لم تعد التغطيات الإخبارية الكبرى تُقاس بسرعة نقل الحدث فحسب، بل بقدرتها على تفكيك أبعاده ووضعه في سياقه الصحيح.. في هذا الإطار، جاءت التغطية المشتركة التي قدمتها بالأمس قناتا "القاهرة الإخبارية" و"روسيا اليوم RT Arabic" لمنتدى الشراكة الروسية–الأفريقية، لتقدم نموذجاً مختلفاً في المعالجة الإعلامية، نموذجاً يقرأ ما وراء الصورة، ويستنطق دلالات حدث دولي تتقاطع فيه السياسة بالاقتصاد، وتتشابك فيه المصالح الإقليمية والدولية. في عالم تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، لم يعد كافياً أن يكتفي الإعلام بدور "الناقل"، بل بات مطالباً بتقديم "التفسير". من هنا، لفتت هذه التغطية المشتركة الانتباه، فهي لم تكن مجرد تعاون تقني عابر، بل تفعيل حي لمذكرة التعاون الموقعة بين قناة RT Arabic وقطاع القنوات الإخبارية بشركة "المتحدة"، لتعزيز الشراكة الإعلامية بين الجانبين. لم تعتمد التجربة على البث المشترك كاستعراض للتنسيق، بل قامت على رؤية تحريرية واضحة سعت لتقديم صورة شاملة ومتوازنة للمنتدى. فمن متابعة الجلسات الافتتاحية وكلمات القادة، إلى الاجتماعات الثنائية، رُبطت التفاصيل كافة بسياقها السياسي والاقتصادي الأوسع، مما منح المشاهد رؤية بانورامية للحدث. كان أداء منى سلمان (مذيعة RT Arabic) وأحمد أبو زيد (مذيع القاهرة الإخبارية) أحد أبرز عناصر القوة في هذه التغطية. فقد تجاوز دورهما حدود التقديم التقليدي إلى إدارة نقاش واعٍ بالسياق، يطرح الأسئلة الجوهرية ويمنح المشاهد "مفاتيح" الفهم، بعيداً عن السرد الجاف للتصريحات الرسمية. قدمت منى سلمان نموذجاً للإعلامية الفطنة للحدث ولدورها ومهمتها؛ حيث نجحت في توجيه أسئلة دقيقة حافظت على عمق النقاش ومنعته من الانزلاق نحو التكرار أو الخطابة الإنشائية. في المقابل، أثبت أحمد أبو زيد احترافية في إدارة الحوار، جامعاً بين وضوح الطرح والانتباه للتفاصيل، مع قدرة على ربط آراء الضيوف بالواقع السياسي. هذا النمط من الأداء الثنائي يعكس تطوراً في مفهوم "المذيع" بوصفه شريكاً في صناعة المعنى لا مجرد ناقل للمعلومة. الأهم في هذه التغطية هو إعادة تقديم القارة الأفريقية بوصفها طرفاً فاعلاً في المعادلة الدولية، وليس مجرد ساحة صراع بين القوى الكبرى. التركيز على ملفات التنمية المستدامة، ونقل التكنولوجيا، والطاقة، والأمن الغذائي، منح المشاهد صورة مغايرة لطبيعة الشراكة الروسية–الأفريقية، باعتبارها محاولة لإعادة صياغة العلاقات الدولية على أسس أكثر تنوعاً وتوازناً. كما أسهم التواصل المباشر مع الحدث ومداخلات المحللين في كسر الطابع البروتوكولي المعتاد، حيث سعت التغطية لتحليل الانعكاسات المحتملة للمنتدى على موازين القوى في ظل عالم يتجه بوضوح نحو "التعددية القطبية". في رأيي أن هذه التجربة تعكس انتقالاً مهماً من "إعلام المناسبات" إلى "إعلام التحولات"؛ وهو النمط الذي يواكب التغيرات الكبرى ويفسرها للجمهور بدل الاكتفاء بتوثيقها. لقد قدمت "القاهرة الإخبارية" و"روسيا اليوم" نموذجاً يستحق التوقف عنده كحالة جادة لتطوير الخطاب الإخباري العربي، وجعله أكثر قدرة على قراءة العالم وفهم تعقيداته بوعي وعمق.