في زمن العولمة وتسارع تدفّق الأخبار، لم تعد المآسي الإنسانية تُقدَّم بوصفها تجارب نابضة بالحياة، بل تُختزل في جداول رقمية جافة تُفرغ الحدث من معناه. وفي ظل هذا التبسيط المفرط، تحوّل نقل المأساة الفلسطينية إلى ممارسة إعلامية تُجرِّد الضحايا من قصصهم، وتحوّل معاناتهم إلى مجرد إحصاءات. وهكذا يصبح ما يتجاوز سبعين ألف شهيد في غزة رقمًا يتداوله الخطاب الإعلامي بلا سياق، بينما تُغفل خلفه أحلام انطفأت وسِيَر لم تكتمل وأصوات حُجبت تحت ركام الحرب. وفي مواجهة خطابٍ يختزل الإنسان في رقم، يصبح الفن مساحة لاستعادة الحكايات التي لم تُروَ، ومساءلة المنظومات التي أسهمت في تطبيع المأساة. فهو يُحوّل الأرقام إلى صور، ويصوغ المشاعر والحكايات في أشكال فنية واقعية تُعيد للحدث حضوره الإنساني، وتعمل على لَمّ الشقوق وإعادة بناء السردية كما لم تُقدّمها وسائل الإعلام. من هذا المنطلق يمكن النظر إلى الفيلم التونسي «صوت هند رجب» للمخرجة كوثر بن عمار، وهو فيلم مرشّح لتمثيل تونس في جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وقد عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في عرضه الإفريقي الأول. يصوّر الفيلم واحدة من تلك القصص التي قُتِلت في طفولتها وانتهى معها حلمُ حياة لم تُمنح فرصة للنضج؛ قصة استشهاد الطفلة الفلسطينية هند رجب، وكأن الفيلم محاولة لتذكير العالم بأن الفلسطينيين بشر لهم مشاعر وأحزان حين يفقدون أحبّتهم، وأن المأساة باتت من البديهيات التي لا تستطيع حتى الآلة الإعلامية الصهيونية تكذيبها. اعتمد الفيلم في بنائه الدرامي على مسار أساسي هو التسجيلات الصوتية الحقيقية لآخر مكالمات أجرتها منظمة الهلال الأحمر الفلسطينية مع الطفلة هند قبل ساعات من استشهادها. إذ يمزج العمل بين التسجيلات الأصلية وإعادة التمثيل، مستعيدًا تفاصيل تلك المكالمات التي أجرتها هند مع المسعفين بعد أن قُتل عمها وعمّتها وثلاثة من أبناء عمومتها في قصف استهدف السيارة التي كانت تقلّهم. منذ اللحظة الأولى تأخذنا المخرجة كوثر بن عمار إلى قلب الحدث مباشرة. نتابع غرفة عمليات الهلال الأحمر، حيث تُدار عمليات إنقاذ الضحايا وتتوالى الاتصالات في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ضحايا العدوان، في خلية عمل نابضة بالحركة لا تهدأ. يتلقى أحد العاملين، عمر، مكالمة لإنقاذ أسرة في حي «تل الهوى»، لكنه يُصدم عندما يكتشف أنّ الأسرة بأكملها قد استُشهدت ولم يتبقّ سوى طفلة صغيرة. يحاول عمر وزميلته رنا سريعًا تهدئة الطفلة، التي تخاطبهما بصوت مرتعش طالبةً إنقاذها قبل أن تصبح فريسة لرصاص جيش الاحتلال. ومع ذلك، لم يتمكنوا من الوصول إليها بعد أن تعرّضت سيارة الإسعاف للقصف. هنا يبرز الصوت الحقيقي لهند رجب كعنصر محوري ومُحرّك للأحداث، ومنه تبدأ محاولات إنقاذها قبل أن تغتالها يد العدوان الآثمة. بهذه الطريقة يصبح صوت هند البطل الأساسي للفيلم؛ فهو ليس عنصرًا فنيًا فقط، بل أداة للبناء الدرامي ونقطة انطلاق الصراع. ومن خلال صياغة تجمع بين الدرامية والوثائقية، صاغت بن عمار شريطًا سينمائيًا أشبه بمرثية جمالية لروح هند، تستعيد من خلالها المأساة وتفتح جرحًا لم يندمل. لم تركّز بن عمار على محاولة الإنقاذ فحسب، بل جعلتها نقطة محورية لصراع بين شخصيتي «عمر» و«مهدي». يرى