تتصاعد فى السنوات الأخيرة موجة من الجرائم الخطيرة التى يرتكبها أحداث لم يتجاوزوا سن الثامنة عشرة، بعضها جرائم قتل عمد، واغتصاب، وهتك عرض، وسرقة بالإكراه، واعتداءات متوحشة باتت تُنذر بتحوّل خطير فى نمط الجريمة داخل المجتمع المصرى، وبرغم جسامة هذه الجرائم، فإن التعامل القانونى معها لا يزال محكومًا بقانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته، والذى يمنح حماية واسعة للحدث ويمنع تطبيق أغلب العقوبات المشددة عليه حتى عندما تتوافر لديه الأهلية الكاملة للإدراك والتمييز. هذا الواقع صعّد جدلًا تشريعيًا واسعًا حول ضرورة إعادة النظر فى سنّ المسئولية الجنائية الكاملة، وإمكانية تخفيضه بما يضمن تحقيق الردع العام والخاص، مع الحفاظ على الحدود التى رسمها الدستور والاتفاقيات الدولية التى انضمت إليها مصر.
الوضع القانونى الحالى فى مصر ينص قانون الطفل المصرى على أن كل من لم يبلغ 18 عامًا يُعد طفلًا، وتُطبّق عليه عقوبات خاصة مخفّفة مهما بلغت جسامة الجريمة. وتنص المادة 111 من قانون الطفل على الآتى.. "لا يُحكم بالإعدام ولا بالسجن المؤبد ولا بالسجن المشدد على المتهم الذى لم يجاوز سنه الثامنة عشرة سنة ميلادية كاملة وقت ارتكاب الجريمة".
كما تشير المادة 101 إلى مجموعة من التدابير والعقوبات البديلة، منها.. الإيداع فى مؤسسة عقابية مدة لا تزيد على 15 سنة. التسليم لولى الأمر. الاختبار القضائى. الإلزام بواجبات معينة. الإيداع بدور الرعاية. وبالتالى، فإن الحدث -حتى لو ارتكب جريمة قتل عمد أو اغتصاب أو إرهاب- لا يمكن الحكم عليه بالإعدام أو المؤبد أو السجن المشدد (إلا فى حدود ضيقة متعلقة بظرف التشديد)، وتظل العقوبة القصوى المتاحة أمام المحكمة هى السجن لمدة لا تتجاوز 15 عامًا. العقوبات المقررة حاليا فى قانون العقوبات تظهر حجم الفجوة، مثل : هتك العرض بالقوة (مادة 268): السجن المشدد وقد يصل للمؤبد إذا كان المجنى عليه طفلًا لم يبلغ الثامنة عشر، وكان الجانى أحد أصوله أو المتولين تربيته أو ورعايته.
هتك عرض طفل بدون قوة أو تهديد، أو بالتحايل (مادة 269): السجن من 3 حتى 15 سنة، وقد تصل إلى السجن المشدد مدة لا تقل عن 7 سنوات، إذا توافر أحد الظروف المشددة السابق ذكرها. التحرش الجنسى بكافة صوره (بالفعل أو القول أو الإشارة)، سواء كان بطريقة تقليديه أو إلكترونية (مادة 306 مكرر أ، ب): السجن مدة لا تقل عن سنتين وقد تصل إلى السجن الذى لا يقل عن 7 سنوات القتل العمد: الإعدام أو المؤبد أو المشدد. لكن طالما كان الجانى دون 18 عامًا، فإن هذه العقوبات لا تُطبّق بسبب قانون الطفل.
الالتزامات الدولية والأساس الدستورى تنص الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل -فى المادة 37- على ما يلي.. "لا يُحكم بالإعدام ولا بالسجن المؤبد دون إمكانية الإفراج على الجرائم التى يرتكبها أشخاص تقل أعمارهم عن 18 عامًا".
أى أن الاتفاقية تحظر عقوبتى الإعدام والمؤبد على من دون 18 عامًا.
وتنص المادة 80 من الدستور المصرى على أن الطفل هو كل من لم يبلغ 18 عامًا، وأن الدولة تلتزم بحمايته وتوفير معاملة خاصة له فى كل الإجراءات.
ومن ثمّ جاء قانون الطفل متوافقًا مع هذه الالتزامات الدولية والدستورية.
