فى الوقت الذي أُنجزت فيه جولة إعادة الانتخابات في دوائر المرحلة الأولى، التي ألغت الهيئة الوطنية للانتخابات نتائجها، إلى جانب دائرة وحيدة في محافظة الفيوم – دائرة أطسا – جرت بها إعادة بموجب نتائج المرحلة السابقة، ولم تلغ نتائجها من المحكمة الإدارية العليا، والتي كانت قد سبق لها أن أبطلت نتائج 30 دائرة أخرى، يقف المشهد السياسي الآن أمام محطة انتظار جديدة. الهيئة الوطنية للانتخابات، بصفتها الجهة المسئولة عن إدارة العملية الانتخابية وضمان سلامتها، ينتظر منها أن تعلن موعدًا جديدًا لإجراء الانتخابات في الدوائر التي شملها الإلغاء، خصوصًا في ظل وجود عدد ليس بالقليل من الطعون على المرحلة الثانية، وإن كان العدد هذه المرة أقل بكثير مما كان في المرحلة الأولى. ومع أن البلاد أنهت توًا جولة إعادة ساخنة، وتعرف الجميع على نتائجها، فإن حالة الترقب لم تتراجع، بل ربما ازدادت حدة، مع عودة السؤال الكبير إلى الواجهة: كم ستكلفنا هذه العملية مرة أخرى؟ ومن يتحمل التكلفة المالية والسياسية لهذا الاستحقاق؟ فالمشهد الانتخابي الحالي لم يكن مشهدًا هادئًا ولا تقليديًا.. على العكس، هو واحد من أكثر المشاهد صخبًا وتعقيدًا خلال عقود طويلة، شهد منافسات محتدمة، نتائج متقلبة، طعون بالجملة، وأجواء سياسية لا تهدأ.. وفي ظل هذه الضوضاء السياسية الملتهبة، يخرج سؤال التكلفة ليحتل موقعه الطبيعي في الصف الأول. التكلفة المالية للانتخابات نبدأ بأول مشهد، التكلفة المالية وهى وحدها كافية لإثارة القلق، فإعادة الانتخابات تعني – ببساطة – إعادة تجهيز كل ما تم تجهيزه من جديد: طباعة أوراق اقتراع جديدة، تجهيز اللجان، تشغيل الموظفين الإداريين، مكافآت القضاة المشرفين، نفقات النقل والتأمين، وكل ما يتصل بالبنية اللوجستية التي لا تتحرك إلا بأرقام كبيرة.. الأمر ليس «صندوقًا وكشك تصويت»، بل منظومة كاملة تتحرك على مستوى الجمهورية، وماكينة ضخمة لا تعمل إلا عبر سلسلة طويلة من النفقات. التكلفة السياسية والمجتمعية المشهد الثاني يتعلق بالتكلفة السياسية، الإعادة في حد ذاتها تعني أن هناك خللًا ما حدث في المرة الأولى، يستوجب إعادة الضبط للصورة لإعادة الأمور إلى نصابها، وبغض النظر عن أسبابه، فإن كثرة الإلغاءات تخلق بطبيعتها تساؤلًا حول جودة الإجراءات الأولى، وحول مدى نقاء التمثيل التشريعي المتوقع عند اكتمال المجلس. ثم تأتي التكلفة المجتمعية في المنتصف، لا هي تكلفة مالية صريحة، ولا سياسية مباشرة، لكنها ملموسة وقوية، فالمجتمع نفسه يعيش حالة استقطاب انتخابي لا تنتهي، ودوائر كثيرة تعيد حملاتها من الصفر، ومرشحون يعودون إلى الشارع مجددًا بلا توقف.. أسابيع وأشهر من الدعاية واللافتات، والمكاتب الانتخابية، والوعود، والتجمعات، ثم يعود كل شيء إلى نقطة البداية، كأن الجولة الأولى لم تكن أصلًا.. وهذا بحد ذاته كان كافياً للإجهاز على هذا الاستحقاق، لولا عوامل أخرى ساعدت على استعادة الثقة لدى الناخبين، كان أهمها التوجيه الرئاسى من القيادة السياسية ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسى، بإعلان بيانه الشهير الذى أعرب فيه عن انزعاجه من بعض التجاوزات والخروقات، ودعا الهيئة الوطنية للانتخابات للتدقيق في نتائج الانتخابات حتى لو تم إلغاؤها بالكامل، وهو ما كان المفتاح السحري