دعنى أحكى لك عن نوع من أنواع الكوميديا.. اسمه "سيت كوم"، وبالإنجليزية "Sitcom" وهو اختصار لكلمة أطول هى "situation comedy"، وهى تعنى "كوميديا الموقف"، لعلك تعرف هذا النوع وشاهدت منه مسلسلات أجنبية شهيرة، وهناك محاولات مصرية عديدة لمحاكاة هذا النوع من الكوميديا مثل "تامر وشوقية"، "العيادة"، وغيرها من المسلسلات. يقول السادة منتجو المسلسلات فى مصر، إن هذا النوع ربما لا يلائم ذائقة المصريين، وأقول أنا- العبد الفقير إلى الله-: إن هذا النوع صنع خصيصاً للشعب المصرى.. وإليك أسبابى. تعتمد "كوميديا الموقف" بالأساس على أمرين، الأول، هو عدم وجود أحداث مهمة، فالحلقة عبارة عن سلسلة من الأحداث العادية جداً فى حياة أى شخص.. وبالتالى، لا يمكنك أن تلحظ مثلاً فى حلقة من الحلقات أن البطل رمى يمين الطلاق على زوجته، لماذا؟، لأن الحلقات منفصلة متصلة، وبالتالى، ستبدأ كل حلقة والبطل والبطلة كما هما.. دون طلاق أو ولادة مثلاً، أو غيرها من الأحداث الهامة وغير العادية. الأمر الثانى، هو اعتماد كل حلقة عادة على "سوء فهم" لدى طرف من الأطراف، حول موقف معين، ويظل طوال الحلقة وهو يظن فى الطرف الآخر شيئا ما، حتى نصل إلى نهاية الحلقة، ويفهم البطل الموقف بصورة سليمة، وتوتة توتة.. خلصت الحدوتة.. بالذمة، كيف نجرؤ على وصف هذا النوع من الكوميديا بأنه غير ملائم للشعب المصرى؟، فى رأيى أنه ملائم جداً، ملائم لأقصى درجة، افتح أى قناة أخبار وشاهد برامج السهرة، ادخل على يوتيوب مثلاً، وراقب الفيديوهات الأعلى مشاهدة، وستلاحظ كيف أنها كلها تنتمى لكوميديا الموقف. أبسطهالك.. راقب معى كيف نعيش فى ذات الحلقات المنفصلة المتصلة من الكوميديا.. قرار غبى من السلطة، (وقرارات السلطة كما يبدو تستحق أن نصفها كلها بالغباء)، ثم اعتراضات تليفزيونية من أشخاص لا علاقة لهم بالشارع.. اعتراضات تحمل كلها كلمات من نوعية "الانقلاب على الشرعية"، "اختطاف الدولة"، "سقوط دولة القانون"، وغيرها من الكلمات الرنانة التى يمكن أن تجدها أن قادتك الصدفة وفتحت أى كتاب من الكتب التى يدرسها الطلبة فى كلية الحقوق.. ثم، الدعوة إلى مظاهرة، لا يهم من الذى قام بالدعوة على الإطلاق، أى صفحة على فيس بوك قادرة على الدعوة إلى مظاهرة ووصفها بالمليونية (طبعاً أنا وأنت مع حق التظاهر السلمى المكفول للجميع، لكنك كما تعلم أن حق تسمية المظاهرة بالمليونية لا تنص عليه المبادئ العامة لحقوق الإنسان، والأحكام العامة لعلم المنطق).. سيكون من المسلى هنا أن تكون الصفحة بعنوان مثير، وليكن "ثورة الغضى الخامسة والخمسين". فور أن تصدر الدعوة للمظاهرة/ المليونية، تتصدر الشاشات مرة جديدة وجوها أخرى تنتمى لمعسكر السلطة، (السلطة دائماً موجودة فى معسكر، لكن هذا لا يعنى أنها عسكرية بالضرورة!)، تندد، تشجب، تحذر، وتقول كلمات من نوعية "الانقلاب على الشرعية"، "اختطاف الدولة"، "سقوط دولة القانون"، وتضيف إليها "العمالة للخارج"، "الفلول"، "الملحدين العلمانيين الكفرة الفجرة"، وكلها كلمات أيضا يمكن أن تجدها إن قادتك الصدفة وفتحت كتب طلبة كلية الحقوق. ولأنها مظاهرة لا تقف وراءها مطالب واضحة.. فسرعان ما يجد العنف طريقه إلى الشارع، والعنف فى هذا المسلسل، يحدث لأتفه الأسباب، قنبلة غاز من الأمن المركزى (الغبى، الجاهل، غير المدرب، والذى ينتمى لوزارة مطلوب تطهيرها)، أو حرق إطار سيارة قديم من أى متظاهر، أو حتى مواطن عادى مر بالصدفة بجوار مظاهرة، وشعر أن لديه رغبة فى إشعال إطار سيارة، فأشعله (وهذا حقه) فرد الأمن المركزى بالغاز، وبقيت الجماهير تسأل: من يا ترى الذى بدأ بالعنف؟.. هنا، تصبح اللحظة مناسبة لظهور شخصية كوميدية شهيرة طالما تعلق بها الشعب المصرى، إنه "الخبير الإستراتيجى"، الذى وجد اللحظة مناسبة ليدلى بدلوه فى الأحداث، ودلوه هذا يكون عبارة عن بحر من الأرقام والنظريات التى اقتبسها هو الآخر من كتب طلبة إحدى الكليات النظرية، ويقول إن الأسباب وراء العنف "عميقة"، و"لها جذور"، وإن النظام يعانى من "مجموعة من الأمراض"، وإن أمريكا "تراقب الموقف باهتمام".. وهكذا.. هنا، تظهر شخصية لا علاقة لها بالأحداث، جاءت فجأة إلى المشهد، لا أحد يعلم تحديداً من أين جاءت، لكنها شخصية محورية بالتأكيد، (لماذا هى محورية؟