هناك مبادئ عديدة يقوم عليها إعداد الموازنات الحكومية ينبغى مراعاتها، أهمها: الدقة فى التنبؤ، والشمول، والربط بين البنود محل الموازنة، والبرامج، والإدارة، ومشاركة الوحدات الحكومية ذاتها فى إعدادها، حيث تستخدم تلك الموازنات باعتبارها أدوات تخطيطية ورقابة فى اتخاذ القرارات الرشيدة. فتلك الموازنات ليست مجرد تقديرات عشوائية، وإنما ينبغى أن تتضمن خططًا لتحقيق الوحدات الحكومية أهدافها، وفى ذات الوقت هى تمثل أدوات رقابية تمكن من تقييم أداء تلك الوحدات ومدى وفائها لأهدافها المخططة ومن ثم تتحقق المساءلة المحاسبية accountability – ذلك العنصر الغائب تمامًا فى دول العالم الثالث. وللأسف مازالت وزارة المالية تسير عند إعدادها الموازنات على أساس مدخل أو نظام اعتماد البنود وليس على أساس الأهداف والبرامج، الأمر الذى سيؤدى إلى الصعود للهاوية حتمًا. ويعظم من الإسراع نحو الصعود للهاوية الأسلوب العشوائى غير العملى الذى تعتمد عليه وزارة المالية فى تقرير الاعتمادات المخصصة للوحدات الحكومية "الباب الأول: الأجور وما فى حكمها. الباب الثانى: شراء السلع والخدمات. وهكذا..". بعبارة أخرى تقوم وزارة المالية بتقدير احتياجات الوحدات الحكومية بشكل يتسم بعدم الدقة، الأمر الذى يبعد الموازنة عن كونها أداة للتخطيط والرقابة، حيث لا تعبر الاحتياجات عمَّا تقوم به الوحدات من أنشطة وبرامج، وبالتالى لا تفى تلك الوحدات بأهدافها المرجوة. ومن ناحية ثانية تفتقر وزارة المالية للرؤية ووضع الحلول للمشاكل الواقعية بالرغم من إمكانية التشخيص، وبغض النظر عن معرفة أوجه العلاج، ومن ثم فإنها تلجأ لأسلوب الفهلوة المصرى.. حيث يزداد عجز الموازنة العامة للدولة على نحو متساوٍ، ولكى تبدو على أنها تحل فجوة العجز دون أن تعظم الموارد تلجأ إلى تخفيض التكاليف والاستخدامات على أساس غير علمى وواقعى، حيث تقوم بتدنية overestimating أرقام الاستخدامات "على سبيل المثال الأجور" على نحو فج على أساس فلسفة "كل نفسك.. وبعدين نتفاهم" قرب نهاية السنة المالية. ومن جهة ثالثة تلجأ وزارة المالية لسلاح فقير يرتكز على قيام الوحدة الحكومية بتمويل جزء كبير من احتياجاتها عن طريق مصطلح الموارد الذاتية "الصناديق والحسابات الخاصة"، وتتجاهل وزارة المالية مدى ونطاق تلك الموارد فى كل وحدة، حيث يختلف حجم تلك الصناديق من وحدة لأخرى، فضلاً على الطرق المختلفة التى تستخدمها فى تقدير قيمة تلك الموارد حيث تعتمد فى ذلك على مدخلين، هما: مدخل الصرف.. حيث تلجأ وزارة المالية إلى استخدام معادلة غير سليمة فى تقدير الموارد الذاتية عن طريق تحديد متوسط الصرف خلال فترة أو سلسلة زمنية على نحو غير علمى مضحك، لا تراعى مبادئه معايير المحاسبة المتعارف عليها عند معالجة المعاملات المتبادلة أو التحويلات المشتركة داخل الوحدة الحكومية، ما يعرف محاسبيًّا بقواعد إعداد الحسابات الموحدة أو المدمجة (Consolidatio). مدخل الأرصدة.. حيث تعتمد وزارة المالية على قيمة رصيد الحسابات الخاصة فى نهاية السنة المالية، وفى ذلك تفترض استمرار تحقيق تقديرات التدفقات النقدية نفسها خلال السنوات