أدركت مصر أن التخطيط للمستقبل لا يكتمل دون تثبيت موقعها كلاعبٍ إقليمى طموح يسعى لتبريد ساحات الصراع لا إشعالها نجحت مصر فى ترسيخ موقعها كمحور لتسييل الغاز الطبيعى وإعادة تصديره مستفيدةً من بنيتها التحتية المتطورة تنفَّس العالم الصعداء بعد توقف الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، لكن التوترات لم تغب طويلًا، فمع كل خلافٍ جديد بين واشنطن وطهران تهتز الأسواق بين الاستقرار والترقب، وتتراجع الاستثمارات العابرة بفعل المخاوف من قرارات أمريكية، مثل فرض تعريفات جمركية جديدة، هذه التقلبات لا تترك أثرها فقط على الأسواق الناشئة، بل تمتد لتقويض النمو الاقتصادى العالمى الذى لم يتعافَ بعد من صدمة الإغلاق أثناء وباء كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية والاضطرابات المستمرة فى الشرق الأوسط. أغلب مراكز الدراسات الإقليمية والدولية تُشير إلى أن الصراع على الطاقة كان وما زال العامل المحورى فى تفكيك الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، حيث يتم استخدام الطاقة كأداة للهيمنة وإعادة رسم خرائط النفوذ، وذلك عبر التدخلات الخارجية وتأجيج النزاعات وإضعاف استقرار الدول للسيطرة على مواردها وممراتها الحيوية. ولفهم أعمق للصراع العالمى على الطاقة يجب العودة إلى ما كتبه زبيغنيو بريجنسكى، مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق، فى كتابه الشهير رقعة الشطرنج، حيث أكد أن السيطرة على أوراسيا - التى تشمل الشرق الأوسط - تعنى امتلاك مفاتيح الطاقة العالمية، ومن ثمَّ مفاتيح النظام العالمى برمّته، وهو ما يتقاطع مع تقرير وكالة الطاقة الدولية لعام 2021، والذى أشار إلى أن الشرق الأوسط سيظل لعقودٍ القلب النابض لإمدادات الطاقة فى العالم، وأن الصراعات الجيوسياسية فى المنطقة ترتبط مباشرةً بممرات الطاقة ومواردها. الطاقة لم تعد موردًا اقتصاديًا فحسب، بل تحوَّلت إلى عنصر استراتيجى يُحدِّد مكانة الدول فى النظام العالمى، ويُعيد تشكيل علاقاتها الخارجية، ومن هذا المنطلق، تسعى دول كبرى إلى تأمين مصادر طاقتها، فى حين تُوظِّف دول أخرى موقعها الجغرافى وقدراتها لتصبح مراكز إقليمية للطاقة. «وقود وغضب» عنوان بالغ الدلالة اختارته فاينانشال تايمز لوصف الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، وتلخيص علاقة الطاقة بالصراع، ويُفسِّر - فى تقديرى- التوجُّه المصرى المبكر للتحوّل إلى مركز إقليمى للطاقة، باعتباره قراءة استراتيجية استبقت انفجار المشهد فى الشرق الأوسط، ودليلًا على وعى مبكر بأن خرائط الصراع المقبلة سيتم رسمها على خطوط الغاز والنفط والممرات الحيوية. لقد أدركت مصر أن التخطيط للمستقبل لا يكتمل دون تثبيت موقعها كلاعبٍ إقليمىٍّ طموح، يسعى لتبريد ساحات الصراع لا إشعالها، وتعزيز الاستقرار عبر الاستثمار فى الطاقة كمصدر للنمو، وسلاح للسلام، وأداة لفرض التوازن فى بيئة جيوسياسية مضطربة. وكانت البداية عند الدور المحورى الذى تلعبه القاهرة فى منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF)، والذى تأسَّس عام 2020 بمبادرة مصرية، وضم فى عضويته دولًا رئيسية مثل: اليونان، قبرص، إيطاليا، فلسطين، إسرائيل، الأردن وفرنسا، مع مشاركة فاعلة من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة بصفة مراقب. وقد مثّل المنتدى نقلة نوعية فى إعادة صياغة معادلات التعاون الإقليمى، حيث أتاح لأول مرة إطارًا مؤسسيًا يجمع دولًا كانت فى حالة توتر أو انقسام سياسى، تحت مظلة المصالح الاقتصادية ومشروعات الطاقة المشتركة. ومن خلال هذا المنتدى، نجحت مصر فى ترسيخ موقعها كمحور لتسييل الغاز الطبيعى وإعادة تصديره، مستفيدةً من بنيتها التحتية المتطورة، وعلى رأسها محطتا الإسالة فى إدكو