تلقي الفوضى بظلالها على كافة مناحي الحياة في إسرائيل. إذ لم تعد المظاهرات العارمة التي تقودها التيارات الدينية الراديكالية "الحريديم" تبقي ولا تذر، لقد تخطت المظاهرات حواجز الاحتجاجات التقليدية وانزلقت باتجاه الصدام العنيف مع الشرطة الإسرائيلية، مدفوعة بتنامي شعور قطاع واسع من المتدينين اليهود بالاضطهاد وملاحقة المؤسسة الرسمية لهم. يتزامن هذا مع تراجع في تأثير المرجعية الدينية "الحاخامية" وتآكل التراتبية الهرمية الصارمة في القيادة التي لطالما ميزت هذا القطاع المتنامي في إسرائيل؛ تلك التراتبية التي يصدر فيها الأمر من المرجعية الدينية، الساسة ينفذون، والشارع يطيع. يتلاشى كل هذا الآن بمرأى ومسمع من بنيامين نتنياهو وأركان ائتلافه الحكومي، مما ينذر بتداعيات جدية قد تعصف بحظوظهم في الانتخابات البرلمانية المقبلة. لا يعدو قانون التجنيد المقترح من قبل الحكومة الإسرائيلية أكثر من كونه محاولة لشراء الوقت والبقاء السياسي. فهو بمثابة قنبلة تشريعية موقوتة تتشكل عناصرها من محاولة إرضاء المتدينين، والتحايل القانوني على المحكمة العليا، وامتصاص غضب الجيش في ظل التآكل الواضح في قواه البشرية. وهي عناصر من شأنها أن تؤدي إلى تفجير هذه القنبلة الموقوتة في وجوه صانعيها. ورغم أن القانون يحابي القطاع المتدين إلا أنه قوبل باستهجان كبير من قبل المتدينين أنفسهم والمعارضة الإسرائيلية على حد سواء. إذ لا يفرض القانون الجديد على المتدينين التجنيد الإجباري كما هو الحال مع العلمانيين، بل يكتفي بتحديد حصة سنوية لا تتجاوز 3000 مجند من التيارات الحريدية، دون اعتبار المتخلفين عن أدائها مطلويين بتهمة التهرب من الخدمة، وبدلاً من ذلك، يكتفى باقتطاع مبالغ محددة من ميزانيات المدارس الدينية، وهو إجراء يمكن لهذه المدارس الالتفاف عليه وتعويضه من خلال التبرعات والهبات الحكومية الأخرى. من القضايا الشائكة الأخرى التي قد يدفع إقرارها القطاعات العلمانية إلى الانضمام لاحتجاجات المتدينين تلك المتعلقة بتخفيض سن الإعفاء من الخدمة العسكرية من سن 26 إلى 21 عاماً، إذ يتيح القانون الجديد لطلاب المدارس الدينية الخروج إلى سوق العمل مبكراً بدلاً من البقاء في المدارس الدينية تحايلاً على التجنيد حتى بلوغ سن السادسة والعشرين، وهو ما يخل بمبدأ المساواة مع الجنود النظاميين والاحتياط الذي يضطرون لأداء الخدمة العسكرية حتى سن الأربعين. ورغم سعي الحكومة الإسرائيلية لامتصاص الغضب المحتمل استباقياً، عبر حرمة من الوعود والحوافز المالية للجنود النظاميين والاحتياط بزيادة رواتبهم ومنحهم تسهيلات في شراء المنازل وخلافه. غير أن الأمر لدى جنود الخدمة النظامية والاحتياطية لا يقتصر على الحوافز والتسهيلات المالية بقدر ما يتعلق بمبدأ العدالة في توزيع الأعباء القتالية. اللافت في الاحتجاجات والتظاهرات 'الحريدية' هو تمددها لتشمل مدناً أخرى غير القدس -المعقل الأكثر تشدداً للمتدينين اليهود- الأمر الذي يعني أنها نجحت في استقطاب التيارات الحريدية المعتدلة التي لطالما آمنت بالتسويات السياسية. هذا التطور يحد من قدرة القادة السياسيين للحريديم مثل درعي وغيره على إبرام صفقات وسطية بمعزل عن رغبة الشارع، ويعزز المؤشرات على تآكل السلطة الهرمية التقليدية؛ إذ تجاوز الجمهور الحريدي سلطة الحاخامات وبات هو من يحدد طبيعة الحراك وسقفه. ففي حين قبلت القيادة الدينية والسياسية -على اختلاف مشاربها- بالقانون المقترح كحلٍ وسط لتجنب التصعيد وضمان بقاء الحكومة، اعتبر الشارع الحريدي القانون بمثابة خيانة للتوراة وتنازلاً عقائدياً. هذا الانفصال بين "رأس" المجتمع الحريدي (المرجعيات والمستوى السياسي) وبين 'جسده' (الشارع) قد يؤدي فعلياً إلى إسقاط الحكومة. وبناء على ما سبق، فإن المعضلة الأبرز أمام بنيامين نتنياهو تكمن في قدرته على خلق صيغة توفيقية بين القوى المتصارعة؛ فإنْ انصاع لضغوط الحريديم وسحب القانون أو أفرغه من مضمونه، اصطدم بقاعدة حزبه (الليكود) التي يتعاظم قلقها من تفرد الجنود بحمل عبء الخدمة، لا سيما بعد استقالة أكثر من 600 كادر عسكري. أما إذا أصر على تمرير قانون تجنيد صارم يرضي الجيش والمكمة العليا، فإن الأحزاب الحريدية (وخاصة أغودات يسرائيل) ستجد نفسها مجبرة -تحت ضغط الشارع- على الانسحاب وإسقاط الحكومة."