لاستعادة الدفة مرة أخرى، للتأكيد على رغبة الدولة في وجود تمثيل حقيقي للمواطنين داخل البرلمان، وأنه لا يوجد لديها حسابات خاصة بالمرشحين. أما المرشحون فتكلفتهم من نوع آخر، تكلفة مباشرة تضرب جيوبهم هذه المرة: مواد دعائية جديدة، طباعة جديدة، جولات انتخابية جديدة، دعم لوجستي جديد، وخطاب جديد يعيدون فيه تبرير ما حدث ويطلبون من الناس فرصة ثانية وثالثة.. والسؤال الذي يهمس به الشارع الآن: هل يستطيع كل المرشحين تحمل هذه الإعادة؟ أم ستُقصي الإعادة غير القادرين ماليًا قبل أن تبدأ المنافسة الحقيقية؟ إعادة الثقة للناخب الإعادة لا تعني فقط إعادة صناديق وناخبين وموظفين، الإعادة تعني إعادة الثقة للناخب.. ومع انتهاء جولة الإعادة الحالية يقف الجميع الآن أمام مرحلة جديدة تمامًا، تثبت أن الإعادة لم تكن علامة فوضى، بل خطوة نحو ضبط العملية الانتخابية، وهو ما يتطلب من القوى السياسية أن تدرك أن المشهد لم يعد يحتمل الحملات التقليدية، وأن الرأي العام بات يقرأ كل التفاصيل ويفسر كل الإشارات. هذا هو الجانب الإيجابي الذي لا يمكن تجاهله، وبرغم ما شهدته العملية الانتخابية من ارتباك، فإن التعامل مع الخروقات كان هذه المرة واضحًا وحاسمًا.. الهيئة الوطنية للانتخابات لم تُخفِ شيئًا، ولم تتردد في اتخاذ قرارات قوية بإلغاء الدوائر التي ثبت وجود مخالفات مؤثرة فيها، وهو ما جعل الشارع يشعر بأن هناك جهة تراجع وتحاسب وتتحرك، لا جهة تترك الأمور تمضي كما جاءت.. ومع نهاية جولة الإعادة في الدوائر التي عادت إلى السباق مرة أخرى، بدا وكأن العملية الانتخابية تعيد ترتيب أوراقها من جديد، الشارع ينتظر إعلان النتائج الرسمية لهذه الإعادات، وفي الوقت نفسه يترقب أن تُحدد الهيئة الوطنية للانتخابات موعدًا جديدًا لإعادة الانتخابات في الدوائر التي أبطلتها «الإدارية العليا» بالكامل. وتأتي هذه التطورات في ظل استمرار الطعون على نتائج المرحلة الثانية، وقد تحمل الأيام المقبلة جولات جديدة من إعادة النظر والتدقيق والمراجعات، في مشهد انتخابي لم يشهد هذه الدرجة من السخونة منذ سنوات طويلة. عملية انتخابية صلبة الحقيقة الأهم في هذا التشابك بكل ما فيه من قرارات إلغاء وإعادات، وطعون، وتصحيحات، فإنه يرسل رسالة واحدة: وهي أن المشهد الانتخابي في مصر لم يعد يترك لتقديرات اللحظة، وأن كل خطوة باتت تفحص، وأن الثقة التي يريدها الناس في المؤسسة التشريعية المقبلة لن تبنى إلا بوجود عملية انتخابية صلبة، لا ترتجف أمام الخلل، ولا تتردد في التصحيح، وربما تكون التكلفة السياسية لهذه الإعادات كبيرة، وربما ينعكس ذلك على ثقة البعض في العملية ذاتها، لكن في المقابل فإن الإصرار على التصحيح يعد محاولة لاستعادة الثقة نفسها، وإثبات أن النظام الانتخابي قادر على حماية نفسه، وأن البرلمان القادم لن يبنى على نتائج مطعون في نزاهتها من اليوم الأول. المحللون والمتابعون لهذا المشهد أكدوا أن إعادة الانتخابات في الدوائر الملغاة خطوة أساسية لاستعادة ثقة الناخب والمواطن، مهما كانت التكلفة. من جهته قال عصام شيحة، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان ورئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، إنه برغم الانتقادات التي وجهت إلى الهيئة الوطنية للانتخابات، فإن قراراتها، إلى جانب أحكام