، لا أحد يعلم).. تظهر عادة هذه الشخصية وتقطع بث القنوات ونرى على الشاشة كلمة "عاجل"، ثم نلاحظ كيف أن القناة تترجم ما يقوله (رغم أنه يتحدث بالعربية) إلى جمل مكتوبة بعرض الشاشة، وكأنها تعرف أننا بالفعل لم نفهم شيئاً مما قال، وأننا بحاجة إلى قراءته، لعلنا نفهم، وهو أمر نادر الحدوث.. وكما ظهرت فجأة، تختفى فجأة.. وبس خلاص انتهى دورها.. ثم، تتابع الوجوه فى الظهور على الشاشة من جديد، أشخاص من هنا، وأشخاص من هناك، يتبادلون الاتهامات، ويسهر الشعب حتى الصباح فى انتظار أى جديد.. تتجلى الكوميديا فى هذه اللحظة حين تقرر بعض القنوات تثبيت كاميرا على الشارع الذى يشهد تبادل إطلاق نار بين فريقين، وتنقل لك الصورة فى إطار يحتل نصف الشاشة، ولأنها مرتبطة بجدول لبث البرامج والأفلام والمسلسلات، وعليها التزامات تجاه وكالات الإعلان، فإنها تستمر فى عرض هذه المواد فى إطار يحتل نصف الشاشة الآخر، وصدقنى هى لحظة سحرية تلك التى ستضطر فيها لمشاهدة فيلم عربى قديم من بطولة إسماعيل يس، بجوار معركة حية تحدث فى شوارع القاهرة. ولأسباب أو لأخرى، تكون اللحظة المناسبة لظهور ضيف شرف فى الحلقة، سيظهر فى هذه الحلقة فقط، ثم يعاود الاختفاء، ويظهر عادة فى مشاهد مثل "الحوار الوطنى"، "مبادرة نبذ العنف"، "جبهة يلا نلعب مع بعض"، "ائتلاف الناس اللى صحيت بدرى يوم التلات اللى فات"، وغيرها من الأسماء التى لا تعنى شيئاً فى واقع الأمر، لكنها تظهر عادة لقول المزيد من الكلام الكبير.. وتستمر الأحداث.. اقتربنا على نهاية الحلقة، نحن فى حاجة لدخول آخر شخصية، وهى التى تملك وحدها حل الموقف كله وإزالة سوء الفهم.. نعم، هو، بعينه، النائب العام.. الذى يفتح التحقيق، ثم يدلى بتصريحات من نوعية، "الخرطوش المستخدم لا يطابق الخرطوش الذى تستخدمه الشرطة"، و"لا توجد أدلة على أنه كان هناك قتلى"، أو "الشاب الذى لقى مصرعه فى الأحداث ورأينا جسده مليئا بطلقات الخرطوش هو فى واقع الأمر مات فى حادث موتوسيكل".. وهى تصريحات مسلية كما ترى.. ومليئة بالكوميديا.. ثم نصل لنهاية الحلقة، فى لحظة هادئة جميلة، حيث نرى الأبطال كلهم فى مشهد مجمع، يتبادلون الابتسامات، ويؤكدون، أن الحلقة الجديدة ستبدأ، بنفس الأبطال وذات الأحداث، وأن مطالبهم لم تتغير، ولن تتغير، الداخلية يجب أن يتم تطهيرها، والحكومة يجب أن تقال، والدستور يجب أن تعاد كتابته، والسلطة يجب أن تتسم بالشفافية، وأخونة الدولة يجب أن تتوقف، والمعارضة يجب أن تنظم نفسها، والثورة يجب أن تتطهر، والمظاهرات يجب أن تكون سلمية، والإعلام يجب أن يكون محايداً، وأنت- عزيزى المواطن- يجب أن تستمر فى مشاهدة المسلسل. وهكذا يا أولاد، نرى الحلقة الكوميدية بدأت فجأة، وانتهت فجأة.. مليئة بالفواصل الإعلانية السخيفة، رديئة الكتابة، غير مسلية بالمرة، لكننا، نرتبط بها لأسباب غامضة، وسننتظر، بمزيد من اللهفة، الحلقة القادمة، التى تتكرر فيها الأحداث كما هى، وتنتهى، ولا زال أبطال العرض كما هم، كل منهم يقف مكانه، ويحتل منصبه، ويؤدى دوره.. دون أن نصاب بملل أو نعترض.. وأنا، من هذا المكان، أوجه كلمتى للسادة منتجى المسلسلات، بأن يعيدوا التفكير فى إنتاج مسلسلات كوميديا الموقف، فهى، كما هو معروف، قليلة التكلفة، أبطالها عادة من نجوم الصف الثانى، وصالحة لإنتاج عدة أجزاء، يكفى أن تعلم أن هناك مسلسلات أمريكية تنتمى لذات النوع، استمر عرضها لأكثر من عشر سنوات.. آه والله عشر سنوات.. ولم يعترض أحد على الإطلاق.. نتمنى للجميع مشاهدة طيبة.. وكل سنة وإنتو طيبين.