عزيزي القارئ دائمًا نسمع مصطلح التفاوض، وقد يعتقد البعض أنه يقتصر على التعامل مع الآخرين لتحقيق مصالح معينة فقط، لكن الحقيقة أعمق وأكبر حيث إن التفاوض هو سر نجاح الذات وأداة نجاح العمل وسلاح للتغلب على أصحاب النوايا المحيرة واسترداد الهيبة. ومما لا شك فيه أن فهم التفاوض لا يعني فقط كيف تكسب في موقف محدد، بل يعني كيف تحمي نفسك، تحافظ على كرامتك، وتبني مكانتك بوعي وذكاء. عزيزي القارئ، لابد أن تتفق معي أن التفاوض مع النفس هو المعركة الحقيقية. فقبل أي نقاش أو قرار أو مواجهة، يبدأ الإنسان تفاوضًا صامتًا مع ذاته حول محور الاختيار وطريقة التعامل، وخاصة أنه متعدد الألوان بين الأسود والأبيض والرمادي. هذا التفاوض الداخلي هو أساس كل تفاوض خارجي، لأنه من يحسن التفاوض مع نفسه يصبح أكثر هدوءًا وعدلاً مع الآخرين، ويعرف متى يتمسك ومتى يتنازل دون أن يخسر احترامه لذاته. من يجيد التفاوض يكون الرابح لأنه الحد الفيصل حتى في بيئة العمل، حيث يكمن الفرق بين الموظف العادي والقيادي الواعي في هذه المهارة. الشخص الذي يفاوض نفسه يعرف كيف يحافظ على حقوقه، وكيف يتعامل مع ضغوط العمل دون أن يُستنزف، وكيف يحمي مكانته داخل المنظومة. التفاوض الداخلي يحوّل الفرد إلى عنصر قوة واستقرار، ويجعل العمل أكثر إنتاجية ووعيًا. ولن يقتصر على الحياة العملية فقط، بل يمتد التأثير إلى المجتمع والوطن.فالوطن لا يُبنى فقط بالقرارات والسياسات، بل بتثقيف الوعي الفردي. فعندما يتعلم المواطن التفاوض مع نفسه، يفهم الأعمدة التي يقوم عليها أي وطن، فيدرك أن الحرية مسؤولية، والحق يقابله واجب، والاختلاف لا يعني العداء. ومن هنا يتحول الخلاف من صراع إلى حوار، ومن فوضى إلى حلول. فكل شخص يتعلم هذه المهارة يساهم بصناعة وطن أكثر تماسكًا ووعيًا، وهو المطلوب. تذكر عزيزي القارئ اصطلاح تثقيف الوعي لإدراك ما سبق، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن أن يتم ذلك؟ وهل هي مسؤولية فردية أم اجتماعية؟ نعم، فنجد أن الإعلام والتعليم من أهم وسائل الدعم لصناعة الوعي. الإعلام اليوم يملك قدرة هائلة على تشكيل وعي الجمهور، من حيث: هل يعلّم الناس الصراخ أم يعلمهم الحوار؟ التعليم كذلك يجب أن يُدرّس كيفية التفاوض منذ الصغر، ليس فقط كمهارة عمل، بل كمهارة حياة. فحين نعلّم الأطفال والشباب كيف يرفضون باحترام، ويطالبون بحقهم بوعي، ويختلفون دون تحريض أو عنف، نصنع جيلًا واعيًا قادرًا على اتخاذ قرارات سليمة في حياته الشخصية والمهنية، وصانع فرص لا متلقٍ فقط. وهناك سؤال آخر: هل مهنة التفاوض قاصرة على رجال الأعمال وأرباب المناصب العليا فقط؟ الإجابة هي "ليس كل ناجح مليونير" فأخطر خرافة اليوم أن النجاح يُقاس بالثروة. عزيزي القارئ الوطن يحتاج موظفًا شريفًا صاحب مشروع صغير مبتكرًا، شابًا واعيًا وكل هؤلاء يحتاجون مهارة واحدة مشتركة التفاوض مع النفس قبل التعامل مع الآخرين أو السوق الحياتية ولا يشترط أن يكون من أصحاب الملايين، بل المقياس هو الوعي والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة. وكعهدكم بي، نجد أن التفاوض ليس مهارة ترفيهية، بل استراتيجية حياتية تتطلب حكمة، صبر، وضوح رؤية، وثبات على المبادئ.فنحن نؤمن أن أعظم انتصار يحققه الإنسان ليس على الآخرين، بل على فوضاه الداخلية.فحين نتعلم التفاوض مع أنفسنا، نهدأ في الخلاف نصبح أكثر صدقًا في العمل وأكثر احترامًا للذات، ونقترب من أوطاننا بلا شعارات، ونصنع حياة متوازنة وواعية.عزيزي القارئ أؤكد مرارًا وتكرارًا أن التفاوض الحقيقي لا يبدأ على الطاولة، بل يبدأ في الداخل، حيث تُحسم المعارك الكبرى في معظم الأمور والأحداث الحياتية. ومن يعرف كيف يفاوض نفسه، يعرف كيف يربح حياته كاملة.