المالية المتتالية، وقد ينخفض صافى التدفقات النقدية بسبب أحداث طارئة أو ما يعرف بمخاطر التشغيل أو الأعمال، وما إلى ذلك من الأمور التى يعلمها أى شخص داخل بيئة الأعمال المصرية "سواء المحلية أو الدولية" ما قد لا تتحقق معه الأرصدة نفسها، الأمر الذى يؤثر بالسلب على تمويل احتياجات الوحدة. وبالطبع فإن اعتماد وزارة المالية على تلك المداخل أو الأساليب دون دراسة أو علم بالمداخل العلمية للتنبؤ يؤثر على تحقيق الوحدات برامجها، ومن ثم لا تتحقق الأهداف، الأمر الذى سيصعد الوحدة حتمًا للهاوية. ولا شك أن ذلك الأمر بعد ثورة 25 يناير - على زيادة حدة وتصاعد المظاهرات والاحتجاجات من قبل العاملين بتلك الوحدة من جهة، ومن جهة ثانية عدم تمكن تلك الوحدات من تدبير احتياجاتها من السلع والخدمات - لا يتحقق معه تعظيم تلك الوحدات لأدائها، فضلاً على تزايد المستحقات والالتزامات التى يتعين الوفاء بها فى التوقيت المناسب، الأمر الذى لن يتحقق، وهكذا... من جهة ثالثة لن تتمكن تلك الوحدات من القيام بالاستثمارات أو إعادة الاستثمار، الأمر الذى يترتب عليه عدم تعاظم العوائد التى يمكن أن تحققها أو عدم تطوير قدراتها وطاقتها الاستيعابية، الأمر الذى يؤثر على الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التى تهدف تلك الوحدات إلى تحقيقها. ولفقر رؤية وزارة المالية فى حل مشكلة فجوة العجز بالموازنة العامة للدولة قررت الوزارة أخيرًا - بمقتضى مرسوم بقانون ترتب عليه إصدار منشور "المنشور رقم (7) لعام 2012" - تحصيل 20% من إجمالى إيرادات الحسابات والصناديق الخاصة والوحدات ذات الطابع الخاص، وهو أمر خطير لأنه ترتب عليه ازدواج وتكرار الأمر الذى سيعجل بالوحدة الحكومية إلى أن تصعد للهاوية بحق، حيث إن تلك الموارد الذاتية "الحسابات والصناديق الخاصة" قد استخدمت بالفعل فى تمويل احتياجات تلك الوحدات كما سلفت الإشارة إليه، فكيف تأخذ وزارة المالية 20% من إجمالى إيرادات تلك الحسابات أو الصناديق وفى الوقت ذاته تستخدم الوحدة الحكومية إجمالى تلك الإيرادات فى تمويل احتياجاتها. ويزيد الأمر سوءًا فى تدنيه تقدير تلك الاحتياجات، الأمر الذى سيؤثر حتمًا مرة أخرى على الموارد الذاتية، وفى النهاية سوف ينفجر البركان فى تلك الوحدات الحكومية، وسيثور العاملون بها، وسيتدنى رضا عملائها عن الخدمات بالإنذارات والدعاوى، الأمر الذى سيحرج حتمًا إدارة تلك الوحدات الحكومية وسيُعيق حسن أدائها وسيجعلها تصعد للهاوية، من هنا يتطلب الأمر إعادة النظر فى سياسات وزارة المالية عند إعداد الموازنات للوحدات والأداء، ما يجعل المجال يتطلب إعداد مقال ثانٍ يشخص المشكلة ويضع العلاج المناسب، فى ظل مرحلة يُطلبُ خلالها تكاتف الجميع وتعاونهم مع الاعتماد على أصحاب الفكر فى وضع روشتة الشفاء، وعلى المسئولين بوزارة المالية إظهار حسن النية بالتعلم ممن يملكون ذلك الفكر الرشيد، بدلاً من السياسة القائمة المعتمدة على أن الأذكى هو الجالس على كرسى الوزارة، الأمر الذى يحتاج إلى تدخل الحكومات، لاسيما بعد ثورة 25 يناير المجيدة. أستاذ دكتور أمين لطيف.. رئيس جامعة بنى سويف