المحكمة الإدارية العليا، وما أحيل بعدها إلى محكمة النقض لاحقًا، صبت جميعها في مصلحة العملية الانتخابية، وأعادت قدرًا من الانضباط للمشهد، وللمرة الأولى باتت الانتخابات تعبر عن من يشارك فيها وليس عن من يجريها كما كان يحدث سابقاً. وأوضح شيحة، أن القاعدة المستقرة في أحكام النقض تؤكد أن الانتخابات التي تفتقد الحيدة والنزاهة تُبطَل، وهو ما يعكس تغييرًا مهمًا في الثقافة السياسية، بموجب هذه الإجراءات والقرارات، وقديما لم تكن هناك أمور تسير على عكس ما تراه الدولة. وأضاف: نحن الآن مع وجود مساحة للناخبين كي يوثقوا المخالفات، وجاءت طريقة التعامل هذه المرة على ثلاثة مراحل بداية من القيادة السياسية ممثلة في الرئيس الذي فتح الباب ببيانه أمام الهيئة للتعامل بحزم، بعدما أكد على أن الدولة تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين، ثم جاءت قرارات الهيئة الوطنية لتؤكد عدم القبول بالتجاوزات، ومن ورائها قرارات الإلغاء الخاصة بالمحكمة الإدارية، لتعيد هذه العوامل مكتملة ضبط الصورة .
عصام شيحة: الثقة إذا فُقدت يصعب استعادتها والبرلمان المقبل تنتظره مهام جسيمة تتطلب شرعية كاملة
ولفت شيحة إلى أنه من الضروري أن يأتي يوم تتحلى فيه مراكز الدراسات بالإنصاف، فتفصل منهجيًا بين ما كان يجري قبل تدخل رئيس الجمهورية وما بعده، فقد شهدت مصر منذ انتهاء انتخابات عام 1924 أزمة ممتدة في نزاهة الاقتراع، رغم كون تلك الانتخابات من أنزه الاستحقاقات، إذ خسر فيها يحيى باشا إبراهيم، وكان رئيس الوزراء ووزير الداخلية والمشرف على الانتخابات أمام سيد مرعي والد أحمد بك مرعي، ومنذ هذه الانتخابات لم تجر في مصر انتخابات دون تدخل الدولة، وهو ما يعكس أن الخلل التاريخي لم يكن سياسيًا فقط، بل كان ضمن منظومة. إرادة سياسية حقيقية للتغيير ورغم أن الانتخابات المصرية ارتبطت تاريخيًا بالعنف والمال السياسي، فإن ما جرى هذه المرة أفرز ميزتين لافتتين: أولاهما تدوينة رئيس الجمهورية بوقف التجاوزات، وهو ما كشف عن إرادة سياسية حقيقية للتغيير في دولة مركزية ووقوفها على مسافة واحدة من كافة المرشحيين بما يسهِم في قبول النتائج وتهدئة الساحة. وشدد شيحة على أنه تبقى المشكلة الأخطر متمثلة في إساءة استخدام المال السياسي وشراء الأصوات، إلى جانب ما يطرأ داخل اللجان من خلل سببه الهيئة المعاونة للقضاة المشرفين على الانتخابات، حيث ترتبط بعض العناصر بعلاقات مع المرشحين، وتتولى تجهيز القوائم وإرسالها لمن دفع المال، وهي نقاط تستدعي مراجعة دقيقة، ومن المهم ألّا يكون المشرفون على الانتخابات من أبناء الدائرة نفسها منعًا لتضارب المصالح. وأوضح أن المرحلة الثانية من الانتخابات كانت أفضل نسبيًا من الأولى، لكنها لم تصل إلى الكمال، وخلالها فقدت الأحزاب عددًا من مقاعدها، وتراجعت قوى سياسية عديدة خطوات إلى الخلف، وهو ما يشير إلى مدى تغير اتجاهات الرأي العام. وقال شيحة: نحن الآن أمام موقف صعب وثمنه قاسٍ على جميع الأطراف، إلا أن التكلفة التي تم دفعها بفضل تدخل الرئيس وتحرك الهيئة الوطنية وصدور الأحكام القضائية السريعة تظل أقل بكثير من تكلفة تراكم الخلل على المدى البعيد، سياسيًا ومجتمعيًا.. فالثقة إذا فُقدت يصعب استعادتها، والبرلمان المقبل تنتظره مهام جسيمة تتطلب شرعية كاملة غير منقوصة.
