن أنه لا يجوز قانونيا أو أخلاقيا نشره، أما إذا تم نشرها في حياته فقد انتهي الأمر، ولكن هناك أمورا مالية تتعلق بالورثة والتعامل معهم لا يمكن أن نتحدث فيها، فأنا أعرف مثلا أن ورثة سعاد حسني حصلوا علي أموال عند تصوير مسلسل السندريلا، تلك حقوق مادية، أما الفنان؛ طالما نشر المذكرات فالأمر منته فنيا وأدبيا، لأن النشر هنا لا فرق فيه بين القراءة أو التصوير، بما أنه سمح بنشره سواء مسموعا أو مرئيا أو مقروءا". ويعد من أبرز أنواع التدخل والتعامل مع المذكرات أو السير الذاتية تحويلها لعمل درامي سواء تليفزيونيا أو إذاعيا أو سينمائيا، وفي ذلك هناك حدود لكاتب الدراما، ويشير إليها الشناوي: "لا يمكن للسيناريست أن يضيف شيئا مرحليا، فلو أن مثلا تحية كاريوكا تزوجت سيد حلاوة ورشدي أباظة وفطين عبد الوهاب، لابد أن يذكر ذلك، ولكنها أنكرت زواجها من محرم فؤاد؛ وكذلك هو فعل، ولا يوجد دليل قاطع علي الزواج، لا يجوز في هذه الحالة ذكرها دراميا علي أنها حقيقة، ولكن يمكن إضافة بعض الخيال، ومنها مثلا؛ أنها كان لها موقف مع عبد الحليم حافظ ووقفت معه في بداياته، قد يذكر الكاتب بخياله الدرامي موقفا لم يحدث يوضح من خلاله تلك الحقيقة ويؤكدها، دون أن تخدش المنطق، فهناك حدود للخيال ولكنه ليس ممنوعا، كما أن هناك فرقا بين القيمة الدرامية والقيمة الأدبية، فالأدبية مثلا أنه لا جدال في أن عبد الوهاب موسيقار عظيم، ولكن دراميا يمكن أن تكون حياة ريا وسكينة ثرية أكثر منه، وليست بالضرورة أن تتساوي القيمتان إلا في حالات محدودة، مثل أم كلثوم؛ التي تضمنت حياتها كثيرا من المنعطفات والصعود والهبوط". وفي تلك الحالة يكون للكاتب الدرامي الحرية في الحذف أو الإضافة بما لا يخل بالأساس، وفي ذلك مدرستان، حسبما يوضح الشناوي: "عندما كتب محفوظ عبد الرحمن مسلسل أم كلثوم، كان هناك موقف حكاه لي عن عازف اسمه عباس عظمة، الذي جاءته فرصة للعزف بالكويت ليجني بعض المال، وفي الوقت ذاته كانت تحتاجه أم كلثوم لحفلها، فأجرت اتصالاتها لمنعه من السفر، قد يري البعض أن ذلك خطأ ولا يحق لها، ويري البعض أن من حقها الدفاع عن جودة فنها، في النهاية آثر عبد الرحمن أن يحذف ذلك من العمل، أما مسلسل أسمهان، فعندما كتبه قمر الزمان علوش ونبيل المالح، وضع المالح مواقف كثيرة توضح لعبها للقمار وخيانتها وتعدد علاقاتها مع الرجال، كل ذلك بإمكانه في الذائقة الجماهيرية بحكم أننا شعب منغلق بعض الشيء، أن يقلل من حب الشخصية، ولكن رأيي أنهم علي صواب فيما فعلوا، لأن الناس تريد رؤية الملاك وليس الإنسان الذي له نقاط ضعف، وهذا غير صحيح". بينما يري الفنان سامح الصريطي أن مذكرات الفنان ملكية خاصة، ما دام أنه لم ينشرها في حياته، وطالما أنها تستعرض أجزاء خاصة منها، فيما عدا اللقاءات العلنية والمصورة، لأن ما يذكر قد يشوبه بعض الافتراء والتزوير، لذلك لابد لكي يتم النشر موافقة الفنان أو أسرته من بعده، وفي حال ذلك يجب الالتزام بالحقائق فقط، أما في حالة تحويلها إلي عمل درامي، يقول الصريطي: "يمكن للمؤلف أن يختلق بعض الأحداث التي تخدم نصه، لأنها تختلف عن الأعمال الوثائقية، التي تلزم أن يكون كل شيء بها محققا ومدققا ومصدرا للحقيقة، أما الدراما فليست كذلك، الأعمال الفنية بها بعض الحقيقة ولكن الهدف منها ليس معلومات، وإنما إمتاع المشاهد وترسيخ بعض القيم، لذا يمكن إضافة أحداث ثانوية تخدم الأحداث الرئيسية التي لها أصل تاريخي وبدون تشويه للشخصية، ولابد أن يعي الجمهور هذا الفرق بين العمل الوثائقي والدرامي، وألا يسلموا بالأعمال الدرامية علي أنها تحمل