علي مدي قرون لعب الزار دورا نفسيا لدي آلاف البشر ممن اقتنعوا بأنه يقوم بطرد أرواح شريرة تسكن أجسادهم ، وتسبب لهم الغم والحزن. "الزار"، و مثل غيره من الطقوس الفلكلورية يصعب تحديد أصله بدقة، حيث اختلف دارسوه حول كونه ينتمي إلي الحبشة أو مصر القديمة، خاصة أنه يقدم علي ثلاثة أنواع وهي: فرقة أبوالغيط التي ترفقه بمديح النبي، والنوع السوداني (الطنبورة)، والصعيدي (الستات). ويتميز "الزار"، بأن له طقوسا محددة ومختلفة، ممثلة في دقة الحضرة "الموسيقي"، واستخدام البخور وبعض الأشياء الرمزية، فضلًا عن بعض العادات كتقديم القرابين مثل "الذبح"، من أجل استرضاء الأرواح الشريرة، وإقناعها بالتخلي عن صاحبها ليعيش في سلام. "إنه من ألوان الغناء الشعبي المصري التي أوشكت علي الانقراض"، هكذا بدأ أحمد المغربي مدير المركز المصري للثقافة والفنون " مكان " وأحد المهتمين بالحفاظ علي هذا الفن كلامه، قائلًا: "خلينا نتفق علي أن التراث الشعبي ينقرض بشكل سريع جدا، وخلال العشر سنوات الماضية كل يوم بيضيع لون أو آلة أو شكل غنائي من المأثور الشعبي". وأكد المغربي، أن هدف المركز منذ إنشائه في عام 2002 هو تسجيل وتوثيق المأثور الشعبي في كافة أنحاء الجمهورية، موضحًا أنه تم تجميع "حفظة التراث الشعبي" من كل المحافظات، لافتًا إلي أن المركز يحتوي علي 12 ألف مصنف مرئي وما يقرب من 20 ألف مصنف صوتي وهو ما يمثل أرشيفا قوميا للتراث الشعبي. وأنه يعمل علي إعادة تكوين البقية الباقية من حفظة التراث وتجميعهم في "مكان" من أجل تقديم ألوانهم الفنية والغنائية. وأشار إلي أن الفنون الفلكلورية والشعبية يجب أن تتمتع ب"الحميمية" بين الفرق الفنية والجمهور بالمشاركة فيما بينهما. قائلًا: "الأغنية الشعبية هي أغنية بسيطة جدًا، في تكوينها، ولكن التفاصيل بها عميقة جدًا، لذلك لا يجب أن تخرج عن شكلها التقليدي حتي لا تفشل". وشدد علي أن "مكان" يحتضن آخر فرقة في مصر تقدم فن "الزار"، وهي فرقة مكونة من 15 شخصًا فقد انقرض هذا الفن في محافظات الجمهورية بأكملها. ظلم بيّن اتهم المغربي السينما المصرية بأنها ظلمت فن الزار ظلمًا بينًا، وربطته في مخيلة المشاهد بالدجل والشعوذة، وشوهت صورة التراث الشعبي، فالحقيقة أنه فن شعبي له أصوله وأدواته ومحبوه ، مشيرًا إلي أهمية أن يكون لدي المجتمع وعي بالتراث وأهميته دون الاكتفاء ب"التشدق" بأطول حضارة عمرها 7 آلاف سنة، واستنكر عدم تدريس الآلات الموسيقية الشعبية في المعاهد الموسيقية المصرية، بل يتم استبدالها بالآلات الغربية. واستنكر ضعف دور الدولة في الحفاظ علي التراث الشعبي، مؤكدًا أنه: " يحدث تضييق علي ممارسة التراث المصري والأشكال الجماهيرية خوفا من الانفلات الأمني"، مشيرًا إلي أن تلك السياسة بدأت منذ عهد محمد علي وعصر النهضة، من خلال التحقير من شأن التراث الشعبي. وأكد أن كل هذا سيحول الشعب المصري إلي شعب مشوه فاقد لهويته وإنسانيته بعد فقدان تراثه ، وأضاف : "التنوع والاختلاف يحافظان علي الأمن". وهذا ما دفع المغربي، إلي تكوين فرقة "مزاهر" المتخصصة في فن الزار لتشكل بعد فرقة "دراويش أبوالغيط" آخر أمل للحفاظ علي هذا الملمح الثقافي والمأثور الشعبي قبل الاندثار تمامًا، والفرقة مكونة من 15 شخصًا من بينهم 6 نساء مازالوا يجيدون هذا النوع من الفن. مزاهر "النبي هدف علي مرامه.. النبي الهادي صلوا عليه.. وقلبي يحب النبي واللي يصلي عليه يا سامعين صلوا وسلموا عليه"، هكذا تبدأ الريسة "مديحة قائدة الفرقة، وصاحبة ال65 عامًا، الإنشاد في حب رسول الله "صلي الله عليه وسلم"، ومدحه بأحب الأوصاف، وتبدو عليها ملامح العاشق الطامع في قرب الله بحب رسوله ومدحه. ثم ترد عليها باقي الفرقة التي تقدم الزار بأنواعه الثلاثة، مع الفرق في استخدام الآلات، حيث يستخدم الزار المصري آلات: "المزاهر، الطبلة، الصاجات، الكأس،المرياس"، بينما يعتمد الإفريقي