ثَمَّةَ أشْياء يَعيشُ الشَّاعرُ طُوالَ حياتهِ يَبحثُ عنْها، ويُفتّشُ، بكلِّ مَا وُهِبَ من حيلةٍ عنْها في كلِّ زاويةٍ ورُكْنٍ.ولا يَلجأُ الشاعرُ إلي البحْثِ عن تلك الأشياء، إلا لِيُحقِّقَ معها أوْ بها مُتْعته الخاصة، ولكي تُشْعرهُ بوجوده الفعْليّ، لا الهامشيّ والاسْتعاريّ.بالطبع لا يُحاول الشاعرُ أنْ يَعْثرَ علي هذه الأشياء، والإمساك بها لِيَضِنَ بها علي الآخرين، بل يُحاول أنْ تلْحقَ بهم كما يلحق بها.فالشاعرُ نتيجةً لزيادةِ إحساسه عن الآخرين كما هو معروف يَحسُّ ويَهْتمُّ بغيره أكثر من اهتمامه بنفسه أحْيانًا. (1) باتساع مساحة قصائده يمتد بحث الذات الشاعرة، التي تشعر بالتشظي والانقسام، عن نفسها وكينونتها وعالمها الخاص في ديوان الرقص علي أطراف الأصابع للشاعر وليد طلعت، الصادر عن دار الأدهم للنشر والتوزيع.إذ تبدو قصائد الديوان وعددها إحدي وثلاثون قصيدة وكأنها تُشكِّل قصيدة واحدة تعزف فيها الذات الشاعرة علي وتر بحثها عن ذاتها وسط هذا الضجيج الذي يغمر العالم بكل مَن وما فيه.ومن قصيدة إلي أخري ندرك أن الذات تكرس لهذا مشيرة إلي أنها في عالم لا يصغي ولا يلتفت إليها: تحسس وجهه بيديه بسبابته قاس المسافة بين عينيه وهو يدب علي الأرض بساقين ترتعدان عض شفتيه وتذوق دمًا صبغ جانب يده بالأحمر وجَّه لكمة ساخرة لمرآة الحجرة لم يستطع إكمال المشهد أعاد جسده برفق إلي شكله البدائي وخرج يبحث عن أحد يسمع. (2) كذلك نلاحظ إلي جانب هذا أن ثمة أشياء أخري تعاني منها الذات الشاعرة، ألا وهي الوحدة / العزلة التي يمكن أن نسميها بالغربة الداخلية التي يحس فيها الإنسان بأنه غريب عن كل شيء وعن كل أحد، علي الرغم من كثرة من هم حوله: اليوم تنكرك الخطي فوق التراب والفراغ الغض يعبث بوجودك أنت وحدك والذي يأتي ولا شيء سواه أنت وحدك. لكن وعلي الرغم من ذلك نجد أن الذات الشاعرة تحب الحياة وتتمسك بوجودها علي قيدها محاولة أن تقاوم الموت: كان يحب الحياة لم يكن ينتوي أن يموت لم يكن ينتوي الرحيل هكذا. هذا ورغم الحالة شبه المأساوية التي تكابدها الذات الشاعرة هنا إلا إنها تسعي لأن تتصالح مع العالم: تمني لو امتلك الوقت الكافي ليتصالح مع العالم. وها هي الذات الشاعرة تعلن عن نفسها في قصيدة إنه أنا معبّرة عن سماتها التي تتحلي بها رغم أن بعض هذه السمات يؤثر عليها سلبًا لا إيجابًا: المتعب ، الراغب ، والممتنع ، الحي ، اليقظان ، الساهر ، المتوحد ، المنتظر ، الملهوف ، القلِق ، المرتبك ، الخائف ، ال....، إنه أنا ، أنتَ ، المنهك دائمًا. (3) هذا وتبدو الذات الشاعرة في حالة أزمة حقيقية مع الواقع المحيط بها، أو هي تعيش واقعًا مأزومًا، إذ تشعر بنفورها منه ونفوره منها، وليس هناك نقطة اتصال مرغوب فيه أو اتفاق فيما بينهما: ما عدت أصدق أحدًا يا أمي ولا أنتظر الإذن لأذهب كل أشربة الدنيا لم تعد كافية لشفائي. بل إن الواقع في نظر هذه الذات لا يتعدي كونه: غرق، وبرودة، وعنف، كره يتجدد، وينتشر. لكن هذه الذات تظل تطارد هذا الواقع لتغيره إلي ما هو أفضل، فيما تفشل غالبًا في هذا، إذ ينتصر الواقع في معظم جولاته معها، ومع هذا فهي تعاود الدخول معه في جولات أخري فلربما تمكنت ذات جولة من هزيمته: سيمضي يطارد الليل اللعين حتي يُخرج منه النهارَ الذي يبحث عنه وحين يأتي نهار يسقط علي الأرض بائسًا، متعبًا، وقد تورمت قدماه. (4) وليد طلعت كشاعر يمتلك أدواته ويكتب في أكثر من جنس أدبي كشعر العامية والرواية والمسرح، يحاول أن يكتب القصيدة الأسهل وصولًا إلي متلقيها، وليد يكتب السهل الممتنع الذي يمتاز بالبساطة مع وجود شَعرة فارقة بينه وبين الوقوع في شَرك المباشرة.كذلك يهتم الشاعر في ديوانه هذا بالتقاط اللحظة الشعرية ممسكًا بتلابيبها غازلًا منها نصًّا شِعريًّا يتكيء علي سرد ينساب في سهولة مهتمّا بجماليات النص الشعري دون أن يسرف في استخدام المجازات أو أن يُغرق نصه في تهويمات شعرية لا تؤدي إلا إلي طريق القطيعة مع المتلقي.