سأحكى لك حكاية سخيفة.. فاغفل كما شئت (1) ركوب هل تعرف؟ اليوم كنت ذاهباً إلى وسط البلد لمقابلة أحد أصدقائى، كنا قد اتفقنا أن نتقابل عند الملف قبل منزل النفق فى ميدان التحرير، خرجت إلى شارع التحرير قادماً من ميدان المساحة حيث أسكن، كان الجو بارداً جداً على غير المتوقع، كانت ملابسى خفيفة بالنسبة لهذا الجو، فبدأت وجنتى بالاحمرار، وعينى بالتدميع، وأنفى بإخراج سوائلها، وقفت أمام المركز الثقافى الروسى انتظر ميكروباص فارغ ذاهب إلى التحرير. كل فترة يمر ميكروباص ينادى السائق: تحرير تحرير تحرير. المشكلة الوحيدة كانت أنه ممتلىء عن آخره فكيف سأركب؟ يا لهم من سائقين مغفلين! المهم انتظرت وانتظرت حتى رأيت علبة السردين الفارغة تمر من أمامى بسرعة، ويا للمصادفة الوقحة، العربة الوحيدة الفارغة لا ينادى سائقها على الزبائن، لحسن حظى أغلقت الإشارة التى تؤدى إلى ميدان الجلاء وكوبرى الجلاء من بعده، توقف الميكروباص وجريت أنا مسرعاً حتى ألحق مكانى بين زملائى الذاهبين إلى التحرير، فتحت الباب ودخلت، انتقيت مكاناً فى الكنبة الأخيرة فى العربة، بجوار زميل ضخم الجثة، لكن لا يهم، هل سأتزوجه بالله عليك؟. هل ما زلت غافلاً؟ معك حق.. فالحكاية مملة جداً (2) امرأتان تجذبان الأنظار كما تعرف، ما زلنا نقف فى الإشارة، عسكرى المرور الرذل يفتح الإشارة ثانيتين ثم يغلقها وكأنه يستقطع الوقت من مرتبه الخاص، نتن ظلت تفتح الإشارة علينا وتغلق وفى كل مرة يتحرك السائق كم خطوة إلى الأمام ويتوقف، يسألنا، بالطبع يسألنى أنا وزميلى ضخم الجثة، زميل الميكروباص الجالس فى الكنبة التى كانت أمامى: هوا فيه إيه؟، لم يرد عليه كلانا، فنظر أمامه ثانية يتأمل العربة الفارهة التى كانت بجوارنا من نافذته، أنظر فى عينيه لأرى نظرات الحسد واضحة، لكنه يفاجئنى بنظرة صماء، انتهت منها الرغبة، يملأها اليأس، لقد أثارت كثيراً من تراب التشاؤم فى صدرى حتى كححت، وغد آخر، ماذا سنفعل؟!، بخطوات الأرنب تلك مشينا عشرة أمتار تقريباً حتى صرنا أمام بنك فيصل الإسلامى بواجهته الرخامية وآلات الصرف الآلى التى تجرح كلاسيكية المكان وأصالته. هناك، أمام واحدة من هذه الآلات كانت تقف امرأة، لا ليست جميلة، هل هذا كل ما يهمك فى الموضوع أيها المحروم؟، فلتدعنى أكمل حكايتى، كانت تلك المرأة تسحب بعض النقود من آلة الصرف تلك، كانت محجبة، أربعينية السن، ترتدى الثوب الفضفاض، كما يقضى الشرع، فجأة وجدت كل من كان فى علبة سرديننا ينظر إليها بنفس هذه النظرة الصماء، الباردة، الجافة، الغبية، المقززة، المقرفة. يتمنون أن يعرفوا كم ستسحب، مع أن مظهرها لم يكن يقول بأنها ميسورة الحال حتى، لكنه هذا الجشع الذى ظهر فى الآونة الأخيرة. مر وراء السيدة شابان يلهوان، يتضاحكان، عندما اقتربا منها ومن آلة الصرف، أبطء الشابان من مشيهما ونظرا لها يتمنيان ان يلتقطا رقمها السرى ثم يس... لا شىء، غبيان، ماذا سيفعلان بالرقم السرى دون البطاقة نفسها، المهم أنهما فى نهاية الأمر نظرا أمامهما وبدأوا يكملون لهوهم ومعاكستهم للبنات. سحبت السيدة نقودها، نظرت إلى عربتنا رفعت ورقة من فئة العشرين جنيهاً فى وجهنا، وقالت لنا بنبرة خلت من كل المشاعر الإنسانية: حتى دى يا ولاد الكلب بصينلى فيها. نظر كل من فى العربة أمامهم ولم تتغير ملامح إى منهم، كأن شيئاً لم يكن، فتحت الإشارة مرة أخرى وبدأنا بالتحرك