منذ زمن بعيد، ومنذ كنا أطفالا نحبو كان يأتينا حاملا بضاعته من الفاكهة اللذيذة إلتي نتلقف حباتها في شغف ونأخذ في قضمها في استمتاع، هو رجل طويل نحيل معروق اليدين، علي وجهه سمرة أبناء الصعيد الغامقة، أما شاربه الطويل المنفوش فيرتفع فوق ثغر باسم دائما، كان من بلديات أبي، توثقت بينهما حبال المودة، بائع فاكهة متجول يغيب فترة في بلدته بالصعيد ثم يطل علينا بحمولته من البرتقال أو المانجة أوماشبه، بعد مساومات بسيطة تتخللها بعض المداعبات يشتري أبي منه كل بضاعته التي تنوء كتفه الصلبة أو رأسه بحملها. مع الوقت أصبح عم حمزة صديقنا نحن أيضا الأولاد الصغار، يداعبنا أحيانا وهو جالس بيننا بإخفاء حبة من العنب في كمه مثل لاعب الأكروبات ويطلب منا البحث عنها ثم يظهرها كالساحر العجيب مقهقها لنا وشاربه المنفوش يهتز فوق فمه الضاحك وأحيانا يلقي علينا بعض الالغاز والفوازير التي نجد متعة في التفكير في حلها، وأحيانا أخري يقص علينا بعض نوادر جحا التي تحرك خيالنا. وكان عم حمزة وجه السعد الذي يهل علينا.. بشاراته تسبقه.. يوما يدخل علينا والزغاريد تملأ بيتنا بعد إعلان خطوبة أختي ويوما يأتينا وفي ذيله أوقبله مباشرة خبر نجاح واحد منا في الامتحان. وفي يوم كنت ألعب في الشارع أمام منزلنا ولسبب لاأذكره أغتمت نفسي فبكيت وإذا بيد تمتد من وراء ظهري تربت علي كتفي في حنو، ألتفت فوجدت عم حمزة الذي كان قادما إلينا ينحني إلي وقد أضاءت وجهه ابتسامة عريضة ظهرت لها بعض أسنانه تحت شاربه المنفوش ثم وجدته يمد يده لي بحبة من المشمش يواسيني بها دون كلام. ظل عم حمزة يزورنا ببضاعته لعدة سنوات ثم أخذت زياراته لنا تتباعد وتقل تدريجيا حتي اختفي تماما فخمنا أنه مات ولكن دون أن نتيقن من ذلك، وكنا كلما أشتقنا لزياراته هفت علينا ذكراه فنتبادل الحكايات عن مداعباته لنا وطريقة دخوله علينا حاملا بضاعته علي كتفه أوفوق عمامته الشهيرة، وعندها كنا نتناسي فكرة أن يكون قد مات رغم مرور السنين علي اختفاؤه، وقد ساعدنا علي ذلك أننا رأيناه في آخر زيارة لنا في صحة جيدة، كما كان العمر المديد سمة وراثية في فرع عائلته ووالده نفسه عاش كما علمت مرة عدة سنين بعد المائة! علي أني رغم ذلك كنت أخشي أسأل أبي عن أخباره حتي لا أصدم إذا ما أبلغني أنه مات. مع مرور السنين كنا قد كبرنا وأخذتنا اهتمامات أخري غير اهتماماتنا الطفولية بنوادر عم حمزة ومداعباته لنا وفاكهته اللذيذة. كبرنا أكثر فزارتنا هموم الكبار ومتاعبهم وفي يوم تكالبت علي الهموم أغتمت نفسي بشدة وإعتراني اكتئاب، وعندئذ وجدته.. عم حمزة يأتيني يربت علي كتفي ويمد يده لي بحبة فاكهة، وعلي وجهه ابتسامة وضاءة تظهر أسنانه تحت شاربه المنفوش، صحوت من نومي وصورته لا تفارقني وقد قررت أن أبعد عن ذهني تماما فكرة أن يكون عم جمزة قد مات!.