جاء التصريح المصري بشأن إمكانية تفعيل آليات الدفاع المشترك مع السودان محمّلًا بدلالات تتجاوز الإطار السياسي التقليدي، ليعكس تحوّلًا واضحًا في تقدير القاهرة لطبيعة الصراع الدائر جنوب حدودها. فالمسألة لم تعد نزاعًا داخليًا سودانيًا أو صراعًا على موارد وسلطة، بل تطورت إلى ساحة اشتباك إقليمي ودولي تتقاطع فيها مصالح قوى كبرى، بما يحمل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري. هذا الخطاب العلني يُعد إعلانًا استراتيجيًا بأن القاهرة تنظر إلى السودان باعتباره عمقًا حيويًا لأمنها القومي، وأن أي محاولات لإعادة تشكيل المشهد هناك أو تفكيك الدولة الوطنية لن تُقرأ باعتبارها شأنًا داخليًا، بل كجزء من معادلة أمن إقليمي أوسع. ومن ثم، فإن الرسالة المصرية أقرب إلى ردع محسوب يهدف إلى ضبط إيقاع الصراع ومنع تمدده شمالًا. وفي موازاة ذلك، يتكرر الجدل حول اتفاقيات الغاز بين مصر وإسرائيل، وغالبًا ما تُقدَّم بوصفها ورقة ضغط محتملة على القاهرة. غير أن القراءة الاستراتيجية تكشف محدودية هذا الطرح، إذ لا يمثل الغاز الإسرائيلي سوى نحو 8% من إجمالي استهلاك مصر، ما يُفقده أي قدرة حقيقية على التأثير أو الابتزاز، حتى في حال توقف الإمدادات. ويكتمل هذا المشهد مع دخول مصر عصر الطاقة النووية السلمية، بما يحمله من تحول بنيوي في مزيج الطاقة الوطني، يقلل الاعتماد على الغاز تدريجيًا، بالتوازي مع مشروعات كبرى في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، واستثمارات متنامية في الهيدروجين الأخضر، تضع القاهرة في موقع متقدم على خريطة أمن الطاقة العالمي خلال العقد القادم. الأهم أن منطق الدبلوماسية الاقتصادية يحكم هذه الاتفاقيات. فمصر لا تدخل أي ترتيب اقتصادي دون حسابات دقيقة للعائد الاستراتيجي، والدليل أن محاولات إسرائيل المتكررة لتعطيل الصفقة أو إعادة التفاوض بشأنها تعكس شعورها بعدم تحقيق المكاسب المرجوة، مقابل شروط سعرية وتكلفة نقل أقل وعائد استثماري أكبر يصب في صالح البنية التحتية المصرية. واللافت أن القاهرة لم تقدم أي تنازل في صفقة الغاز؛ بل شعرت إسرائيل بالإخفاق وحاولت التعطيل، قبل أن توافق تحت ضغوط أمريكية لضبط الاستقرار الإقليمي، دون مساس بالمواقف المصرية أو تراجع عن أي من ثوابتها في الملفات الكبرى. هذا النهج ليس استثناءً، بل امتداد لسياسة مصرية راسخة تفصل بين الالتزامات التعاقدية والمواقف السياسية، وتستخدم الاتفاقيات الدولية كأداة لضبط السلوك الإقليمي لا كمدخل للتنازل. وهو ما ينسجم مع طبيعة الإدارة المصرية لعلاقاتها المعقدة منذ عقود. في المقابل، تتصاعد الهواجس الإسرائيلية مع اتساع هامش الحركة الاستراتيجية المصرية، خاصة على الصعيد العسكري. فمنذ 2014، ومع صفقات نوعية مثل الرافال والميسترال والجويند، ثم التوسع في التصنيع المحلي والدخول في سلاسل التوريد العالمية، بات واضحًا أن مصر تبني قوة شاملة لا تعتمد فقط على الاستيراد. وعلى المستوى الصناعي العسكري، تعكس الطائرات المسيّرة المصرية الحديثة، وعلى رأسها منظومة «جبار»، قفزة نوعية في القدرات المحلية، تؤهل مصر لدخول نادي مصدّري السلاح عالميًا بأرقام كبيرة، وبترتيب إقليمي ودولي يتسق مع ثقلها الجيوسياسي وقدراتها الصناعية المتراكمة. في ظل تراجع أدوار دول الطوق التقليدية، تبدو مصر اليوم الفاعل الوحيد القادر على إعادة ضبط التوازنات الإقليمية. فهي لا تلوّح بالقوة، لكنها تبنيها، ولا تبحث عن المواجهة، لكنها تفرض معادلات ردع تمنع فرض الأمر الواقع عليها. في المحصلة، تتكامل الرسائل المصرية من السودان إلى الطاقة إلى التسليح ضمن رؤية واحدة: حماية الأمن القومي عبر الردع الذكي، والاستقلال الاستراتيجي، وإدارة الصراع بمنطق الدولة القادرة على الفعل لا رد الفعل، في إقليم لا يعترف إلا بموازين القوة المحسوبة. كما يظهر بوضوح أن الموقف المصري لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث للمنطقة، إذ تُدار الملفات الإقليمية وفق آليات وسياسات وطنية مستقلة، بعيدًا عن أي تبعية خارجية. القاهرة تمضي بخطى ثابتة نحو امتلاك عناصر القوة الشاملة، العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، لتفرض معادلات الردع الذكي، وتثبت أن استراتيجيتها تقوم على حماية الأمن القومي وصياغة الاستقرار الإقليمي وفق مصالحها الوطنية، لا وفق أهواء الآخرين.