إن مقاربة أي نص روائي يمكن أن تسير في اتجاهين متوازيين ، الاتجاه الأول هو التشكل الدلالي أو الدلالات التي يمكن للقارئ أن ينتجها بعد قراءته للنص، والاتجاه الثاني هو التشكل الجمالي، الجماليات الفنية التي استطاع بها الكاتب أن ينسج فضاءه السردي من خلالها.ومقاربة العتبات النصية صارت من أهم الدراسات النقدية الحديثة التي تمكن الباحثين من قراءة دلالات النصوص، والعتبات هي "مجموع العناصر النصّية وغير النصّية التي لا تندرج في صلب النص السردي، لكنها به متعلقة وفيه تصب ولا مناص له منها " وقد قسمها الدارسون إلي قسمين : النص المصاحب ، والنص الحافّ وإذا كان النصّ الحافّ ينطوي علي كلّ النّصوص والخطابات السّمعية والبصريّة المتعلّقة بالنصّ السرديّ دون أن تجاوره في مساحة الكتاب كأحاديث المؤلِّف إلي الصّحف ووسائل الإعلام، ورسائله الشخصيّة، وشهاداته الأدبيّة، ومقالاته النقديّة، وشهادات الأدباء والأهل والأصدقاء فإنّ النصّ المصاحب هو كلّ العناصر النصّية أو العلاميّة أو الشكليّة التي تحفّ بالنصّ السرديّ داخل محيط الكتاب كالعنوان الفرعي والإهداء والتصدير والتنبيه والمقدّمة والحواشي والهوامش وغيرها. وما من شكّ في أنّ العتبات تتضافر جميعا لتكُون مفاتيح بها يذلّل القرّاء بعض ما أُغلق من النّصوص السرديّة وتمكّنهم من الوقوف علي وضع النصّ الأجناسيّ، وتطلعهم علي دلالاته وعلاقاته بمقتضياته الأدبيّة والاجتماعيّة الحافّة به، وتخوّل لهم إقامة حوار مع مؤلّفه. فالعتبات مجموعة من النوافذ التي يمكن أن نطل من خلالها علي مقولات النص السردي والخطاب الثقافي فيه ، كما أنها مجموعة من الإضاءات التي تفضي إلي مزيد من الدلالات والمقولات التي يمكن أن يقدمها الفضاء السردي نتيجة التلاقح بينها وبين النص، وقد دأب الباحثون علي أن يقرأوا النص السردي من خلال عتباته النصية. تكمن أهمّية البحث في العتبات في كونها تُحدّد جنس النصّ وقضاياه العامّة وشكل كتابته. ولا تقتصر وظيفتها علي توفير معلومات مرجعيّة عن النصّ فحسب وإنّما تتجاوز ذلك إلي التّأثير في دلالاته وتلقّيه فضلا عن أنّها تحدّد أفق انتظار المتلقّي وتوجّه فهمه الأثر مُسبّقا وتفرض عليه قراءة مخصوصة. لذلك عُدّت حلقة وسطي بين المؤلِّف والقارئ وبين النصّ والعالم. بها يعلن النصّ خروجه من عزلة الإبداع وقدومه إلي العالم محاطا بنصوص وعلامات وأشكال لها امتدادٌ في المجتمع والاقتصاد والتاريخ، حتّي إنّ مبدعها "جيرار جونيت" عدّها الجسر الذي يصل بين النصّ والجمهور والشّرط الذي به يتحوّل النصّ إلي كتاب. ويأتي الدور المباشر لدراسة عتبات النص "متمثلاً في نقل مركز التلقي من النص إلي النص الموازي، وهو الأمر الذي عدته الدراسات النقدية الحديثة مفتاحًا مهمًا في دراسة النصوص المغلقة؛ حيث تجترح تلك العتبات نصًا صادمًا للمتلقي، له وميض التعريف بما يمكن أن تنطوي عليه مجاهل النص." أولي هذه العتبات النصية وقد تكون أهمها التي من خلالها نستطيع قراءة رواية " غزالة " هي عتبة المفتتح حيث يفتتح الأديب الراحل قاسم مسعد عليوة روايته بهذه الجملة المفتاح:" رواية غير مألوف الروايات ..