أكثر علي "الطنبورة، المنجور،النرواس" ويكون المؤدي هنا ذكراً، أما زار "أبوالغيط" فيميزه استخدامه لآلة "الكولة، إلي جانب الطبل والصاجات". "الزاريعتمد علي الروحانيات، ونشأ في الحبشة و تم تناقله عبر الأجيال والجدود، مش بالورقة والقلم، عشان نعرف أصله إيه"، هكذا بدأت الريسة "مديحة" أو "أم سامح" كما تحب أن يطلق عليها كلامها، وتضيف : "ارتباطه بالروحانيات يتسبب في حالة من الراحة ، وقد عرف في الأحياء الشعبية، الناس كانت بتعمله وتذبح حاجة لله وتوزعها علي الغلابة، اللي يذبح فراخ أو ديك رومي أو اللي يوزع فول نابت"، وتؤكد: "اللي بيسمع الموسيقي بيحس أنه في حالة غير الحالة وأعصابه بترتاح". وتتابع "أم سامح" حديثها، عن مشوارها الفني: " نشرت الزار في كل البلاد، وحضرت الزار في المغرب، وزار مصر زي زار كل البلاد بس كل بلد بتقدمه بطريقتها، إحنا طلعنا لقينا أهالينا بتشتغله وحبيناه". ونفت علاقة "الزار" بالشعوذة والدجل بشكل قاطع، قائلة: "الزار مالوش علاقة بالجن والعفاريت، واللي قالوا إن الزار بيطرد العفاريت ده غلط.. إحنا بنعمل حاجة بنحبها.. أجدادنا كانوا بيحبوه وبيعملوه لكن إحنا مالناش علاقة بالجن والعفاريت". وبدورها تؤكد أن " السينما جسدت الزار غلط، وظلمته " . وتبرهن علي وجهة نظرها بقولها : " عمرك ما هتكوني عاملة حاجة غلط وهتعزمي أهلك وناسك يحضروها، دي حاجة من عند ربي،محدش ليه يد فيها ، أنا بحب الزاروبشتغله بروحي وبقلبي وبعبرلك بالكلام من قلبي"، هكذا تدافع "الريسة" عن الفن الذي أنفقت فيه سنين عمرها موضحة: " أنا أخدت الزار من والدتي وأنا عمري 11 سنة، وأنا في سنة سادسة كنت بهرب من المدرسة وأروح لأمي علي الحضرة .. وكانت أمي ريسة زيي كده، أنا الريسة لإني أنا بغني لوحدي وهما بيردوا ورايا، ودلوقتي أنا عندي 65 سنة". وتتابع: "مش أي حد يطبل الزار، ومش أي حد يغني الزار، إخواتي محبهوش لكن أنا حبيته عن والدتي وهي حبته عن والدتها، وكنت بشتغل ورا والدتي وأرد وراها في الحفلات، ولما هي كبرت ومبقتش تقدر تدي وقفتني أنا أغني بقا، وهي ترد عليا، وأنا كان صوتي حلو وكنت صغيرة والناس حبتني وزباين وحبايب أمي حبوني، وبعدين أنا بقيت أقوله والناس عشقتني وهي اتكلت علي الله وأنا فضلت". وعن تدهور هذا اللون الشعبي، تقول: "الزار بتاع زمان كان جميل، وكانت ناس كتيرة أوي بتحبه، الناس الكبار والبشاوات كانوا بيحبوه وبيعملوا الزار، دلوقتي حاليًا الشباب فاكرة إن الزار ده حاجة غلط أو شعوذة، والحمد لله رب العالمين الزار طلع فن عربي ، وعرفوه في البلاد الأوربية ومحبوب جدًا، ولفيت بيه العالم كله وروحت بلاد كتير زي سويسرا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا، أسبانيا، المغرب، لبنان، وكينيا، و السياحة لو مفتوحة متعرفيش تحطي رجلك ف العرض". وأكدت أهميتها في الفرقة: "الزار أساسه الحريم وعددنا 5 وأنا الريسة، وكل الريسات ماتوا"، وأضافت: "الأجانب بيحبوا الزار، ورغم كده محدش بقي عاوز يتعلمه .. أصله مش بالورقة والقلم علامه، ولا ولادنا عاوزين يتعلموه، لأنه هو كان الأول مالوش أي مستقبل، لانه معتمد علي المجهود الشخصي، لما تدي تلاقي، وبندي ومبناخدش منه حاجة، ومبنعلمش أولادنا لأننا عاوزين لهم الحاجة الأحسن والمستقبل،ومكناش نعرف أنه هيوصل لكده، لأن محدش وصله إلا إحنا، وبتوع الفن مفكروش يحافظوا عليه أو علينا، وقبل المركز المصري كنا بنعرض في الشوارع، واللي بيقول لنا تعالوا طلعوا لنا الأرواح بنقوله: مش سكتنا ولا هنعرف نعملك حاجة، ولا تجيبنا". واختتمت: "السينما ظلمت فن الزار، واستغلته، وغلطت في حق هذا الفن، وساهمت في انقراضه من التراث المصري". تمر السنوات، وتتتابع الأجيال، ويظل الجدل دائرًا حول "الزار"، بين كونه فنًا شعبيًا وتراثًا مصريًا يجب الحفاظ عليه، أو مجرد وسيلة للدجل والشعوذة والنصب علي الناس، جدل لم يفض وقضية لم تحسم .