الرئيس وضع الانتخابات في إطارها الأخلاقي والدستوري مشهد انتخابي استثنائى في لحظة إقليمية ودولية شديدة التعقيد سيادة قضائية شاملة والصندوق يعبر عن الإرادة الحقيقية للناس المجلس القادم سيكون مجلسا مختلفا شرعيته لا تستمد فقط من نصوص الدستور فقط بل من طريق مر عبر بوابات ديمقراطية حقيقية لا يختلف إثنان من المفكرين السياسين على أن أهم علامات نضج الدول والأنظمة السياسية هي في قدرة الدولة على أن تحقق التوازن الدقيق بين الاستقرار الاقتصادي ومتطلبات الأمن القومي ، في نفس الوقت الذي تتحرك فيه بخطى ثابتة نحو التحول الديمقراطي الشامل ، وترسيخ منطق دولة المؤسسات التى تتقاسم فيها السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية إدارة الأمة بإسم الناس ، ولمصلحة الناس أولا وقبل أي شئ . فمتطلبات الأمن في إقليم ساخن تحتاج إلى رؤية محسوبة بدقة تصنع هذا التناغم الدقيق بين الاستقرار والتغيير ، وبين الخوف من الفوضى ، والثقة في أن المجتمع قادر على تفادي السقوط في فخ الانفلات العاصف ، ومن هنا فإن نضج الدولة يتجسد في مدى استعدادها أن تفتح المجال العام بثقة مطلقة في الناس ، بينما تحتكم إلى قواعد واضحة وشفافة وعادلة ، وإلى سيادة قضائية شاملة وتترك الصندوق يعبر عن الإرادة الحقيقية للناس .
هذا المعنى هو ما يجعل المشهد الانتخابي الراهن في مصر مشهدا استثنائيا، لا لأنه يخلو من التحديات أو الاختلافات، بل لأنه جرى في لحظة إقليمية ودولية شديدة التعقيد، لحظة تضغط فيها الأزمات الاقتصادية، وتتصاعد فيها الصراعات المسلحة، وتنهار فيها تجارب سياسية في دول قريبة، بينما تختار الدولة المصرية أن تمضي في استحقاقها الديمقراطي، وأن تؤكد أن بناء الشرعية لا يتوقف مطلقا ، وأنه ينمو بين الإدارة السياسية وبين الناس ، وأن قيادة الدولة بحسم وقوة وسط هذه الاضطرابات الإقليمية لا تتعارض مع توسيع مساحة المشاركة في المجتمع على مختلف الأصعدة . وفي النموذج المصري تحديدا ، لا تشكل الانتخابات البرلمانية استحقاقا دستوريا فحسب ، لكنها تتحول إلى مرآة تعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والإرادة الشعبية، وبين النصوص المكتوبة في الدستور والقانون ، وبين الضمير الحي الذي يجمع القيادة السياسية مع الناس في مزاج نفسي واجتماعي وسياسي واحد ، وهذا ما شهدناه عيانا بالفعل في العلاقة بين الرئيس والناس في هذه الانتخابات. ولا يمكن قراءة هذا المشهد بمعزل عن الدور السياسي المباشر للرئيس، الذي اختار منذ البداية أن يضع الانتخابات في إطارها الأخلاقي والدستوري، لا في إطار التعبئة أو التوجيه، فالدعوة الصريحة إلى احترام إرادة الشعب، والعمل وفقا لما يرضي الله، والتأكيد على أن الله شاهد علينا جميعا، لم تكن مجرد عبارات إنشائية، بل رسالة سياسية واضحة المعنى، تؤكد أن الشرعية لا تكتمل إلا بالنزاهة، وأن السلطة تفقد معناها إذا انفصلت عن الضمير الشعبي والمعايير الأخلاقية. هذا الخطاب الرئاسي أسس لمناخ عام مختلف، مناخ يشعر فيه القائمون على العملية الانتخابية، والمرشحون، والناخبون، بأن هناك سقفا أخلاقيا لا ينبغي تجاوزه، وأن الدولة نفسها تضع ثقلها خلف نزاهة القواعد لا خلف نتائج بعينها تحدد مصير البرلمان المقبل ، وهو ما انعكس على سلوك المؤسسات، وعلى غياب مظاهر التدخل الفج، وعلى إدارة المشهد بثقة هادئة، تعكس إدراكا متقدما بأن الديمقراطية المستقرة لا تقوم على التحكم والسيطرة في العملية الإنتخابية أو في نتائجها ، بل على الاطمئنان إلى قوة الدولة وقدرتها على استيعاب التنوع السياسي واحترام إرادة الناخبين . والأهم من ذلك في تقديري ، أن الإرادة الرئاسية هنا لم تتجسد في إصدار التعليماتبل في ترك المساحة كاملة للناس