عمر ضرورة إرسال سيارة الإسعاف فورًا لإنقاذ الطفلة دون انتظار الضوء الأخضر من الصليب الأحمر أو جيش الاحتلال، معتبرًا أن المسعفين يمتلكون القدرة والمهارة لتنفيذ المهمة بأمان. في المقابل، يرى مهدي ضرورة الحصول على التصريح قبل الدخول إلى المناطق المستهدفة، حتى لا تتعرض حياة المسعفين للخطر. بهذا تقدّم المخرجة مسارًا دراميًا إضافيًا يوازن بين المخاطرة من أجل إنقاذ الحياة والتحفّظ والانصياع للقيود. يستمر هذا الصراع ليكون نقطة التوتر الأساسي في العمل، لكن النهاية تأتي مأساوية: فعلى الرغم من الحصول على الضوء الأخضر، يُدمّر الاحتلال سيارة الإسعاف ويُقتلَت الطفلة بدم بارد، في دلالة واضحة على خداع الرواية الصهيونية الأمريكية بشأن «الممرات الآمنة». فالحقيقة على الأرض تؤكد أنه لا وجود لمنافذ حقيقية لإنقاذ الضحايا، في انعكاس صارخ لقسوة الواقع الإنساني في ظل الحرب. اختارت بن عمار غرفة عمليات الهلال الأحمر الفلسطيني مسرحًا لسرد الحكاية؛ مكان صغير لكنه قادر عبر أجهزته على الوصول لكل بؤر الخطر. وكأننا أمام حالة انغلاق مكاني ننطلق منها نحو مأساة أوسع، مكان ضيّق لكنه مفتوح على الواقع كله بفضل القدرة على نقل الصوت الحقيقي للحادث. فنيًا، استخدمت المخرجة كادرات ضيقة في أغلب الوقت، ساعيةً لإدخال المتلقي في عمق الحدث وجعله جزءًا منه. كما صبغت لقطاتها بألوان داكنة تعبّر عن مرارة الأوضاع. أمّا صور هند رجب فقد جعلتها جزءًا أساسيًا من الحكاية؛ إذ تظهر الطفلة في صور مختلفة ببراءة مكسورة، حزينة وقلقة وحائرة، وكأنها ليست هند فحسب، بل رمز للبراءة التي تغتالها آلة الحرب—هي غزة المدمرة والمنكوبة تحت وطأة الانتهاكات المستمرة. وقد أسهمت الموسيقى التصويرية في تعميق التوتر الدرامي دون توجيه المشاهد نحو شخصية محددة، مما منح العمل حرية الانغماس في المأساة الإنسانية بتوازن بالغ. ولأن معاناة الفلسطيني لا يستطيع تجسيدها إلا فلسطيني، اختارت بن عمار ممثلين من أصول فلسطينية، ما أضفى على الأداء واقعية واتساقًا صادقًا مع الحدث. وتمكّن الممثلون من نقل التجربة بصدق شديد جعل المتلقي يشعر وكأنه داخل غرفة العمليات بالفعل. برز من الأداء التمثيلي سجي الكيلاني، التي نجحت بحساسية عالية في التنقل بين الانفعالات، فكانت انفعالاتها محسوبة وهادئة ومنسجمة مع إيقاع الحدث دون افتعال. كما تألقت كلارا خوري في أداء متعدد الأبعاد، إذ مزجت بين العاطفة والصوت والإيماءات، واعتمدت على تعبيرات وجه دقيقة تتلون بسلاسة بين مشاعر متباينة. وجاء أداء معتز ملحيس وعامر حليحل مركّبًا، إذ أظهر كل منهما قدرة على الانتقال بين الانفعالات بأسلوبه الخاص، ما أضاف طبقة من التعقيد والواقعية إلى الصراع الدرامي. في النهاية، قدّمت كوثر بن عمار سردية تمثل التمرد والاحتجاج، ووثّقت المأساة داخل فضاء مكاني ضيق هو غرفة العمليات، فعمّقت التجربة الإنسانية لفريق الإسعاف الذي يجد نفسه محاصرًا بالمخاطر وممزقًا بين مشاعر إنسانية متضاربة. وصوّرت واحدة من أبشع الصور الإنسانية أمام آلة حرب لا ترحم، حربٍ لا تعترف بأي اعتبارات إنسانية؛ فلا الأطفال ولا النساء ولا الكهول ينجون من بطشها. وهكذا قدّم الفيلم تجربة سينمائية أشبه بمرثية فنية تحكي المأساة عبر جمالية بصرية ودرامية، لكنها جمالية موجعة تؤلم المشاعر في كل لحظة.