الحقيقة، لأن الدراما في النهاية ليس من شأنها التحكم في وعي الناس". أما المخرجة إنعام محمد علي، فقد كانت لها تجربة شبيهة أثناء مسلسل "أم كلثوم"، فتقول: "أم كلثوم كان لها ابن أخت محام، طلب منا حينها الاطلاع علي النص وأن نحصل علي موافقتهم أولا وغيره، لكننا لم نستجب وقلنا إن الفنان ملكية عامة وليس للورثة، كما أن هناك جانبا لابد أن يخضع لتأليف الكاتب، لأننا لا نعلم حياة ذلك الفنان اليومية، فهناك فرق بين كاتب صحفي ينشر حوارا وما يجب أن يتسم به من المصداقية، والكاتب الدرامي الذي يحول المذكرات لعمل فني، ولكن بالطبع له حدود، لأن هناك أشياء لا تتحمل التحريف، خاصة فيما يتعلق بالسلوكيات والأخلاقيات، أو تتعلق بأحداث كبري ووقائع تاريخية، لأنه عند تحويل الفنان لعمل درامي لا يجب نزعه من المناخ الذي يعيش فيه، وإلا تحولت الأحداث إلي نميمة شخصية، ولكن الإضافة يجب أن تكون بدون قصد التجريح أو الفضح". ومن جانبه، يؤكد الكاتب محمد السيد عيد أنه طبقا لقانون الملكية الفكرية، حتي وإن تم النشر في حياة الفنان، الملكية تكون للورثة، موضحا: "أي منتج أدبي يتمتع بحق الملكية الفكرية هو لمؤلفه وورثته لمدة حددها القانون هي 50 عاما، ولا يقع المؤلف في الملك العام إلا بعد انقضاء تلك المدة، وعلي هذا فهي ملك من الناحية الفكرية للكاتب وورثته، أما كمعلومات فهي ملك لجميع من يقرأ، وعند تحويل مذكرات مكتوبة إلي عمل درامي، لابد من الالتزام بما جاء فيها، لأنها تعبر عن وجهة نظر كاتبها، مثلما حدث في مسلسل طه حسين "الأيام"، فقد التزم كاتب السيناريو والحوار وكاتب الأغاني أيضا بالنص الأصلي". ويستطرد عيد: " أي مسلسل به مساحة للإضافة والحذف، لأن النص الأدبي أو المذكرات مهما كانت لن تفي أحداثها بما يكفي لمسلسل يمتد لعشرين ساعة وربما أكثر، وفي اعتقادي أن أي مذكرات يمكن تحويلها إلي عمل درامي إذا كان صاحبها يستحق أن نقدم حياته كعمل درامي، لأن هناك بعض الشخصيات ربما لا تصلح لتقديمها لما فيها من مشاكل أخلاقية وعيوب جسيمة تجعل الأمر مستحيلاًًًً، كأن يكون سكيرا أو زير نساء أو خائنا لبلده، وأشياء كثيرة من شأنها وضع علامات استفهام". وعلي الحياد، تقف الفنانة صفاء الطوخي، حيث تقول: "الفنان أو الأديب صاحب السيرة الذاتية مؤكد هو بالضرورة شخصية عامة وصاحب تجربة تستحق أن يعرفها الناس، ولذلك هذا شيء محير، لأنه في نفس الوقت انتهاك الخصوصية شيء غير مستحب أبدا، إلا بالقدر الذي كتب به الفنان سيرته الذاتية أو سمح به للتدخل في حياته الخاصة وعرضها، واعتقد أن ما يتحكم في ذلك هو أمانة المؤلف ومراعاته لمساحة الخصوصية تلك، لأن الإنسان لا يكون وحده، هناك دائرة من المعارف والأقارب ليس من حق أحد الدخول فيها وعرضها، فهذا يتعلق بأمانة السيناريست الإنسانية وليست فقط الفنية، وإذا ارتأي أجزاء من شأنها تشويه الشخصية؛ من واجبه الإنساني أيضا حذفها". ومن جهتها، تؤكد الطوخي أن هناك مسلسلا يتم تجهيزه بالفعل مع المخرجة هالة خليل عن السيرة الذاتية لوالدها عبدالله الطوخي ووالدتها فتحية العسال، وذلك بإذن من العسال قبل وفاتها واتفاق بينها وبين هالة، وتضيف: "أنا احترم هذا الاتفاق، ومتأكدة أن هالة خليل فنانة وإنسانة كبيرة، وقد اتفقت مع والدتي علي المناطق المسموحة والأخري غير المسموحة التي تخص غيرنا، بالضرورة ليس بها ما يخجل ولكن هناك مساحة من الخصوصية لن تنتهك، وفي النهاية هي لها الحرية الكاملة بحسب الاتفاق، وثقة أمي فيها منقولة لي وأحترمها، ولذلك حتي انتهاء العمل لن أتدخل، فهي فنانة كبيرة ولها وجهة نظرها التي لا يصح أن أتدخل فيها".