ما أروع هذا الكائن العجيب الذى هبط على شوارع مصر منذ عدة سنوات كى يحتل كل مساحات الأسفلت المتاحة وغير المتاحة، هو ليس مركبة فضائية بالضبط، كما أنه ليس وسيلة انتقال بالضبط، وإنما يحمل بعض خصائص الاثنتين، فضلا عن خصائص أخرى يحار فيها العقل والوجدان. وبداية من الصراع على الركاب فى كل بقعة من بقاع مصر، وانتهاء باغتصاب بعض هؤلاء الركاب يمارس رواد الفضاء الذين يقودون هذه المركبة العجيبة كل أنواع القيادة التى تختلف تماما عما درج عليه البشر العاديون فى قيادة مركباتهم، فالإشارة يمين لا تعنى هذا الاتجاه تحديدا، وليس هناك ما يمنع هؤلاء الرواد من فهم الاتجاهات طبقا للرياضة الحديثة التى توصلوا إليها، وقواعد الوقوف لديهم خاصة جدا، فلا جدال أن الفرملة والتوقف فى نهر الطريق لها حكمة لا يدركها أهل هذا الزمان، ولا بأس من الميل يمينا ثم يسارا والرجوع للخلف قليلا دون حاجة للنظر فى المرايا العاكسة، فتكفى الحاسة السادسة وقرون الاستشعار التى تظهر ماشية فى رؤوس رواد الفضاء الجدد، ولو أن ذلك ليس جديدا، فقد سبق للدكتور اللواء محمد عبدالوهاب أن سأل القطار «يا وابور قوللى رايح على فين؟»، ثم إنه أمره أن «حود مرة وبعدين دوغرى»، فإذا كان القطار بجلالة قدره، ورغم قضبانه يمشى على كيفه، فكيف يحتج أحد على تلك المركبة اللذيذة المسمسمة التى تتنطط بدلال على غيرها من المركبات وبعض خلق الله من المشاه؟! لا بد أن حاقدا موتورا هو الذى ينتقد ذلك التقدم التكنولوجى غير المسبوق، والذى تحققت به لمصر «السيادة على الأسفلت»، لأن تلك المركبات تساهم بفاعلية فى حل أهم أزمتين تواجهان المجتمعات المعاصرة، فهى تحل أزمة نقل الركاب المساكين الذين لا يملكون سيارات خاصة. أما الأزمة الثانية التى تساعد هذه المركبات فى حلها، فهى تلك الأزمة التى شرحها مالتيز فى دراسته القيمة عن السكان، والتى حذر فيها من التزايد المرعب لسكان الكرة الأرضية مع التناقص المستمر فى الموارد، وبناء على ذلك تقدم تلك المركبات حلا عبقريا بتخفيض عدد سكان مصر عن طريق قتل من أفلت من برامج تنظيم الأسرة، ويبدو أن البرنامجين يكملان بعضهما البعض، فبرنامج تنظيم الأسرة هو إجراء وقائى لمنع ميلاد الإنسان، أما برنامج الميكروباص فهو إجراء علاجى لمنع استمرار الحياة أو على الأقل عكننتها وتوتيرها حتى تدفع البعض للموت بأمراض القلب وضغط الدم والسكر أو الانتحار. إن الصراع بين العربة الكارو التى يجرها الحمار وبين «الميكروباص» يلخص باختصار رائع معنى نظرية صراع الحضارات فى صياغتها المصرية، ولابد من إعداد دراسات وعقد ندوات للمقارنة بين أثر العقلية المسترخية للعربجى الذى يقود مركبته على مهل، بل قد ينام ويترك للحمار الأمر كله، مقارنة بالعقلية المستفزة لرواد الفضاء المصريين، الذين تراهم وكأنهم ملدوغون لتوهم من عشرين حنشا، وقد انحنوا على عجلة القيادة بشكل فريد، حيث إنهم لا يمسكون هذه العجلة إلا لماما، فالذراع اليمنى متجهة إلى الخلف لجمع الرسوم من الركاب، أما الذراع اليسرى فهى إما ممتدة من النافذة أو ممسكة بكوب دافئ من الشاى. ورواد الفضاء المصريين بدورهم يتطلبون أكثر من دراسة وندوة، بل يمكن تخصيص مركز دراسات إستراتيجى أو جمعية أهلية لهم، فتحت عنوان «إعطاء الفرصة للقيادات الشابة» يمكن دراسة الإنجاز الذى يتحقق أمام أعيننا فى قيادة «الميكروباص» حيث يتولى القيادة بالفعل أطفال هم براعم المستقبل الواعد الذين يكذبون ادعاءات المغرضين بأن الأجيال الشابة لا تأخذ دورها فى القيادة، كذلك يمكن وتحت عنوان «عفا الله عما سلف» أن يتم تناول ظاهرة رواد الفضاء ذوى السوابق أو المشهود لهم بالبلطجة والإجرام، لأن ما تحقق فى ظاهرة «الميكروباص» هو ثورة اجتماعية هائلة تضاف إلى سجل الثورات التى غيرت مجرى التاريخ وربما الجغرافيا، وتحت عنوان «تطبيقات فرويد على الميكروباص» يمكن بحث العلاقة بين الميكروباص والجنس، وآثار هزهزة المركبة فى إثارة الرغبة وتقوية الأداء، وربما أدى ذلك إلى اكتشاف علمى يعالج حالات العقم لدى الرجال. إن رواد الفضاء المصريين وعساكر المرور يشكلون طرفى المعادلة العبقرية التى يستمتع بها الشعب المصرى دون باقى شعوب الأرض قاطبة، فهناك تعاون مثمر بين الطرفين يؤدى فى النهاية إلى تحقيق المصالح العليا للوطن، فأغلب عساكر المرور مثلا يكتبون مخالفات لتلك الميكروباصات دون أن يؤثروا على أعصاب السائقين، لأنه سيان قرأوا أرقام السيارات المخالفة أو كتبوها، فهم أولا وأخيرا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، والأعمال بلا شك بالنيات، وحتى إذا قرأوها أو كتبوها فهناك قاعدة مريحة للتعامل: «إذا أردت أن تنجز، فأبرز الوينجز»، والوينجز هى ماركة سيجارة منقرضة، وإن لم ينقرض أثرها إلى هذه الأيام. وللرد على الحاقدين، نود أن نقول بكل وضوح إن ظاهرة الميكروباص هى اختراع مصرى مائة بالمائة، وإننا سندافع عن حقنا فى الملكية الفكرية من خلال منظمة التجارة العالمية، سقى الله أيام بناة الأهرام والسد العالى، ولعلهم يفخرون بما يحققه أحفادهم من إنجازات فى مجال السيادة على الأسفلت، وبورك رجال الفضاء المصريين مع دعاء من الأعماق أن يزيد الله من أمثالهم بما يحقق للوطن الحد الأمثل من السكان، ذلك الحد الذى قد يقتصر على رواد الفضاء وحدهم، أى يصبح كل سكان مصر هم سائقى الميكروباص والبقية الباقية من الركاب، وبعض الحمير والكلاب التى هربت من الطرق وتوارت فى قمم الجبال. أما «التوك توك» فهو إنجاز آخر، يحتاج إلى مساحة أكبر.