محمد ممدوح: كنت آمل أن يعاقب كل من ثبت تورطه فى مخالفات انتخابية أو محاولات لإفساد الحياة السياسية
ويرى محمد ممدوح – عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان ورئيس مجلس الشباب المصري، أن إعادة الانتخابات تمثل مكسبًا خالصًا للعملية السياسية يتجاوز أي كلفة مالية أو لوجستية.. ويشير إلى أن العملية الانتخابية السابقة كانت تعاني من فقدان واضح للثقة بسبب ما تردد عن "هندسة مسبقة للانتخابات" ووجود مرشحين يُقال إن الدولة تدعمهم بشكل مباشر، وهو ما انعكس على عزوف ناخبين وإحجام عدد من المرشحين أنفسهم عن خوض السباق. وأكد ممدوح، أن الدولة حين قررت إعادة الانتخابات بالكامل فقد وجهت رسالة غير مسبوقة مفادها أن هناك اعترافًا مؤسسيًا بوجود أخطاء، وأنه لأول مرة لم تلجأ المؤسسات إلى الإنكار أو التبرير، بل تحملت مسئولية التصحيح.. مضيفا أن بيان رئيس الجمهورية كان نقطة تحول، إذ منح غطاءً سياسيًا كاملًا لعملية استعادة الثقة، وأعاد التذكير بأن الهيئة الوطنية للانتخابات هيئة مستقلة قادرة على اتخاذ أي قرار يضمن النزاهة.. هذا الموقف شجع الهيئة على إصدار سلسلة من القرارات بإعادة الانتخابات في عدد كبير من الدوائر، ثم جاءت أحكام المحكمة الإدارية العليا لتكمّل هذا المسار. ويشير إلى أن الخطأ وارد في أي عملية ديمقراطية، لكن العيب الحقيقي يكمن في المكابرة وعدم الاعتراف. كما أكد أن ما جرى وجه رسالة واضحة للجميع: لو لم تتم إعادة الانتخابات، لكانت المخالفات في المرحلة التالية قد تجاوزت كل الحدود، لأن بعض التجاوزات التي ظهرت قبل التدخل الرسمي كانت – على حد وصفه – أقرب إلى «البجاحة السياسية» و»رعونة في ارتكاب المخالفات».. وبالتالي فإن ما حدث أنقذ العملية السياسية من انزلاق خطير قد يجعل فكرة الانتخابات نفسها محل تشكيك. ويعتبر ممدوح أن هذه اللحظة تشكّل "شهادة ميلاد جديدة" للمسار السياسي في مصر، وأن أي كلفة تدفع في سبيل استعادة ثقة المواطن والمرشح وجميع أطراف العملية السياسية تعد كلفة هينة مقارنة بكلفة اهتزاز الثقة على المدى البعيد. وأضاف: كنت آمل ألا تتحمل الدولة الفاتورة وحدها، وأن يفعل قانون الانتخابات في حق كل من ثبت تورطه في مخالفات أو محاولات لإفساد الحياة السياسية، سواء عبر الاستبعاد أو العقوبات المنصوص عليها، لأن الإفلات من المسئولية يشجع على تكرار التجاوزات.. واختتم بأن الدولة أثبتت من خلال هذا المسار أنها قادرة على تطبيق مبدأ العدالة الناجزة، وأن التصحيح الفوري والتعامل الحاسم مع الانحرافات أفضل بكثير من ترك الأخطاء تتراكم حتى تطيح بالثقة العامة. وفي المحصلة، فإن الإرادة السياسية الواضحة، وممارسة الهيئة الوطنية لاختصاصاتها بصورة أكثر صرامة، تمثلان الركيزة الأساسية لضبط مسار أي استحقاق انتخابي قادم. 1684