تتعالى منذ أيام وبشكل متتابع ومنظم أصوات بعض القوى والرموز مطالبة الجيش بالعودة لحكم البلاد فيما يرونه الحل الوحيد لإنقاذ البلاد!! ومن الطريف واللافت فى ذات الوقت أن المطالبين بذلك ينتمون لمختلف التيارات السياسية المصرية، فمنهم من ينتمى للتيار الليبرالى، ومنهم من ينتمى للتيار اليسارى، ومنهم من ينتمى للتيار القومى، ومنهم أيضا من يمثل التيار الفلولى، وبداية لابد أن نقرر أن القوات المسلحة المصرية تتمتع بأكبر قدر من الاحترام لم تحز عليه مؤسسة أخرى على طول التاريخ المصرى، وأنها قامت بأدوار تاريخية حفرت مكانتها فى قلوب المصريين بشكل عميق، وقد كان ذلك مرتبطا بدورها القومى الذى وقفت فيه فى مواجهة أعداء مصر والطامعين فيها، وكونها لم تستخدم فى مواجهة الشعب - كما استخدمت الشرطة - باستثناء تلك الحالة الوحيدة التى استخدم فيها النظام الناصرى الشرطة العسكرية والاستخبارات فى مواجهة الحركات المدنية المعارضة لحكمه، ومن هنا كان ولابد أن ندعو الأوفياء للثورة ولدماء الشهداء والأمناء على مصير البلاد ومستقبل الأجيال التالية كى يحافظوا على هذه المكانة ويحافظوا على طبيعة العلاقة التى تحافظ على هذه المكانة وتزيد من قوتها، وأن يقفوا أيضا وقفة واحدة فى مواجهة التوجه الداعى لعودة الجيش مرة أخرى للحياة السياسية.. وفى هذا الإطار يجب أن نتعرض لهذه الدعوة لنكشف مدى صدقيتها وحقيقة من يقف وراءها؟! بل أيضا لتبين مستقبل الثورة والدولة والوطن كله فى ضوء تردد هذه الدعوات.. كما أننا فى حاجة ماسة لتلمس مستقبل مصر فى ظل عودة النموذج السياسى المحكوم بالجيش أو ما سماه الثوار حكم العسكر. الحقيقة أن هذا الأمر خطير ولابد من دراسته من كل جوانبه، وخاصة من زاوية المضمون الذى تحمله دعوة العودة لحكم العسكر.. إننا نجد أنفسنا بحاجة شديدة إلى تفصيل مضمون هذه الدعوة وما تعنيه: إنها تعنى انتهاء فكرة الدولة المدنية وإعلان المجتمع المدنى المصرى كفره بها، وهى الدولة التى طالما نادى بها بعض العلمانيين فى بلادنا باعتبارها الحل السحرى للخروج من كل المشكلات والأزمات.. إنها تعنى الكفر بحقوق الإنسان والحريات العامة وتوكيل بعض ضباط القوات المسلحة الذين تدربوا على الحروب وأساليب التعامل مع أعداء الوطن من خلال حياة المعسكرات وجبهات القتال لكى يقوموا بإدارة وتنظيم شؤون الحياة السياسية كما يديرون الوحدات العسكرية.. إنها تعنى تسليم البلاد لتقاليد حكم انتهت فى العالم كله فى ضوء تطور تاريخى اعتبر أن حكم العسكر هو صورة من صور الحكم البدائى الذى تجاوزه الزمن، فهو الحكم الذى كانت تتسلط فيه القوة الرئيسية فى المجتمع على كل مظاهر الحياة فيه.. إنها تعنى أن يتم إقحام الجيش فى مجال غير المجال المخصص له، ومن ثمَّ توريطه فى مساحة لا يحسنها، وبالتالى إبعاده عن الدور الوطنى والقومى الذى تم تأسيسه لكى يقوم به، والذى تأثر كثيرا من جراء إقحام الجيش فى السياسة.. إنها تعنى فى هذه اللحظة التاريخية التى تمر بها مصر بعد الثورة أن يتم وضع الجيش فى مواجهة شعب ثائر لدية أعلى درجات الحساسية التى تكونت لديه على مدى تاريخه تجاه السلطات المركزية، وأنه سيرفض حتما - ولو بعد حين - الحكم الذى سيسميه «حكم العسكر» وسيخرج عليه فى الشوارع تحت ضغط الحاجة وتقلبات المشهد السياسى المتقلب بطبيعته، رافعا شعار «يسقط يسقط حكم العسكر»، وهو الشعار الذى لم ينقطع من الشوارع المصرية طوال عام ونصف، هما عمر المجلس العسكرى بعد الثورة.. إنها تعنى بصراحة فشل الثورة الشعبية المصرية فى تحقيق أهم أهدافها، والتى تمحورت حول عودة الإرادة الشعبية لمكانتها الطبيعية، وأن تكون مركز التحريك والتغيير لكل الشؤون السياسية.. إن استدعاء العسكر فى حقيقته لا يعنى أبدا أن هناك من يريد أن يصلح الشأن السياسى فى بلادنا، بل إنه يعنى أن هناك من يسعى لقتل السياسة فى بلادنا، وهو ما يعنى حتما إجهاض الثورة والانقلاب عليها. لهذا فإننى كنت أتصور من بعض من أطلقوا هذه الدعوة والذين لا أشك فى حبهم لهذا البلد أن يسلموا بالأولى بفشلهم فى التواصل مع الشعب بدلا من الانقلاب على كل قواعد السياسة والحكم الرشيد عند أول عقبة تقابلهم بعد الثورة المصرية.. إنها تعنى فشل النخبة أو الطبقة السياسية المصرية فى إدارة حوار سياسى مفتوح تصل فيه، ولو إلى الحد الأدنى للحلول السياسية والمرحلية اللازمة لتجاوز الأزمات ومنع الاحتقانات، وهو ما يعنى أيضا أنها قد تعودت على العمل السياسى تحت السيطرة أو المسيطر عليه تحت حكم العسكر!! كما أنها لا تستطيع أن تعيش خارج حياة الاستبداد!! أو أنها تذكرنا بحالة العشق المرضى بين الضحية والجلاد، كما كان واضحا فى علاقة البعض بحكم مبارك ثم علاقته من بعده بالمجلس العسكرى الذى لم يتصوروا أن يغادر المشهد السياسى أبدا، وهو ما يجعلهم حتى هذه اللحظة يستنكفون من التعامل مع أول رئيس مدنى منتخب!! ويرفضون مجرد الجلوس معه، وفى الختام يجب أن يعلم دعاة العودة للحكم العسكرى أن على رأس القوات المسلحة اليوم قيادة تدرك تماما طبيعة دورها، وأنها تبذل كل جهودها فى سبيل عودة العلاقة الحميمة بين الجيش والشعب فى ضوء الإدراك الواعى لأهمية دور القوات المسلحة فى دولة محورية مثل مصر يتربص بها أعداؤها فى كل لحظة.. كما أنها تعلم أن ما يريده البعض يعد خصما من دور القوات المسلحة وليس إضافة له.. وهذه القيادة بهذا الوعى ستخيب ظن الانقلابيين الذين لايزالون يتصورون أن مصر دولة من دول الموز أو أنها يمكن أن تحكم كما تحكم الدول الأفريقية الغارقة فى التخلف السياسى.