رواية ككل الروايات " يري مسعد عليوة تميزا ودهشة سوف يقدمها للقارئ في روايته، كما يري مساحة من التشابه مع المنجز الروائي . لكن فيما المفارقة مع المنجز الروائي وفيما التشابه؟ هذا ما سنحاول أن نكشف عنه في هذه القراءة. العتبة الثانية التي يمكن قراءة الرواية من خلالها هي جملة الإهداء، فقد أهدي المؤلف روايته :" إلي من يبحثون عما لا يجدون". أي باحثين يعنيهم الروائي؟ هل هم الباحثون عن الشكل الأمثل لرواية ليست ككل الروايات؟ هل هم الباحثون عن التحقق الجمالي الذي لم يصله مبدع بعد ؟ أم الباحثون عن الحقيقة الصوفية والتجلي الأعظم للوجد الروحاني الذي سوف يتلمسه القارئ وهو يقرأ "غزالة " مسعد عليوة ؟ مع القراءة المتأنية للنص نكتشف أنه يطرح كلا الأمرين، فثمة باحثون عن الحقيقة ويعانون من الانحذاب الصوفي وثمة كاتب يحاول أن يصل بهم إلي الشكل الأسمي لرواية لم يكتبها أحد قبلا. ومن العتبات النصية التي تلي المفتتح والإهداء هي جمل تصديرية، صدر بها للرواية ، وتقصد في توزيعها التنسيقي في النص أن تكون كل جملة في صفحة منفصلة ، وكأنه يريد أن يستحوذ علي اهتمام القارئ لدلالات الجملتين، الجملة الأولي هي:" ولكم في المجاز حياة " لن أشير إلي التناص القرآني الذي صاغ به الجملة، لكن ما يهمني هو وعي الكاتب بأهمية المجاز، الذي هو وجه من صور التخييل الذي يعتمد عليه النص، فرغم تجليات الواقع في الرواية إلا أن التخييل هو استراتيجية الكتابة الأولي. الجملة الثانية هي " لا تخف من العويص.. ولا تفر من الرمز " ، وعي آخر يريد الكاتب من القارئ أن يتمثله، إنه الوعي بأهمية بذل الجهد في التلقي، القراءة الواعية لهذا النص الذي يضمر من الدلالات أكثر مما يظهر، فالعويص بتعبير الكاتب هو المعني الصعب الذي يحتاج إلي بذل جهد في فهمه واستجلائه، ولا يقتصر الأمر علي العويص والصعب إنما أيضا يريد من القارئ أن يفك شفرات الرموز في روايته ولا يراهن علي القراءة الأولي والتلقي السطحي، إنه يريد من القارئ أن يملأ فراغات النصوص والمستوي التحتي لها عبر قراءة الرمز وعدم الخوف منه. العتبة التالية من عتبات قراءة النص هي غلاف الرواية الذي تحتل مساحاته غزالتان ، أم وصغيرها الذي يرضع من ثديها ، وتشارك الغزالة المسار السردي للنص ، فرحلة الكشف التي يخوضها الشيخ وتلميذه ترافقهما فيها الغزالة، وتصير هي الرمز الأبرز في النص ، فهي رمز صوفي واضح. من العتبات النصية الواضحة النصوص الحافة ، نصوص المتصوفة ورفاق الطريق، تأتي أحيانا كنصوص شعرية موازية ، وأحيانا أخري كنصوص حافة ترد بتجلياتها ، وهو ما يناسب رحلة الكشف ولغته الشعرية . الرواية مترعة حتي الفيض بمواجيد وشطحات الصوفية، وهي تطرح أسئلة الوجود عبر أسئلة التلميذ لمعلمه :" احتوي معلمي كتفي الاثنين بذراع واحدة وقال : مثلك أجهدت نفسي بحثا عن النقاء الخالص فلم أجد أفضل من الصمت الذي لا يخامره أي صوت .. أتوافقني؟ قلت : أوافق، قال: إذن أنت لم تعرف النقاء بعد . تُعد الكتابات الصوفية بعنوانها وشخصياتها نصوصا حافة ، وتفاعلات نصية يمكن للقارئ أن ينتج من خلالها دلالات عميقة، فهي تفيض بالإشراق الصوفي الذي تتيحه لغتها، وهي تستفيد من جماليات المنجز الصوفي لتقدم مفاهيم تنتصر للفكر الرشيد، ولا تزدري الجسد والممارسات الدنيوية. تستفيد الرواية إذن من المنجز الجمالي الصوفي، وتذكرنا شخصية "المعلم"،بشخصية سيدنا الخضر التراثية أو شخصية "زرادُشت" نيتشة، و"نبي" جبران، و"حلاج" عبدالصبور، وشخصيات الصوفيين الإسلاميين العظام، لكن بملامح مختلفة وفي مواجهة قضايا مغايرة لها من المعاصرة أكثر مما لها من التراث. الرواية مقسمة إلي فصول معنونة، وكل فصل يضم عدداً من المقاطع المرقمة. ويكاد يكون كل فصل قصة مستقلة بذاتها؛ بل إن كل مقطع يكاد يكون بدوره قصة وامضة مكتملة الأركان؛ ومع هذا فثمة وحدة عضوية تجمعها كلها وتشد وشائجها بعضها إلي البعض. هي مشاهد سردية متجاورة، تكاد تمثل قصصا قصيرة علي نحو ما، لكنها تتجاوز، حيث تتأسس علي واحد وعشرين فصلا، يعتمد كل فصل فكرة الاتصال والانفصال ، فرغم أن كل فصل يمثل سردية منفصلة إلا أن ثمة وشائج تجمع كل الفصول. والرواية تتأسس علي شخصيتين رئيسيتين هما الراوي ومعلمه، كما تتقاطع معهما بعض الشخصيات الفرعية الإنسانية والحيوانية، ومنها الغزالة، وهي تحكي مسيرة المعلم وتلميذه الراوي في مشاهداتهما بين الصحراء، ومدينة اللذة والانبساط، وحتي يهجره معلمه، وترصد عبر ذلك قصة هذه المسيرة التي تكشف عن معالجتها لكثير من قضايا الواقع السياسية والاقتصادية والفكرية، وعن مسيرة حياة الكاتب نفسه في علاقته بالسياسة والواقع المصري والعربي عموما:" أدخلني معلمي كهفا تستدعي ظلمته نزع الرموش والأجفان . سألني : هل تري؟ أجبته : لا يا معلم . قال: فاخرج إلي الشمس إذن وأنعم بعماك. يتجول المعلم بصحبة تلميذه من مدينة إلي أخري ومن مكان لآخر، وفي كل خطوة يتعلم التلميذ المزيد من المعرفة ويتكشف له المزيد من الأسرار التي كان يجهلها ، وفي الوقت نفسه يتكشف أمام القارئ المزيد من العالم الروائي ، ويتضح له المزيد من جوانب الرؤية. في طريق طويل يشبه الدائرة يبدأ بلقاء الغزالة وينتهي بها. طريق ممتد يقطعه التلميذ بصحبة معلمه في طريق السالكين ،يقول :"طريق السالكين محكوم بالشهوة والهوي ومحفوف بالمحو والسكر والانبساط". هي رواية تكشف الواقع وما فيه من ملابسات وأحداث اجتماعية وسياسية ولكن عن طريق التفاعلات النصية والنصوص الموازية والحافة ، فهي لا تعتمد علي الواقع بل تشتغل علي التخييل ، والتناصات التراثية.