فى الفيلم المشهور من السبعينات "الأب الروحى" الذى يعد من أفضل وأنجح أفلام هوليوود, يحكى المخرج فرانسيس فورد كوبولا قصة عائلة (أو عصابة) المافيا الشهيرة كورليون. العائلة تمتعت لفترة طويلة بالقوة والثراء والنفوذ السياسى والسيطرة على مسرح المافيا فى نيويورك. تعايشت معها عائلات المافيا الأخرى الأقل نفوذا واحترمت خطوطها الحمراء. محور الأحداث هو مصير رب العائلة العجوز فيتو كورليون الذى يفاجأ بمحاولة اغتيال غير متوقعة تتركه فى المستشفى بين الحياة و الموت. فى جو من الصدمة والهلع, يجتمع ابناه سونى ومايكل مع مستشاره ومحامى العائلة توم ليبحثوا خطة العمل، ورد فعلهم لمحاولة الاغتيال التى دبرها المنافس سولوزو. يعرض الفيلم ثلاثة مناهج أو استراتيجيات للتعامل مع خريطة موازين القوى الجديدة. بطريقة مبسطة بعيدة عن تعقيدات الأسلوب الأكاديمى, يستخدم المحللان السياسيان جون هولسمان وويس ميتشيل أحداث الفيلم كتشبيه لخيارات السياسة الخارجية الأمريكية. فى تصورهما, عائلة كورليون التى كانت الزعيم بلا منافس تمثل إمبراطورية الحرب الباردة الأمريكية, طريقة توم فى التعامل مع الأزمات تماثل الفكر الليبرالى المنتشر فى صفوف محترفى الديبلوماسية فى وزارة الخارجية وقيادات الحزب الديموقراطى. توم يصب كل جهوده على المفاوضات والمباحثات لكى تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل محاولة الاغتيال. يريد أن يستمع لطلبات سولوزو ووجهة نظره وكيفية إرضاءه من منطلق أن عائلة كورليون مازالت تتحكم فى كل الأوراق. أما ما يعرف بسياسة المحافظين الجدد فيمثله سونى, الابن الأكبر وولى العهد الذى يكن احتراما كبيرا لوالده المصاب ولكنه سريع الانفعال ويميل أسلوبه إلى العنف. يعتقد سونى أن الأوضاع لم تتغير وأن عائلته ما زالت مسيطرة على الساحة وأنه يجب أن يؤدب عصابة سولوزو المتمردة بالقوة ليكون عبرة لباقى العصابات. فى مواجهة التهديدات, يفتح النيران بدون خطة مسبقة لإنهاء الصراع ولا يهتم بالعواقب غير المقصودة لأفعاله فيفرق حلفاؤه القدامى بدون وعى. رغم اختلاف المنهج, إلا أن كلا من توم وسونى يستندان إلى أدوات وافتراضات الماضى وليس الحاضر. الأخ الأصغر مايكل الذى أكمل دراسته ثم الخدمة العسكرية بعيدا عن شئون العائلة والذى يتميز ببرودة الأعصاب, تجبره الظروف على الأخذ بزمام القيادة بعد أن وقع سونى فى مصيدة الخصوم وملئوا جسده بالطلقات النارية. يرى مايكل أن عالم المافيا بدأ يتغير من القطب الأوحد إلى أقطاب متعددة وأن عائلته لن تستطيع أن تتصرف كمالك الشركة الأوحد, بل يجب عليها أن تنظر إلى نفسها كرئيس لمجلس الإدارة الذى لا يستطيع أن يتجاهل أعضاءه. لا الدبلوماسية ولا العنف يمثلان استراتيجية لمايكل، ولكنهما مجرد أدوات, استخدامها خاضع لحسابات الأرباح والخسائر لصالح استراتيجيته العليا التى هى بقاء وازدهار عائلته. قد تتطلب هذه الاستراتيجية تحالفات أو معاهدات أو استخدام القوة حسب الوقت وحسب الظروف. مرونة الخلط بين القوة الناعمة والخشنة تصبح أساس التحرك. فى كتيبهما الذى نشر فى فبراير 2009 والمبنى على مقال سابق لهما فى الدوريات الأمريكية, يدعو الكاتبان السياسة الخارجية الأمريكية إلى تبنى فكر مايكل أو ما يسمونه السياسة الواقعية. هذة السياسة مبنية على النظر إلى والتعامل مع العالم "كما هو وليس كما نود أن يكون". مشكلة السياسة الخارجية فى هذا الوقت فى نظرهما أنها مبنية على عقلية القطب الواحد وتستخدم أدوات مرحلة القطبين، بينما الأقطاب تتزايد فى عالم اليوم. الركيزة الأولى للواقعية هى الاعتماد على مجموعة من الأدوات وليس أداة واحدة, أسلوب موسع للعصا والجزرة يضمن كفاءة ديبلوماسية أكثر من توم ونجاحا عسكريا أكثر من سونى. الركيزة الثانية هى الاهتمام بمصالح الحلفاء والأصدقاء وعدم توقع انصياعهم لرغبات وأوامر أمريكا بدون مراعاة مصالحهم ومكاسبهم المحتملة. الركيزة الثالثة هى المبادرة باتخاذ خطوات لتعديل المؤسسات الدولية لاستيعاب الدول الأصغر ذات التأثير المتزايد بما يساند المصالح الاستراتيجية البعيدة المدى لأمريكا، ويكون ممرا لنفوذها، وفى نفس الوقت يعكس واقع ميزان القوى الجديد. بدون هذه المبادرة, يظل الباب مفتوحا للقوى الصاعدة – مثل الصين والبرازيل والهند - لتشكل تكتلات جديدة ومؤسسات منافسة. هذه الواقعية لها جذورها فى المجتمع الأمريكى المعروف بأنه عمليا بطبعه وتاريخه. بل يمكن القول أن العجوز فيتو كان يعلم أن التهديدات جزء من الواقع، وكانت استراتيجيته تدور حول الحد من خطورتها، لأنه فهم أنه لا يمكن التخلص من كل التهديدات فى عالم تحكمه القوة. بالإضافة إلى ذلك, سعى إلى تحالفات لتحقيق المصلحة المشتركة مع المنافسين الأقل نفوذا. يبدو أن الادارة السابقة قد بدأت فى التحول إلى هذا الاتجاه فى التعامل مع ملف إيران وملف كوريا الشمالية. أغلب المراقبين وخاصة خارج أمريكا, يعتقدون أن أوباما يميل إلى ثقافة توم، ويبتعد تماما عن أسلوب سونى. لكن هل يمكن أن يكون مايكل؟