الإضافة الجوهرية: الاتفاقية تحظر الإعدام والمؤبد… ولكنها لا تمنع تعديل سن المسئولية
وهنا تأتى النقطة التى يجهلها الكثيرون: الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل نفسها لا تفرض سنًّا محددًا للرشد الجنائي، بل تنص على حظر الإعدام والمؤبد "إلا إذا بلغ الشخص سنّ الرشد أو المسئولية الجنائية الكاملة". وبالتالي فإن الاتفاقية لا تمنع الدول -ومنها مصر- من: إعادة تحديد سن المسئولية الجنائية الكاملة. النزول بها إذا اقتضت الظروف الاجتماعية والأمنية. اعتبار شخص أقل من 18 عامًا مسئولًا مسئولية كاملة فى الجرائم الكبرى.
ولذلك فإن الالتزام الدولى لا يشكّل مانعًا أمام تعديل التشريع المحلى، بل يمنع فقط توقيع الإعدام والمؤبد على من تقرر الدولة أنه "طفل".
لماذا أصبح تعديل السن ضرورة تشريعية؟
1- ارتفاع معدلات الجرائم الخطيرة بين الأحداث الواقع الأمنى يشهد جرائم قتل واغتصاب وهتك عرض وسرقة بالإكراه يرتكبها قُصر يدركون تمام الإدراك خطورة ما يفعلون. 2- استغلال بعض العصابات للأطفال العقوبات المخفّفة تشجع عصابات الجريمة المنظمة على استخدام القصر فى تنفيذ جرائم كبرى. 3- الفجوة الهائلة بين جسامة الجريمة والعقوبة طفل يرتكب قتلًا عمدًا مع سبق الإصرار، وعقوبته القصوى 15 سنة فقط.
4- نضج إدراكى أكبر لدى جيل اليوم الدراسات تُثبت أن الجيل الحالى يمتلك وعيًا مبكرًا ومعرفة تقنية تفوق أجيالًا سابقة. تجارب عربية وأوروبية نماذج عربية الإمارات: المسئولية الكاملة تبدأ من 16 عامًا فى بعض الجرائم. المغرب: يُعامل الحدث فوق 16 عامًا معاملة قريبة من البالغ فى الجرائم الجسيمة. الأردن: تشديد عقوبات الأحداث فى الجرائم الخطيرة وتقليل مساحة التدابير البديلة.
نماذج أوروبية بريطانيا: سن المسئولية الجنائية 10 سنوات فقط. هولندا: يمكن محاكمة الطفل من 16–17 عامًا بقانون البالغين فى الجرائم الكبرى. فرنسا: يسمح القانون بمحاكمة الطفل كبالغ إذا توافر "التمييز الكامل والإدراك". هذه التجارب تُثبت أن العالم اتجه إلى المواءمة بين حماية الطفل وحماية المجتمع. المقترحات التشريعية الضرورية خفض سن المسئولية الجنائية الكاملة إلى 15 أو 16 عامًا مع بقاء تدابير الرعاية للجرائم البسيطة. التفرقة بين الجرائم الخطيرة والجرائم الصغيرة القتل – الاغتصاب – الإرهاب – الخطف – هتك العرض بالقوة يجب أن تخضع لقانون العقوبات وليس لقانون الطفل. السماح بتطبيق السجن المشدد على من هم فوق 16 عامًا مع استمرار حظر الإعدام والمؤبد التزامًا بالاتفاقية. إنشاء محاكم متخصصة للأحداث الخطرين تضم قضاة متخصصين فى علم النفس الجنائي. تعديل قانون الطفل لتحديد معيار "الإدراك والتمييز" بحيث يمكن للقاضى أن يقرر معاملة الحدث كبالغ إذا ثبت إدراكه الكامل لجرمه.
خاتمة: حماية المجتمع لا تقل أهمية عن حماية الطفل.. لم يعد مقبولًا أن يواجه المجتمع جرائم قتل واغتصاب يرتكبها قُصر بلا رادع حقيقي. ولم يعد منطقيًا أن نترك فجوة تشريعية تُقلّص العقوبة مهما بلغت جسامة الفعل لمجرد أن الجانى لم يتجاوز 18 عامًا. تعديل سن المسئولية الجنائية لم يعد رفاهية .. بل ضرورة وطنية وتشريعية وأمنية، وهو تعديل لا يمسّ حقوق الطفل، ولا يخالف الدستور، ولا يصطدم بالاتفاقيات الدولية، بل يحقق توازنًا أكثر عدلًا بين حماية القاصر وحماية المجتمع.