ودمياط، بالإضافة إلى موقعها الجغرافى بين الأسواق المصدِّرة والمُستهلكة للطاقة. كما عزَّز المنتدى من موقع القاهرة كممرٍ استراتيجىٍّ للطاقة بين شرق المتوسط وأوروبا، خاصة فى ظل الأزمات العالمية المرتبطة بإمدادات الغاز، وسعى الاتحاد الأوروبى لتنويع مصادره بعيدًا عن الاعتماد على روسيا. وعكس الدور القيادى للقاهرة فى المنتدى رؤيتها الواقعية لملف الطاقة، وقدرتها على تحويل التحديات الإقليمية إلى فرصٍ للتعاون والتنمية، بما يدعم السلام والاستقرار ويُعزِّز أمن الطاقة الإقليمى والدولى. لم يكن الغاز فقط محل اهتمام الدولة المصرية، بل كانت رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسى تتجه أيضًا للطاقة المتجددة، كهدفٍ من أهداف التنمية المستدامة التى تُريد مصر تحقيقها، وبحسب تقرير حديث للمجلس العالمى للطاقة الشمسية، نشرته دورية The Africa Report الفرنسية، تصدَّرت مصر قائمة الدول الإفريقية الجاذبة للاستثمار فى الطاقة الشمسية، حيث تستحوذ مع جنوب إفريقيا على نحو 40% من الاستثمارات الأجنبية فى هذا المجال، وهو ما يعكس نجاح القاهرة فى تسويق نفسها كمركز طاقة واعد. وتُعتبر القدرات المصرية فى مجال الطاقة محل اهتمام للعديد من الدول الكبرى وعلى رأسها الصين، حيث شهدت الأيام الماضية زيارة رئيس مجلس الدولة الصينى «لى تشيانج» إلى القاهرة، حيث التقى الرئيس السيسى، وناقش الجانبان فرص التعاون فى مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة، ووفقًا للسفير محمد الشناوى، المتحدث الرسمى باسم رئاسة الجمهورية، فإن الصين أبدت اهتمامًا خاصًا بمشروعات الطاقة النظيفة، وربطها بتطوير الصناعات الخضراء، وفى مقدمتها السيارات الكهربائية. ذلك الاهتمام الصينى، إلى جانب الاهتمام الأوروبى والأمريكى المُتزايد يعكس ثقةً متناميةً فى قدرة مصر على تأمين مستقبل طاقة مستدام، يُراعى التوجّه العالمى نحو الطاقة الخضراء وتقليل البصمة الكربونية. فى إبريل الماضى نشرت صحيفة The National تقريرًا مطولًا، استعرض بشكلٍ متوازنٍ الطموحات المصرية فى ذلك المجال ونشرته تحت عنوان «مصر تكشف عن طموحاتها لتصبح مركزًا إقليميًا للطاقة»، تناولت فيه الاستراتيجيات التى تتبعها القاهرة لتعزيز مكانتها، وحدَّدتها فى عددٍ من النقاط هى: 1- التوسّع فى إنتاج النفط والغاز داخليًا، وزيادة الاحتياطيات. 2- تحويل مصر إلى مركز تجارى إقليمى لتداول الطاقة، يخدم أسواق إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا. 3- رفع مساهمة مصادر الطاقة المتجددة إلى 42% بحلول 2030، ضمن الاستراتيجية المتكاملة حتى عام 2035. 4- تنفيذ مشروعات ضخمة مثل بنبان للطاقة الشمسية، وحقول الرياح بالبحر الأحمر، وربط كهربائى متطور مع الدول المجاورة. 5- تطوير بنية تحتية ذكية، تشمل محطات طاقة نووية وبطاريات كهربائية، وتشجيع استثمارات القطاع الخاص، خاصة فى مجالات الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة. إن تحوّل مصر إلى مركز إقليمى للطاقة ليس مجرد إنجاز اقتصادى، بل هو ركيزة استراتيجية، تُعيد تموضع الدولة المصرية فى قلب معادلات الإقليم، وذلك فى زمن يتم فيه إعادة رسم خرائط النفوذ وفق مصادر الطاقة وممراتها. «الاستقرار» هو كلمة السر فى نجاح أى مشروعٍ إقليمىٍّ، خاصة ونحن نعيش فى محيط مضطرب وصراعات دولية لا تهدأ، تلقى بظلالها الثقيلة على الجميع، لكن مصر ومن خلال تجربتها السياسية والدبلوماسية أثبتت مرارًا أنها نقطة ارتكاز نادرة فى شرق أوسط متقلب، وأنها دولة تُؤمن بالمصالح المتبادلة، وتطرح نفسها كوسيطٍ عاقلٍ يسعى إلى الحلول الجماعية لا المكاسب الصفرية، وتُقدم نموذجًا للتعاون العابر للحدود، يُعزِّز الأمن، ويفتح أبواب التنمية، ويُحوّل الطاقة من مصدر صراع إلى أداة شراكة.