للتعبير عن أرائها ، والاستجابة الفورية لمطالب المواطنين ، والتدخل المباشر إذا مالت كفة ميزان العدل ، وانحرفت بعض القوى بأصوات الناس بعيدا عن العدالة ، ومن هنا تزايدت ثقة الناس في العملية الانتخابية برمتها ، وفي إرادة الرئيس بأن تكون النتيجة معبرة بصدق عما يطمح له المصريون في نواب برلمانهم المقبل . و في هذا السياق، يبرز الدور المحوري للقضاء المصري، الذي لم يكن مجرد مشرف إجرائي على العملية الانتخابية، بل كان الضامن الأهم لنزاهتها ومصداقيتها، فحضور القضاء في كل مراحل العملية، من فتح اللجان إلى الفرز وإعلان النتائج، أعاد الاعتبار لفكرة أن الصندوق لا يكون نزيها إلا إذا كان محاطا بسياج قانوني صارم، لا يخضع لأي اعتبارات سياسية أو ضغوط ظرفية، وهذا الحضور لم يكن شكليا، بل انعكس مباشرة على سلوك المرشحين، وعلى ثقة الناخبين، وعلى درجة القبول العام لما أسفرت عنه النتائج. واحد من أهم المؤشرات التي لا يجوز التقليل من دلالتها، هو مشهد الإعادات في عدد كبير من الدوائر، فالإعادة هنا ليست علامة ارتباك، بل دليل صحة، إذ تعني أن النتائج لم تكن مفروضة، وأن التنافس كان حقيقيا، وأن فارق الأصوات لم يسمح بحسم مصطنع أو متعجل، كما تعني أن صوت الناخب كان مؤثرا، وأن كل ورقة في الصندوق كان لها وزنها، وأن العملية الانتخابية تركت مساحتها الطبيعية للتوازن والاختلاف، لا للإجماع القسري. المشهد الانتخابي الحالي أعاد أيضا طرح سؤال بالغ الأهمية حول مفهوم قوة الدولة، فالقوة هنا لم تظهر في القبضة الأمنية، ولا في السيطرة على النتائج، بل في القدرة على إدارة عملية معقدة بهذا الحجم، في توقيت حساس، وبحد أدنى من التوتر، وبحد أقصى من الانضباط، وهذه القوة الهادئة هي التي تجعل من التجربة الانتخابية رصيدا سياسيا للدولة، لا عبئا عليها. ومن هنا، يمكن القول إن المجلس القادم، أيا كانت تركيبته السياسية، سيكون مجلسا مختلفا من حيث الشرعية، فشرعيته لا تستمد فقط من نصوص الدستور، بل من الطريق الذي جاء منه، طريق مر عبر بوابات ديمقراطية حقيقية، شارك في حراستها القضاء، ومارس فيها الشعب حقه دون خوف، ورعتها إرادة سياسية اختارت أن تراهن على الوعي، لا على الإدارة من فوق. إن قوة أي مجلس نيابي لا تقاس بعدد مواليه أو معارضيه، بل بقدرته على التعبير عن المجتمع، وعلى العمل داخل إطار دستوري يحترم الفصل بين السلطات، وعلى أن يكون ساحة نقاش حقيقي، لا مجرد غرفة تصديق، والمشهد الحالي، بكل ما يحمله من مؤشرات، يفتح الباب أمام مجلس قادر على أن يلعب هذا الدور، إذا ما أحسن أعضاؤه قراءة اللحظة التاريخية. لا أحد يدعي أن التجربة مكتملة دون نقصان ، ولا أن الطريق خال من العثرات، فالديمقراطية عملية تراكمية، تبنى بالخطوات، وتُصحح بالأخطاء، وتتقدم بالممارسة، لكن ما جرى في هذه الانتخابات يستحق أن يُسجل كنقطة تحول، ليس لأن النتائج مرضية للجميع، بل لأن القواعد التي أُديرت بها العملية تعكس نضجا سياسيا متزايدا، ورغبة حقيقية في بناء دولة حديثة، تستند إلى القانون، وتحترم المجتمع، وتثق في نفسها. وهنا تحديدا، تتجلى القيمة الحقيقية لهذا الاستحقاق الانتخابي، فاستقرار المشهد الديمقراطي والسياسي لا يظل حبيس القاعات البرلمانية أو صفحات الجرائد، بل ينعكس مباشرة على حياة الناس، وعلى مناخ الاستثمار، وعلى قدرة الاقتصاد على النمو وجذب الثقة، كما ينعكس على صورة الدولة في الخارج، باعتبارها دولة مستقرة، قادرة على إدارة اختلافاتها، وتحويل التنوع السياسي إلى مصدر قوة لا عنصر تهديد، وهذا هو المكسب الأكبر الذي تحققه مصر من هذه الانتخابات، مكسب استراتيجي يتجاوز الأسماء والمقاعد، ليؤسس لمعادلة واضحة، دولة قوية بالديمقراطية، مستقرة بالإرادة، وواثقة في شعبها.