إذا كان مفهوم الشراكة، بات بديلا للتحالفات التقليدية، في إطار حالة دولية عامة، باتت فيها المصالح متعارضة، حتى بين أقرب الحلفاء، وصارت جملة "التطابق في وجهات النظر" دربا من الخيال، فالسؤال الذي يثور في اللحظة الراهنة، يدور حول بديل مفهوم الصراع، خاصة وأن الحاجة باتت ملحة للغاية للبحث عن مفهوم جديد، يمكن من خلاله إدارة العلاقة بين الخصوم، بحيث لا تتفاقم الأمور لتصل إلى مرحلة الحرب، سواء في صورتها الساخنة، على غرار الحروب العالمية، أو كانت باردة، على غرار الحقبة التي أعقبتها، وما تخللها من مناوشات شابها قدر من السخونة العسكرية، كادت أن تطيح بقواعد الصراع بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي. والواقع أن العالم، في اللحظة الراهنة، يشهد حالة غير مسبوقة من الاستقطاب، منذ نهاية الحرب الباردة، فروسيا باتت قوى يصعب تجاوزها، والصعود الصيني ملموس، وأوروبا لها ما لها من نفوذ، والولاياتالمتحدة تحتفظ بمكانتها، وإن تراجعت نسبيا، بل أن الحالة الراهنة تجاوزت العلاقة بين الخصوم، نحو خلافات هيكلية باتت تهيمن على العلاقة بين الحلفاء، وهو ما يبدو واضحا في نموذج "المعسكر الغربي" والذي تشتت بين رؤى واشنطن ومخاوف أوروبا، لتتجلى في أبهى صورها في المسألة الأوكرانية، في ظل تماهي أمريكي واضح مع موسكو، ربما لا يلغي الخصومة التاريخية، ولا يخلق شراكة جديدة، وإنما يضع أساسا لنظرية جديدة في العلاقات الدولية، تتراجع فيه حاله الصراع، بينما لا تهبط إلى درجة التنافس، فيبقى العداء، ولكن مشروطا بقبول العدو والتعايش معه. والمفارقة أن المصالح المشتركة بين أطراف المعادلة الدولية، سواء حلفاء أو خصوم هي الحكم في تقدير شكل العلاقة بين الشراكة، أو ما يمكننا تسميته ب"التعايش الاستراتيجي"، وهو ما يعني قبولا للخصوم، دون السعي إلى تدميرهم أو الدخول في مواجهة عسكرية معهم، على اعتبار أن وجودهم يخدم فكرة وجودية لدى الطرف الآخر، حتى وإن غابت المصلحة المباشرة فلو نظرنا إلى النموذج الأمريكي الروسي، نجد أن ثمة خصومة تاريخية، ولكن يبقى انهيار الاتحاد السوفيتي، في أوائل التسعينات من القرن الماضي، سببا رئيسيا في تقوية شوكة أوروبا الغربية، إلى الحد الذي دفعها إلى التعامل مع واشنطن في بعض الأمور، في إطار العلاقات الثنائية، باعتبارها مكلفة بتقديم المزايا السياسية والاقتصادية والأمنية، وبالتالي فبقاء روسيا وانتصارها في أوكرانيا، ولو مرحليا، يعيد لأمريكا قدرا من النفوذ في الغرب الأوروبي، الذي يعاني من مخاوف وجودية، تبدو واضحة في الآونة الأخيرة. وتلك الحالة ربما ليست جديدة على الإطلاق، لكنها وجدت إرهاصاتها قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، عندما حاولت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر إنقاذ موسكو عبر الوساطة بين ميخائيل جورباتشوف، ونظيره الأمريكي رونالد ريجان، في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، رغم كون لندن كانت أحد ألد أعداء السوفيت على مدار عقود، إلا أن المحاولة لم يكتب لها النجاح وانهارت الكتلة الشرقية، فاحتضر معها المفهوم الجديد، وإن لم يمت تماما، فالمشهد الدولي يزخر بأطراف تبقي على خصومها، من أجل مصالحها، ولكن تحت مظلة الحروب والدمار، وهو ما تشهده منطقة الشرق الأوسط، في ظل التوتر الكبير بين إسرائيل وقوى إقليمية أخرى، على غرار إيران، فعلى الرغم لغة التهديد والإدانة والتي وصلت إلى قصف متبادل في الأشهر الماضية، فهي تمثل أحد الفرص التي تستثمرها تل أبيب للترويج بما يلاحقها من تهديدات إقليمية، وبالتالي يشرعن تحركاتها العدوانية خاصة في الإطار الفلسطيني. إلا أن المفهوم الجديد، والذي مازال واقعا في طور التطوير والبناء، لا يعبر عن حالة سلم على غرار "الشراكة"، ولا تغطيه مظلة المواجهة العسكرية المباشرة، ولا تترجمه المصالح بشكلها التقليدية، وإنما يقتصر البعد المصلحي على بقاء الطرف الآخر، بينما ستبقى المناوشات السياسية، والخطابات ذات النزعة العدوانية في بعض الأحيان، ولكنها لا تمنع التواصل المباشر في بعض الحالات في إطار التنسيق، وهو ما يساهم في تحقيق قدر أكبر من الاستقرار. والواقع أن اللجوء إلى تلك الحالة، ليس مجرد خيارا وإنما بات ضرورة، مع دخول العالم في صراعات معقدة، قد تفتح الباب نحو عودة الكوكب إلى حقبة الحروب العالمية، وبالتالي فالبحث عن بديل للصراع يضاهي مفهوم الشراكة كبديل للتحالفات التقليدية، هو بمثابة خطوة ربما مازالت لم تكتمل، ولكن تبقى في طور التطوير في ظل التغييرات الكبيرة في المواقف الدولية، وهو ما يتطلب مرونة من كافة الأطراف التي مازالت لا تقبل مثل هذه الفكرة، خاصة وأن مفهوم الحماية المستوردة من الخارج بات دربا من الخيال في اللحظة الراهنة. وهنا يمكننا القول بأن "التعايش الاستراتيجي" لا يبدو ترفا نظريا، ولا خيارا أخلاقيا تُقبل عليه الدول بإرادتها الحرة، بل صيغة فرضتها تحولات ميزان القوة، وتشابك المصالح، وتآكل القدرة على الحسم، فالعلاقات الدولية باتت محكومة بمنطق تفادي الانهيار أكثر من السعي إلى الانتصار، وبإدارة الخصوم بدل السعي إلى إقصائهم، في عالم تتزايد فيه كلفة المغامرة وتضيق فيه هوامش الخطأ، فالعالم لم يعد يملك رفاهية إسقاط الخصوم، بعدما صار ثمن الصراع أعلى من أي نصر محتمل.