ووصلنا فى هذه الثانيتين فى أول صف فى الإشارة. فتحت الباب حسناء: تحرير ياسطى. أومأ لها الجميع بالموافقة، بما فيهم أنا وفوق الموافقة جرعة امتنان لأنها اختارت عربتنا لتركبها، جلست فى الكنبة التى أمامى بجوار زميلى الذى سألنى عما يحدث. وسع لها مكاناً وانكمش بجوار زجاج العربة وبدأ مهمته كذكر محروم. أرخا جفنيه قليلاً، حرك بؤبؤ عينه اليمنى إلى الطرف وبدأ يتفحصها بعناية، ويرفع رأسه وينزلها ويرفع رأسه وينزلها، أوقف حركة رأسه وظل يتفحص وجهها والتمعت عيناه بشىء لا أعرفه رغبة كان أم حنين أم أمل، لا أعرف، إنها أول التماعة عين أراها منذ شهور، فما أدرانى، أنا عديم الخبرة بالالتماعات، ماذا كان يقصد بالتماعته؟ نظرت فى بؤبؤ عينه وجدت الحسناء عارية فيها، سرت ارتعاشة خفيفة فى جسدى. لاحظ الزميل أنى أراقبه وأنى ابتسم بخبث، حاول التظاهر بأن شيئاً لم يكن يحدث، واحمرت وجنتاه وأزاح نظره إلى نافذة عربتنا القبيحة الجميلة!!. هل بدأت فى التحمس؟ جميل.. إذاً فلننهى هذه الحكاية (3) ظلام الغربان فتحت الإشارة وانطلق سائق عربتنا كأنه ينتقم، مر الوقت سريعاً جداً، اتصلت بصديقى عندما وصلنا عند الأوبرا لينزل، لكنه لم يرد على، فلم أهتم كثيراً. عند منزل النفق أمرت الحسناء السائق أن يتوقف، فتحت الباب ونزلت وأنا نزلت وراءها، ظللت أمشى بجانبها لفترة حتى يعتقد الناس أنها صديقتى، رفعت صدرى إلى الأمام واتبعت رتم خطواتها، تسرع أسرع معها، تبطىء أبطىء أنا أيضا. ظللنا على هذا الوضع حتى وصلنا الميدان، كنت قد نسيت صديقى وكل شىء، لكن أرجوك لا تحزن من أجله، فأنا من يستحق شفقتك وأرجو أن تعد خيالك ليتقبل هذا المشهد العجيب الذى سأحكيه لك. أحسست بالأرض تهتز من تحتى وبدا أن كل المواطنين حولى يحسون نفس الإحساس، أرجو بعد ذلك أن تفهم أن كل ما أشعر به يشعر به جميع المواطنين حولى حتى لا اضطر لإضاعة الوقت فى تفاصيل تافهة، سمعت وقع خطوات تهز طبلة أذنى. فجأة، اندفع سيل جارف من شوارع (محمد محمود)، (التحرير)، (البستان)، (طلعت حرب)، (قصر النيل) من الغربان السوداء، تنهش لحم كل المواطنين حولهم بضراوة، بصورة أقرب من الانتقام، يتناثر دم المواطنين فى كل مكان على أرضية الميدان التى أصبحت زلقة الآن. يقترب الغراب من المواطن الغلبان يشهر منقاره ويندفع بسرعة الصقر يحاول أن يفقع له عينه فى البداية، فإن لم ينجح يكتفى بقطف قطعة من جبهة المواطن المسكين، لنصف ساعة أو أكثر لم تتوقف الغربان عن أفعالها المقززة حتى وجدت أحدهم ينزل من سيارة مصفحة كبيرة بيده لاسلكى كبير، على كتفه بعض النجوم والنسور والسيوف، سمعته يقول بصوت مرتفع: كفاية عليهم كده، أعتقد أن إحنا قضينا على الجماعة المثيرة للشغب، لدهشتى وجدت الغربان تتحول تدريجياً إلى بنى آدميين يرتدون زى الأمن المركزى الأسود، عيونهم جرداء، ملامحهم كالصحراء، بدأوا يجرون أمامهم بعض الشباب إلى عربتهم المصفحة ويلقوهم فيها بعنف شديد، سمعت صاحب النجوم والنسور والسيوف ينادى بصوت هادىء فى اللاسلكى: ادوهم التشريفة التمام، نظرت إلى المواطنين حولى وجدت أحلامهم، آمالهم، طموحاتهم، براءتهم المتبقية، شرفهم، كرامتهم تنسحب من عيونهم ببطء وسرى فى الجو دخان بارد، وكما يقول العلم، البارد يزحف على الأرض وتفرق وتشتت واختفى الدخان تحت ضربات نعول جنود أمننا المركزى. لقد انتهت القصة.. ممكن لشخيرك أن يرتفع الآن