هم غالبا ما يتواجدون فى المكان، أو حوله، صغار قست عليهم الحياة وسلبتهم طفولتهم الندية، ملقية بهم إلى أتون أرصفة تقتات على براءتهم !! هم هنا يكتفون بالمشاهدة، والأمر كله لا يتعدى فى نظرهم سوى نوع من الفرجة الغير مسبوقة، وسوق يعتاشون عليها وهم يدفعون أمامهم عرباتهم المحملة بالترمس، أو البطاطا أو أى ( سبوبة ) أخرى تمنح أكفهم الصغيرة وجيوبهم الضيقة دفء جنيهات قليلة يعودون بها لذويهم مع شعور متزايد برجولة مبكرة تطل من عيونهم البريئة، فحياتهم سارت هكذا بلا لعب، بلا مدرسة وبلا راحة !! إنها طاحونة البؤس التى أورثها لهم أجدادهم وآباؤهم، هى ذات الطاحونة لم تتغير سوى أنها غدت أكثر سرعة وأكثر قسوة. لطالما تساءلت عقولهم الصغيرة عن جدوى ما يقوم به هؤلاء الوافدون إلى الميدان والمقيمون فيه، نساء ورجال، شابات وشباب، فقراء وأغنياء، كانوا يستمعون إلى صراخهم، هتافاتهم، غناءهم، بكاءهم وكانت الدهشة تغلف نظراتهم وتتسرب إلى عقولهم وهم يبحثون عن إجابات لتساؤلاتهم: لماذا يتركون بيوتهم الآمنة، وفرشهم الدافئة ويأتون هنا، كى تسيل دماؤهم وهم ينادون ويصرخون بالعيش والحرية والعدالة ومفردات أخرى حفظوها من كثرة ترديدها وإن لم يفقهوا معناها !! تطرق أسماعهم وهم يتحركون بعرباتهم أسرى حاجتهم للقمة عيش مغمسة بالذل !! لم يفكروا أن رصاصتين غاشمتين استقرتا فى الجسد الطاهر لصديقهم بائع البطاطا الوديع سوف تدفع بدماء الثورة إلى عروقهم وهم يسيرون فى جنازته مشيعين، وأن قاماتهم سوف تطول لتصل إلى أكتاف أبناء الميدان، وليدركوا ولأول مرة أن لهم حقا عليهم أن يطالبوا به.